تأليف القلوب

تأليف القلوب
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

إن مما يُؤسَف له أن العالم الإسلامي في العصور الأخيرة أصبح يضمّ دولًا ذات مجتمعات متغايرة ومنفصلة، فقدت شعورها بالوحدة والتضامن، وتتلوّى وتئنّ تحت وطأة الاستبداد والظلم، ففي تلك البلاد يجتذب الطغاةُ الذين يستولون على السلطة البعضَ إليهم بشيءٍ من الامتيازات التي يوفرونها لهم، بينما يُهمشون الفئات التي يرونها خصومًا وأعداءً لهم، وينثرون بسياساتهم القذرة بذورَ الفتنة بين الناس، فيؤججون الأحقاد والضغائن، ويوقعون الخصومة بين الناس، ويمزّقون المجتمع، ويقسمونه، وينشرون فيه الاستقطاب عبر تكوين جبهاتٍ مختلِفة.

ولأن كلّ المستبدّين مصابون بداء العظَمَة والكِبر فإنهم ينزعجون من كلّ شيءٍ، ويستنبطون معنى معيّنًا من كل حدث وفقًا لهواهم، ويقلقون ويخافون من أشياء تافهة جدًّا، ولهذا السبب يرتكبون مظالم لا يمكن تصوّرها؛ فيرون كلّ من قد يضرّ بسلطانهم عدوًّا لهم، فيتسلّطون عليهم لإرهابهم وتحييدهم.. إنهم لا يستسيغون أي نجاح لم يتحقق على أيديهم، ولا يتقبلون أيَّ شيءٍ جميلٍ لا يُنسَب إليهم.

إن المُدْرَجين في قائمة أعداء المستبدّين لن يسلموا من هجومهم وعدوانهم مهما يفعلون من أعمال خيرة وجميلة خدمةً لبلدهم وللإنسانية، إن هؤلاء المستبدين خبيرون في التقليل من شأن أفضل الخدمات وأنقاها، فهم لا يتوانون ولو للحظة عن تشويه حتى أفضل وأكثر الأعمال صحَّة ونفعًا، والتي لا يمكن أن يعترض عليها العقل السليم والحس السليم والقلب السليم.

إذا ما نُثرت بذور الفُرقَة مرةً بين أفراد المجتمع وقُسِّم إلى جبهات مختلفة تقاتل الناس فيما بينهم لأتفه الأسباب؛ فيصيرُ كلّ فردٍ يرى الآخر خصمًا له، ويحاول تكبيله وتقييد حركته، حتى إن من يتوجّهون إلى نفس القبلة، ويتقاسمون نفس المشاعر والأفكار يعيشون في صراعٍ لمجرّد اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وأذواقهم.. وتحُلُّ المشاعر الشيطانية مثل الحسد والغيرة والعداوة محلّ المشاعر السامية مثل الأخوة والتعاون والتضامن، وهذا يحول دون ورود التوفيق الإلهي، أي إن الله تعالى يسحب يدَ عنايته عمن لا يحبون بعضهم، ويتصارعون فيما بينهم.

ولما كان عصرنا هو عصر الأنانية، وكان كل شيء في هذا العصر يُنسج حول المنافع الدنيوية، كان المناخ ملائمًا جدًّا لوقوع مثل هذه الصراعات والنزاعات، ولهذا السبب فإن شرارةً صغيرةً تصير قويةً بما يكفي لإثارة الصراعات.. والعامل الأكبر في هذا، هو تحول الأنانيات ليس إلى مجرد جدار، بل إلى جبال من الضغائن والأحقاد، ولن تكون إزالته سهلة، بل سيحتاج إلى سنوات عديدة.. والحاصل أن واجب المسلمين الذين لديهم وعي بالمسؤولية في عصر يسيطر فيه الطغاة، ويُمارس فيه الظلم والقمع بمختلف أنواعه، وبلغ فيه الانقسام والصراع الذروة؛ إنما هو القضاء بدايةً على جذور هذه الانقسامات، وتضميد الجراح التي أحدثتها مثل هذه الاختلافات، وترميم مظاهر الخراب والتصدعات التي حدثت في بنية المجتمع، والبحث عن سبل تأليف القلوب من جديد.

وفي تلك الأثناء قد ينثر البعض الأفكارَ الملوثة في كل اتجاه، وينشرون الروائحَ الكريهة، ويُشوّشون الأذهان، ويحاولون عرقلة الخير والإحسان، غير أنه يجب على المؤمن ألا يشتغل في مثل هذه الأشياء، وألا يقابل السيئة بمثلها، حسبما يفرضه إيمانه عليه، ويجب عليه أن يبتعد عن كل حال لا يليق ولا يجدر بالموقف الذي يمثله، وبحسب التعبير القرآني: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34).. ومهما يُفعل، ويُرتكبُ من شرور؛ فيجب عليه عدم التنازل عن السلوكيات والتصرفات الجديرة بالمسلم، وأن يتبنى مبدأ فعل الخير للجميع، وإذا ما وضع الأشرار سهامًا مسمومة في أقواسهم ورموكم بها، فسارعوا أنتم بتثبيت ورود في مقدمات سهامكم وارموهم بها، واكشفوا بموقفكم هذا عن مشاعركم وأفكاركم الإسلامية والإنسانية، فبهذه الصورة فحسب تستطيعون عرقلةَ التخريبات المرعبة التي تُمارس، وإصلاحَ القيم المهدمة.

يقع على عاتق الذين يركزون على مهمة تحبيبُ الإنسانية جمعاء في مجموعة القيم السماوية أشياء كثيرة من أجل القضاء على الفتنة والفساد، وعلى الاختلاف والفرقة، وتأسيس روح الوحدة والتضامن بين أفراد المجتمع.. فإن انجرفوا هم أيضًا في التيار الموجود، وانهزموا للأحقاد والبغضاء، فسوف تستمر الاستقطابات والصراعات والنزاعات وتتفاقم، وهو ما لا يحبه الله تعالى؛ لأن من أعظم نعم الله وألطافه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه: ﴿أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِم﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/63).

كما يؤكّد القرآن الكريم على أن الرابطة بين المؤمنين هي رابطة الأخوة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (سورة الْحُجُرَاتِ: 49/10)، ويشبه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين ببنيانٍ مرصوصٍ يشدُّ بعضه بعضًا[1]، فلا يستطيع ولو حتى زلزال بقوّة عشر درجات من مقياس “ريختر” أن يدمّر مجتمعًا هكذا، بل ولا أن يُحدث فيه صدعًا.

ربما انتهك البعض حقوق هذه الأخوة، فبينما كان يُنتظر منهم أن يكونوا مؤلّفين للقلوب ومصلحين فعلوا العكس تمامًا؛ فقسموا المجتمع وفرّقوه.. والمنوط بنا في هذا الأمر، هو ألا نضخّم المشكلات القائمة وألا نزيدها عن طريق مقابلتها بالمثل، فبدلًا من المقابلة بالمثل؛ هناك اتباع ما أوصى به القرآن، والسعي إلى دفع الشر بالخير: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34)، وبالتالي تقليل المشكلات القائمة إلى أدنى حدٍّ ممكن، والقضاء عليها إن أمكن.

إن للخير قوةً ساحرة تجعله كالجِرم يجذب الناس إليه، ويشدّهم نحوه، ويطوفون من حوله.. إنه مصدرُ قوّةٍ خفيّ من يدخل في فلكه مرّة لا يستطيع التخلّص منه مرّة أخرى، يمكنكم أن تدفعوا الشرور بالخيرات، وعندئذ سرعان ما يتحوّل الأعداء إلى أصدقاء مخلصين حميمين، وذات يومٍ سيأتيكم ظالموكم وقامعوكم منكّسِي رؤوسهم خجلًا وحياءً، فيدنون منكم في حسرةٍ وندامةٍ ويعتذرون إليكم، حينها تفعلون ما تفرضه عليكم شاكلتكم، ولا تتركون الخير والإحسان، وتقولون ما قاله سيدنا يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/92).. لا بدّ من ترك هذا للزمن، إننا إن نتخذ الخير والإحسان شعارًا، ونتحرّكْ في طريق التوحيد والإصلاح يجعل الله التوفيق حليفنا، ويُمطرنا بأنعامه السماوية، لا شكّ في ذلك ولا ريب.

قد يكون هناك أشخاص فاسدون وضيعون لدرجة أنهم لن يستطيعوا معرفة قدر وقيمة الإحسان، ولكن الإنسان بالمعنى العام عبد للإحسان وللخير، ومن هذه الزاوية علينا أن نكون محسنين مع كل إنسان وفقًا لشخصيته ووضعه والمكان الذي يقف فيه والمنصب الذي يشغله، وحتى وإن لم يصبح من أحسنتم إليهم أصدقاء مخلصين لكم، فإنكم بإحسانكم هذا قد كسرتم غيظهم وحقدهم وبغضهم على الأقل، وقللتم بهذه الطريقة من المشكلات التي ستواجهكم، وأمَّنتم المسار الذي ستسلكونه.. أما إن رميتم أحدهم بحجر، وأسأتم القول بحق آخر، وكتبتم ألفاظًا قذرةً بشأن ثالث فعلوا هم أيضًا ما تفرضه عليهم شخصيتهم.

الحق أننا نمرّ بمرحلةٍ صعبةٍ جدًّا، لهذا السبب يقع على عاتقنا مسؤولية صعبة؛ يقع علينا أن نغسل الأوساخ بدموع العين، وأن ندفع الحدَّة والعنف بحماس القلب وهمّته.. فإن كانت مهمتكم ورسالتكم هي الإصلاح والإعمار فأنتم طالبو غاية صعبة؛ لأن التخريب سهل يسير جدًّا، أما التعمير والإصلاح فصعب للغاية، إنَّ نسْجَ ثوبٍ قد يستغرق عدّة أيام منكم، غير أنكم تستطيعون نسلَ ذلك الثوب وفكّه بسحبِ أحدِ خيوطه، أما إعادته إلى شكله الأصلي مرة أخرى فإنه يستغرق شهورًا، وأحيانًا سنوات من عمركم.

والخلاصة أننا قد نتضايق أحيانًا بسبب قمع وضغوط الظالمين والمستبدين الذين سيطرت عليهم مشاعر الانتقام، والذين لا يعرفون معيارًا ولا قسطاسًا، قد نضطرب ونتزلزل بسبب الضربات والركلات التي نتعرّض لها، وتقض مضاجعنا كلما فكرنا في التخريب والدمار المرعب الذي نعايشه، فننهض ونظل نتجول في الممرات مثل المجانين؛ فنحن بشرٌ على أية حال، غير أننا مهما اهتززنا لا ننقلب بفضل قوة إيماننا بربنا، ولا نيأس ولا نقنط حتى وإن تعرّضنا لخيبة أمل، لأننا نعلم أن العواصف الثائرة مؤقتة، وأن الظلام الحالك ستتبعه أيام مشرقة، وأنه لا يوجد ظلمٌ دائمٌ.

[1] صحيح البخاري، المظالم، 6؛ صحيح مسلم، البر، 65.