أركان الطريق في سبيل الله

أركان الطريق في سبيل الله
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

إننا نعيش في حقبةٍ زمنيّةٍ صعبةٍ؛ شهدت تخريبًا داخليًّا متشابكًا، ودمارًا كبيرًا للقيم الدينية، وخصومةً وعداوةً حتى بين أصحاب القبلة الواحدة، وتهدّمت فيها الأسوار التي تحمي الكتاب والسنة وتصون المقدسات، وأُلبِست الدناءات والشناعات ثوبَ الدين، وأصبح الدين واسطة للوصول إلى أغراضٍ دنيويّةٍ زائلةٍ، وتربّعت الاعتبارات السياسية على عرش الدين.

 لقد كثُرت الهموم، ولكن أين حاملوها! فمع الأسف حتى الذين ينبغي لهم أن يهتمّوا بأمر الإسلام صاروا يركضون وراء مستقبلهم ومصلحتهم الشخصية، وباتت الحقائق الإيمانية والقرآنية مهمّشةً لا تؤخَذ بعين الاعتبار، وأصبحت المبادئ العالمية التي جاء بها مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم غريبة أيَّما غرابة، إنني أعتقد أن الدمار الذي حصل في عهد الصليبيين لم يكن الشرخُ فيه بهذا القدر من العمق؛ لأن القلوب حينذاك كانت تنبض بروح المعيّة والاتّحاد، ولم يكن لمثل هذه الانقسامات الرهيبة مكانٌ داخل المجتمع، وكان أبطال المجتمع آنذاك -بعناية الله- بمثابة حجر الصدّ الذي تصطدم به الهجمات فتتكسّر عليه وينعكسُ مسارُها فتعود أدراجها خائبةً مهزومةً.

في هذه الفترة الحرجة التي توالت فيها الانهيارات والانكسارات، وتنوسي فيها همّ الإسلام، وباتت فيها الحاجة ماسّةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى للأبطال الذين يُقيمون صرح روحنا؛ يقع على عاتق رجال الانبعاث الذين وهبوا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن عبءٌ كبير، فالوظيفة التي سيقومون بها ثقيلةٌ، وفي الوقت ذاته عاليةُ القدر بقدر وزنها، ولا جرمَ أن الكشف عن قضيّةٍ إيمانيّةٍ واحدةٍ وإيضاحها لإنسانٍ واحدٍ تفوق آلاف الكرامات؛ إذ إن السيرَ على الماء، والطيران في الهواء، والمشيَ مع الملائكة يدًا بيدٍ؛ تظلّ ضئيلة أمام حُسن تلقّي القلوب للحقائق الإيمانية، وصيرورتها جزءًا لا يتجزّأ من طبيعة الإنسان، وإذا كان الأمر هكذا فاحسبوا وقدّروا جزاء الخدمات التي يجب القيام بها من أجل إحياء مجتمعٍ بأكمله وتحقيق انبعاثٍ جديدٍ له.

إن بذل الجهود من أجل تأليف القلوب، والحيلولة دون الاختلافات والانقسامات التي أصبحت مرضًا متفشّيًا اليوم؛ هو من الواجبات الأولية لإصلاح الدمار الحاصل في هذه الحقبة الزمنية.. فعلينا أن نقطع الطريق على المشاعر السلبية ونمنعها من التسلّل إلى صدورنا، وأن يجد كلُّ إنسانٍ مكانًا مناسبًا له في عالمنا، ومجلسًا خاصًّا به في صدورنا، ربما يكون هذا المكان بالنسبة للبعض بمنزلة جناحٍ خاص، وللبعض بمثابة قاعة الاستقبال، وللبعض الآخر مثل البهو والممرّات، ولكن في النهاية لا يبقى أحدٌ واقفًا أو مستبعَدًا، فهذه هي الوسيلة اليتيمة لإصلاح الانهيارات والتفكّكات والانكسارات التي لحقت بالإنسانية جمعاء ولا سيما بالعالم الإسلامي.. علينا أن نفتح صدورَنا للجميع ونحتضن كل الناس، فنفتح الطريق لهذا المسار، إلى أن تلين قلوب المتمرِّدين الذين يسعون إلى إثارة الخلاف والفرقة بين الناس، فإذا رقّـت القلوب سادت السكينة الدنيا كلها.

أضف إلى ذلك: ضرورة مساعدة الناس على فهم سرِّ “أحسن تقويم” وتحقيق متطلّباته؛ بعبارة أخرى: ثمّة حاجةٌ ماسّة أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى جعلِ الناسِ يشعرون بإنسانيتهم، وإلى مساعدتهم على فهم معنى أن يكونوا بشرًا، ومعرفة الخصوصية والسموِّ في خِلقتهم، فإذا أردنا أن نكسر حدّة الغضب والعنف والحقد والكراهية وأن يسودَ جوٌّ من الحبّ والسلام في العالم فلا بد أن نبحث عن وسيلةٍ لرفع مستوى الإنسانية من الإنسانية الشكلية إلى الإنسانية الحقّة.

وبحسب تعبير الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: “الإيمان يضمّ بذرةً معنويّةً منشقّةً من “طوبى الجنة”، أما الكفر فإنه يخفي بذرةً معنويّةً قد نفثته “زقومُ جهنم”[1]، فثمّة مسؤولية أخرى تضطلع بها الأرواح المتفانية؛ وهي أن يركّزوا جهودهم على الخدمة الإيمانية حتى تنبت بذرة طوبى الجنة وتزهر وتنتشر أغصانُها، وفي المقابل تتعفّن وتتلاشى بذرةُ زقّوم جهنم؛ بمعنى أن نُخرج الناس من الإسلام الشكلي والصوري والتقليدي والجسماني، ونرتقي بهم إلى مرتبة الحياة القلبية والروحية، وبذلك سيستوعبون سرَّ خلقهم في “أحسن تقويم”، ويستمتعون بلذّة الإيمان، وتنضبط نفوسهم فلا يرون إلا ما هو جميل، ولا يفكّرون إلا فيما هو جميل، ويركضون وراء الجماليات على الدوام، ويستشعرون الجنة في قلوبهم وهم ما زالوا في الدنيا.. إن الذين يفهمون معنى “لا كرب وأنت ربّ” وتلهج ألسنتهم بها على الدوام؛ لا يستسلمون أمام ضغوطات الحياة ومصاعبها، ولا يتيهون في دوامات الخوف والقلق.

لقد انتشر الإلحاد على نطاقٍ واسعٍ، وراحت تيارات الإلحاد واللاأدرية تجذب الناسَ إليها بشكلٍ مرعب، ولهذا فإن تشكيل حواجز من أجل صدّ شتى أنواع الضلال والكفر ومكافحة فكرة الإلحاد؛ من أهم الواجبات التي تقع على عاتق من نذروا أنفسهم للخدمة الإيمانية.

 إننا معاشر المؤمنين نؤمن بأن النعيم الأبدي ينتظر عباد الله الصالحين في الآخرة، ونرجو أن يستفيد الجميع من هذا النعيم؛ ألم يجاهد الرسول صلى الله عليه وسلم طوال حياته الشريفة من أجل ذلك؟! ألم يكن يحمل في قلبه همًّا كبيرًا وحزنًا دفينًا من أجل ذلك؟! كان يريد أن يصل الجميع إلى الجماليات التي رآها وسمعها وأدركها، ويتمنّى أن يتغلّب الناس على أنفسهم، وأن يكبحوا جماح رغباتهم، وأن يصلوا إلى ربهم؛ وقد كان يتلوّى من الألم في سبيل تحقيق ذلك.. وعلى هذه الشاكلة لا بد أن يفكّر المؤمن على الدوام.

من الصعوبة بمكانٍ تبليغ الحقائق نفسها إلى جميع البشر من مختلف الاعتقادات والثقافات الأخرى، وتوحيدهم على نفس المنهج، ولكن المهم هو أن يكون بإمكاننا التواصل مع كلِّ فردٍ وفقًا لوضعه الذاتي، فمن الناس من يعير اهتمامًا لقيمنا، ومنهم من يتحطّم كفره المطلق أمامها، ومنهم من يقف على الأعراف، ومنهم من يتعاطف مع قيمنا، ومنهم من يواليها، ومنهم أيضًا من تشتعل جذوة الإيمان في قلبه، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ[2]، فمن يدري قدرَ الأجرِ عند الله عندما نصبح وسيلة لإحياء جماعةٍ أو مجتمع أو أمة أو الإنسانية جمعاء.

لكن لِنعلمْ جيدًا أن الذين نذروا أنفسهم لهذه الدعوة المباركة لن يتركهم أهل الدنيا وشأنهم، فقد يتعرّضون لشتى أنواع الضغط والتهديد والتهجير القسري والاضطهاد والحرمان من أبسط حقوقهم الإنسانية، ويُزجّ بهم في الزنزانات، ولكنهم أمام هذه المعاناة والضغوط يقابلون كلَّ ما حلّ بهم بصبرٍ ورضًا قائلين:

ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ!

وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ!

فكلاهما صفاءٌ للروح

فما أحلى لطفه! وما أعذب قهره!

إن عصرَنا المكتظّ بآلاف القضايا القرآنية والإيمانية المحتاجة إلى التجديد ليفرض على هؤلاء الفدائيين ألّا ينشغلوا بالضغوطات التي تُمارس عليهم، وأن يتذكّروا أن كثيرًا من العظماء قد قدموا حياتهم فداءً لمسألةٍ واحدةٍ من المسائل القرآنية، وقضوا أعمارهم في غيابات السجون.

وأعتقد أن البعض يتبادر إلى ذهنه في هذا المقام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله الذي كان من أعظم أئمة علم الحديث، ومن أزهد أهل عصره وأتقاهم، لم تدخل فمه لقمةٌ واحدة من حرام، ولم تفتنْه الدنيا قطّ، ومع ذلك سُجِنَ في فتنة خلق القرآن، وتُرِك دون طعامٍ وشراب، وجُلِد بالسوط، وتعرّض للتعذيب.

لقد خاطر بحياته من أجل مسألةٍ واحدةٍ متعلِّقة بالقرآن؛ لأنه كان يخشى إن تنازل قليلًا في هذا الشأن أو أفسح المجال أمام التفسيرات المختلفة أن يتبع ذلك تأويلات أكثر جرأة حول القرآن؛ ولهذا لم يعبأْ بالسياط النازلة على ظهره، وبفضل هؤلاء الأبطال وصلت إلينا القيم التي نؤمن بها نقيّةً سليمة.

ومما يستدعي الحمدَ والشكرَ لله أن رجال الحقيقة اليوم قد قدّموا خدمات جليلة للإيمان والقرآن، وتحملوا الكثير من التضحيات في سبيل إعلاء القيم المتهدمة، وحاولوا بِجدٍّ واجتهادٍ تذليل العوائق التي تحول بين البشر وبين الله من خلال خدماتهم، وذهبوا باسم سيد الأنام صلى الله عليه وسلم إلى كلِّ مكانٍ رحلوا إليه، ونقشوا اسمه في القلوب، وضحّوا بكلّ ما يملكون في سبيل خدمة الإيمان والقرآن، ووقفوا بجانب الطلاب، وأخذوا بأيدي الشباب، وافتتحوا المؤسسات، وكافحوا من خلالها الجهل والفرقة والفقر، وأقاموا فعاليات الحوار في كل أرجاء العالم، فرقّقوا القلوب، وأسسوا جسور الحب، وأنشؤوا الحواجز والمصدّات للقضاء على الشدة والعنف.. فلقد استخدمهم الله في أعمالٍ عظيمة، وهيَّأهم لخدماتٍ جليلة تشبه تلك التي قام بها الصحابة رضوان الله عليهم من قبلهم.

وهذه نعمةٌ عظيمةٌ جديرةٌ بتحمّل الكثير في سبيلها، ولهذا لا تكترثوا إذا عارض أعوان الشيطان الخدمات التي تقومون بها، ولا تبالغوا في تقدير الحرمان والإيذاء والظلم والحبس والإدانة، ولا تلعنوا الطريق التي تسيرون فيها، ولا تنسوا أن الظلم عاقبته وخيمة، فالله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، وكما هلك الظالمون بالأمس ورحلوا بائسين؛ سيصبح ظالمو اليوم في وضعٍ يؤسَف له، وسينقلبون رأسًا على عقب كالأشجار التي لا جذر لها، وسينظرون بمرارة إلى وجوهكم وكأنهم ينتظرون المدد منكم، ومن ثَمّ فإذا كان هناك أحد يستحقّ البكاء فهم الظالمون أنفسهم الذين يعانون من جنون العظمة.. وإنني أقول هذا انطلاقًا من مقتضى إيماني بسنة الله الجارية في تاريخ الإنسانية.

ولهذا علينا أن نفوِّض أمرَ الظالمين إلى الله وننتبه إلى شؤوننا الخاصة، فقد رزقنا الله بإخوةٍ متطوِّعين من أصحاب الهمة العالية، وأحسن إلينا بأبطالٍ انطلقوا في طريقهم يحملون حقائبهم في أيديهم دون أن يعرفوا الوجهة التي سيرحلون إليها، وأمدّ هذه الدعوة بقوة كبيرة بفضل أصحاب القلوب المخلصة المضحية التي أوقفت عمرها على الخدمة الإيمانية، فعلينا أن نستخدم هذه الإمكانية التي منحها الله لنا في إقامة صرح روحنا، وفي جعل الراية المحمدية ترفرف في كلِّ مكان، وفي ترقيق القلوب ووصلها بالله تعالى، وفي تحبيب الناس ببعضهم بغضّ النظر عن المذهب الذي يتبنّونه؛ عندها سنكون قد استوفينا حقّ خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنا: “إخواني”[3]، فإننا إذا وهبنا قلوبنا لله في الدنيا ما تخلى عنا في الآخرة، ومن كان وليّه الله فلا يخسر أبدًا، وكنّا بإذن الله من الذين يجتازون الأبواب الموصدة، ويفوزون بالنعيم الأبدي.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الثانية، ص 11.

[2] صحيح البخاري، الجهاد والسير، 114.

[3]  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ: “السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا”، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ”. (صحيح مسلم، الطهارة، 39)