التوبة والاستغفار

التوبة والاستغفار
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: ما هي الأمور التي يجب مراعاتها حتى نتّخذ موقفًا صارمًا من الذنوب والمعاصي، ونتوجّه إلى الاستغفار والتوبة بقلبٍ صادقٍ؟

الجواب: الاستغفار هو طلب المغفرة من الله على الذنوب والمعاصي، أما التوبة فتعني الرجوع إلى الله بعد الزيغ والانحراف، المهمّ في الاستغفار والتوبة هو أن يفطن العبد إلى الجروح التي أحدثتها الذنوب في حياته المعنوية وعالمه الروحي والقلبي، وأن يشعر شعورًا عميقًا بالندم والأسف حتى إن النوم يجافي عينيه على ما اقترفه من ذنوبٍ ومعاصٍ، ولذلك فإن الذي يستمرئ المعاصي -سواء أكانت باليد أم باللسان أم بالعين- ولا يتأثّر بها، ولا يسعى إلى التطهر منها؛ يقسو قلبه، ويضعف إيمانه.. وعندما يتهاون الإنسان في النظر إلى الحرام والكذب والغيبة؛ فإنَّ جهاز المناعة المعنوي لديه يبدأ في الانهيار.

فمتى ما دخلت الجراثيم والفيروسات في أجسامنا، يتدخّل جهاز المناعة ويقاومها، وعلى سبيل المثال، ففي أوقات المرض، يحدث سيلان في الأنف، ويكثر السعال، وترتفع درجة الحرارة؛ مما يدلّ على عمل جهاز المناعة لدينا.. وكذلك فإن الذين يتمتّعون بجهاز مناعةٍ معنويّ قويّ يُبدون ردّة فعلٍ على الفور تجاه الذنوب، ويشعرون بالندم على زيغهم وضلالهم، ويذرفون الدموع، ويلوذون بالاستغفار والتوبة؛ أملًا في التخلّص من ذنوبهم.. وردّة فعل الفرد تجاه الذنب دليلٌ على انتعاش وجدانه، وحيوية قلبه، وقوة إيمانه.. فالقلب الميت والضمير المتبلِّد لا يبدي أيٌّ منهما ردّة فعل تجاه الذنوب.. ومن لا يقرّ بذنوبه، ولا يشعر بدمارها، ولا يخشى الوقوع فيها؛ عليه أن يجدّد النظر في إيمانه مرّةً أخرى.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ[1]، ولذلك كان لدى الأولياء حساسيةٌ مفرطةٌ تجاه الذنوب، حتى إنهم كانوا يرون التقدّمَ خطوةً واحدةً إلى الذنب بمثابة انحدارٍ في مستنقعٍ لا سبيل إلى الخروج منه.. فإذا أذنبوا عن قصدٍ أو غير قصدٍ أو حسبوا أنهم قد اقترفوا ذنبًا؛ هرعوا على الفور إلى حوض الاستغفار والتوبة دون أن يُعطوا الذنْب فرصةً للبقاء ولو لدقيقةٍ واحدةٍ، وشعروا بالرهبة من الذنوب صغيرها وكبيرها؛ وهذا يعني الإقرار بالذنب، وشعورهم بخطره في قرارة أنفسهم.

إن التوبة والاستغفار ليسا مجرّد كلماتٍ تنطلق من اللسان ظاهرًا، وإنما التوبة هي الشعور بالندم الشديد على اقتراف الذنب، والعزم على الرجوع عنه، وتلافي ما ضاع بسببه؛ فيقترب المرء من ربه بعد ابتعاده، ويعود مرّةً أخرى إلى بابه؛ أما الاستغفار فهو طلب المغفرة من الغفور الرحيم.. وحتى تستوفي التوبة والاستغفار حقّهما فلا بدّ من الإقرار بالذنب في الداخل؛ وشعور القلب بمرارة الذنب، والإنابة إلى الله والرجوع إليه، وهذا كله مرهونٌ بقوّة الإيمان والصلة مع الله.. ولا ريب أن مطالعة المؤلّفات التي تتحدّث عن الإيمان، والتفكّر في العالم الأنفسي والآفاقي، ومواصلة العبادات والطاعات؛ أمورٌ تعزّز الإيمان.. وما دام حديثنا عن الإيمان وتقويته فيجدر بنا ألا نتجاوز هذه النقطة دون ذكر “رسائل النور” بشكلٍ خاص؛ لأن منهج “رسائل النور” هو في الأساس وسيلةٌ لتثبيت الإيمان وتعزيزه.

وطالما يُعرف الشيء بضده فإن الشخص الذي اصطبغ بصبغة الإيمان واستقر الإيمان في قلبه يمكنه أن يعرف بسهولةٍ أسباب الانحراف من قبيل الكفر والشرك والنفاق التي هي ضدٌّ له، ويميّز بسهولة الظلم والذنوب والمعاصي التي تقود الإنسانَ إلى الكفر، وبالتالي يتجنّب هذا كله.. فلو أن إنسانًا خرج من حوضِ ماءٍ ساخنٍ وألقى بنفسِه من فوره في حوضِ ماءٍ باردٍ؛ فسيشعر ببرودةِ الماء بشدّة، ولكن إذا تغلّب الإنسان على تأثير الماء الساخن وتأقلمَ مع الجوّ واعتاد على الماء البارد شيئًا فشيئًا فلن يشعر بالدرجة نفسها بالماء البارد، وهكذا الذنوب! والشخص الذي يشعر بعمق الإيمان في قلبه يفطن جيّدًا إلى الكفر والضلال أو إلى الأسباب والوسائل التي تؤدّي إليهما، وبناءً عليه يبدي ردَّة فعلٍ تجاهها ويقاومها، فمن اقترف ذنبًا فقد اقترب خطوةً من الكفر، وابتعد خطوة عن الإيمان، وقد تتضاعف الخطوات أو تزيد حسب حجم الذنب، ومن امتلأ قلبُه بالإيمان وتعرّض إلى خبث الذنب عن عمدٍ أو غير عمدٍ سينزعج بشدة من ذلك، ويشعر بالخجل يسري في كلّ كيانه، ويهرع بسرعةٍ إلى أحواض التطهّر، ولكن بقدر ضعف الإيمان وأثره في القلب يكون ضعفُ ردّة الفعل إزاء الذنب.. ومن ثَمّ هناك حاجةٌ ماسّة إلى التركيز على الإيمان أكثر من كلّ شيءٍ، واستغلال كلّ فرصةٍ في سبيل تقويته وتعزيزه.

ثم إن توبةَ الإنسان واستغفاره بحقٍّ منوطان إلى حدٍّ ما بمعرفة ماهية الذنب، ويجب أن أنوّه إلى أن الذنب هو انتهاكٌ لحقوق الله تعالى، وظلمٌ بيّن لأنفسنا، يقول تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ (سورة هُودٍ: 11/101)، فالمقصود هنا ليس النفس التي تندرج تحت النفس الأمارة، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة، ولكن المقصود بشكلٍ أكبر هو الآلية التي تأمر الإنسان بالشر، أو المركز الذي يتفاعل من خلاله الشيطان مع الإنسان، لكن النفس التي وردت في الآية الكريمة تعني الإنسان نفسه وذاته.. فالآية الكريمة تخبرنا أن الذين يعصون الله؛ يظلمون أنفسهم، ويُسيئون إليها. أجل، إن الذي يقترف الذنب لا يستطيع الحفاظ على مكانته أمام الله، ويضرّ بنفسه، ويُعرّض مصيره للخطر؛ ولا شكّ أن جميع هذه النتائج تُعتبر ظلمًا يرتكبه الإنسان بحقّ نفسه.

وتدلّ الذنوب أيضًا على عدم مراعاة حقّ الله؛ لأن اقتراف الذنب فيه تجاوزٌ للحدود التي وضعها الله، وتجاهلٌ لأوامره ونواهيه، وفيه في الوقت ذاته سوءُ أدبٍ مع الله، ففي الحديث الشريف: “إِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ[2]، ولا مشاحة في المثال، فكما يحرص الإنسان على الدفاع عن كرامته وشرفه وحمايتهما ويغار عليهما حتى من عينيه، فكذلك تكون غيرة الله إذا أذنب العبد الذي كرّمه وأحسن خلقه، ذلك لأنه لا يرضى لعباده أن يتدنّسوا بالذنب ويبتعدوا عنه.

وهكذا فليس من الممكن لمن يراعي هذه الأمور ألا يرتجف قلبُه تجاه الذنب، وألا يسارع إلى التوبة، أما الإنسان الذي يجهل ماهية الذنب ويستخفّ به؛ فلا يشعر بثقله في وجدانه، ولذلك لا يتوجّه إلى التوبة والاستغفار، وحتى ولو توجّه إليهما فستظلّ توبته مجرّد كلامٍ، لذا تجده بعد التوبة يستمرّ في الذنب من حيث انتهى، وبعد أن أعلن توبته إلى الله يرجع عنها، والحال أن من الشروط الرئيسة للتوبة والاستغفار؛ شعور الوجدان بالندم على الذنب، والتوجه إلى الله بقلبٍ حزينٍ مهموم، والثبات على التوبة، وتجنب الذنب، وعدم الإصرار عليه.

لكن مع الأسف أصبحت اليوم أبوابُ المعصية مفتوحةً على مصراعيها، وشاع مفهومُ الإباحية الداعي إلى التخلّي عن القيم الأخلاقية، واستباحةِ كلّ شيءٍ، وبينما يحاول الناسُ الهروبَ من مستنقعٍ يقعون في مستنقعٍ آخر، ولم يعد بعض الذين يستمرئون الذنوب يفكّرون في إزالة الوسخ والدنس عن أنفسهم، فإذا سقطوا وتعثّروا لا يندمون على ما فعلوا، ولا يراجعون حالهم، وبالتالي يصرّون على المعصية، ويعيشون في تلوّثٍ متزايدٍ، فمن الأهمية بمكان بالنسبة لهؤلاء الذين يعيشون في مثل هذا الجوّ الدنس أن يقفوا على أرضيةٍ صلبةٍ، وأن يعيشوا في بيئةٍ صالحةٍ، وأن يعملوا على تعميق إيمانهم باستمرار، فإذا كان لديكم مكانٌ أو بيئةٌ تستطيعون من خلالها تنسّم جوّكم الطاهر؛ فستلجؤون إليه وتتطهرون حتى وإن اضطررتم إلى التجوال في أماكن منفتحة على الذنب مؤقتًا.. ومن الواضح أن هذه البيئات لا تتشكّل من تلقاء نفسها، ولهذا يجب على أصحاب الصدور المهمومة أن يشكّلوا بيئاتٍ معنويّة يتحاورون فيها ويتذاكرون ويتوجّهون إلى ربهم بالدعاء والعبادة؛ حتى يستطيعوا أن يتنفّسوا ويتطهّروا روحيًّا ويتجدّدوا.

[1] سنن الترمذي، صفة القيامة، 49.

[2] صحيح مسلم، التوبة، 36.