مصطلح الإسلام المعتدل

مصطلح الإسلام المعتدل
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

سؤال: ما هي نظرتُكم تجاه المصطلحات العصرية الجديدة، مثل مصطلح “الإسلام المعتدل”، ومصطلح “الإسلام الراديكالي”؟

الجواب: أعتقد أن مصطلحي “الإسلام المعتدل” و”الإسلام الراديكالي” قد دخلا معجمنا الاصطلاحيّ دون أساسٍ يقومان عليه ولا أصلٍ يرجعان إليه، شأنهما شأن مصطلحات: “إسلاميون، دينيون، ديني متطرّف”.. وإذا ألقينا نظرةً على المصطلحات الإسلامية قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان فلا نصادف مثل هذه التعبيرات، وبالتأمل في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأصول الدين، ومناهج البحث الفقهية؛ لا نجد أساسًا تقوم عليه هذه المصطلحات، ولا نكاد نجد في علم المصطلحات إلا تعبيرات مثل “الدين، والإسلام، والتدين، والمؤمن، والمسلم”.. ولما انتقلت كلمة “مسلم” إلى اللغة الفارسية زاد عليها الفرس لاحقة الألف والنون، فصارت الكلمة “مسلمان” تعبيرًا عن صيغة المفرد، ولما أخذها الأتراك عن الفرس فيما بعد لم يروا بأسًا في استخدامها كما هي في الفارسية.

فإذا كان الدين هو مجموعة القوانين الإلهية التي أرسلها الله لهداية الناس باختيارهم وإرادتهم إلى الخير المطلق، فإن التديُّن هو الالتزام بهذه القوانين والأحكام؛ أي جعلُ الدين روحًا للحياة. أجل، المسلم أو المؤمن -رغم ما بين الكلمتين من فروق طفيفة- هو الشخص الذي يسلّم بالقوانين الإلهية التي أرسلها الله تعالى، ويتجنّب الشرك وأنواعه.. أما بالنسبة لما يُسمّى بالـتطرُّف الديني، والإسلام الراديكالي، والإسلام المعتدل؛ فلا وجود لها في علم المصطلحات الإسلامية، ومن ثَمّ لا يجوز للمسلم الواعي أو لأيِّ محترِمٍ للدين مقدِّرٍ له أن يستخدم مثل هذه المفردات.

ربما يبتدعُ البعضُ مفاهيم جديدة متعلِّقةً بالدين؛ لمقاصد وأغراضٍ معينة، فيروّجونها ويقصدون بها معاني ومضامين أخرى، وربما استخدمها بعضُ البسطاء من المؤمنين دون معرفتهم بأصلها وحقيقتها، وهذا على العكس من مصطلحي “الإسلام أو الدين”، فإنهما إذا أُطلقا كان المعنى واضحًا، فنحن -المسلمين- نقرّ بالدلالة التي يعطيها الكتاب والسنة لكلمة “الإسلام والدين”، لكن إضافة شيءٍ إلى حقيقتهما من شأنه أن يغيِّر من ماهيتهما أو يحمّلهما معاني جديدة، فليس هذا من شأن أحدٍ، ولا يحقّ هذا لأحدٍ أصلًا، ولذلك فلا محلّ للحديث عما يُطلق عليه “الإسلام المعتدل” أو “الإسلام الراديكالي”.

قد تكمن بعض المقاصد وراء استخدام مثل هذه المصطلحات، فبينما تثير كلمة “معتدل” شكًّا وريبةً لدى الرأي العام تجاه مَن يُسمّون بالمعتدلين في المجتمعات الإسلامية؛ فإنها توحي بأن غير المعتدلين هم الراديكاليون أو المحافظون المتشدّدون، ومن ثَمّ يستحقّون القتل والتدمير بلا هوادةٍ أو رحمةٍ، وفي النهاية تنهدم الثقة في جميع المؤمنين، فتُثار فكرةٌ شيطانيّةٌ توحي بعدم الثقة في المسلمين، ونظرًا لأن هؤلاء المغرضين لا يستعملون العقل والمنطق في إعلان الحرب ضدّ جميع المسلمين فإنهم يطلقون على المسلمين مثل هذه المسمّيات، ويعاملونهم على هذا الأساس.. بمعنى أن البعض -سواء أكانوا معتدلين أم متطرفين- يضعون خططًا لتحقيق خيالاتهم المستقبلية، ولكن لا يمكن القول إن كل مَن يستخدم هذه المفاهيم يتبنّى مثل هذه الفكرة، ومع ذلك من المفيد توخّي الحذر.

وهناك أيضًا مَن يستخدم مصطلح “الإسلام المعتدل” لتمييز الإسلام عمن يُسمّون بالإسلاميين أو المسلمين الراديكاليين، ولكن أيًّا كان المقصد فالاستعمال خاطئٌ في النهاية، لأن الإسلام هو كما هو، ثابتٌ لا يتغير، ولا يجوز للمسلم أن يتنازل عن ضوابط دينه لمجرَّد أن يبدو لطيفًا في أعين الناس وينال رضاهم، فالإسلام إن لم يكن لطيفًا في حدِّ ذاته، ولا يتناسب مع طبيعة الناس، ولا يمثّل الحق والحقيقة؛ فمهما حاولت تلطيفه وفقًا لأهوائك؛ فسيشوب عملَك التكلّفُ والتصنّع.. ونظرًا لأنك لن تستطيع المداومة على مثل هذه التصرفات المصطنعة لفترةٍ طويلةٍ فلن تنجح في هدفك، بل وستتلقى صفعةً تخالف مقصدك من حيث لا تدري؛ لأن الناس سيلحظون بمرور الوقت هذا التصنُّع في سلوكك، ويفقدون الثقة فيك، وبينما تحاول أن تجعل الإسلام يبدو جذّابًا للآخرين فإنك ستجعلهم أكثر نفورًا من الدين.

وقد كان لظهور التطرُّف والعنف بين بعض الجماعات الإسلامية إلى جانب وجود بعض الأشخاص من ذوي النوايا الخبيثة أثرٌ بالغٌ في ظهور تعبير الإسلام المعتدل.. وبتعبيرٍ أدقّ: فإن بعض الأشخاص الذين اعتبروا العنف والهجوم والحرق والتدمير “جهادًا”، نظروا إلى مَن لم يوافقوهم على ذلك على أنهم “معتدلون” ووصفوهم بذلك، لكن أيًّا كان المرتكبون لهذه الممارسات وأيًّا كان الهدف الذي ارتُكبت من أجله هذه الأفعال فلا يمكن بأيّ حالٍ عزوُ أعمال العنف والإرهاب إلى الإسلام، وإنّ الإنسان ليبتعد عن جوهر الدين بقدر ما يتبنّى من مواقف متعصّبةٍ ومتطرّفة، وإن ممارسة العنف دون وجود حربٍ مشروعةٍ، وتهديدَ أمن وسلامة الآخرين؛ لا يليق بالمسلمين، فالإسلام لا يأمر بتعطيل النظام الاجتماعي بأيِّ شكلٍ كان، ولا بالإفساد في الأرض، ولا بالضرب والكسر والحرق والهدم، بل يأمر بالخير والسلام والصلح والتسامح، فيجب أن تتناسب الجهود المبذولة في سبيل الدين مع ضوابط القرآن والسنة وجوهر الدين، ولا ينبغي الانخداع بمحاولة البعض التذرّع بالدين لتبرير ما يمارسونه من أعمال شنيعةٍ دنيئةٍ، وتصويرها على أنها أوامر دينيّة، وإطلاق أسماء وألقاب مختلفة على من ليسوا على شاكلتهم، فالمسلم مسلمٌ، ومن مقتضيات دينه أن يتخذ موقفًا من الظلم والفساد، وأن يُظهر الاحترام والمحبة والتسامح تجاه الآخرين.

فلا داعي لإطلاق أسماء وألقابٍ مختلفةٍ على أولئك الذين يبحثون عن فرصٍ للحوار مع مختلف فئات المجتمع، ويحاولون الالتقاء معهم على الحدِّ الأدنى من القواسم المشتركة، ويحترمون الإنسان لأنه إنسان ليس إلا؛ لأنها في الواقع قيمٌ أساسية في الإسلام، لا سيما في عصرنا الحالي، فبدون الحوار، وتقبّل كلِّ شخصٍ في موقعه، واحترام الإنسان وفلسفته الحياتية؛ لن تتحقّق السكينة في المجتمع، وسيتعذّر تبليغ الآخرين بالقيم التي تؤمنون بها، فإذا كنتم ترغبون في إثارة مشاعر الاحترام في نفوس الآخرين فعليكم أن تتوجهوا أوّلًا بالاحترام إليهم، فإن لم تفعلوا فلن تلقوا أيَّ احترامٍ منهم.

بتعبيرٍ آخر: إذا ما كان لديك شيءٌ جميلٌ تودّ تقديمه؛ فعليك أن تهيِّئ الأرضيّة المناسبة لعرضه، وإذا كان لديك ما تقوله فعليك أن تشكّل البيئة المواتية للتعبير عن نفسك، فهذه الأجواء والبيئات تتيح لك التعرّف على الطرف الآخر بلسانه وموقفه وسلوكه، والعكس صحيح، وإلا سيتعرّف الإنسان على غيره وفقًا لحكمه المسبق عليه، ويكون من المتعذّر الحيلولة دون تبادل الاتهامات والإدانات، فإذا كنتم لا ترغبون في التسبُّبِ بهذه السلبيات، ولا بوقوعِ الآخرين في الخطإ؛ فلا بدّ أن تقتربوا من الجميع، وتتحرَّوا سبل الحوار مع الجميع، وتغتنموا كلَّ فرصةٍ لفعل ذلك، فالطريق المؤَمَّنُ بالنجاحات والمكاسب هو الطريق الذي يتّبع الكتاب والسنة، فالذين يُطلِقون على غيرهم صفة “إسلاميين معتدلين” ثم يطلقون على أنفسهم صفة “إسلاميين”؛ يضعون أنفسهم في موقفٍ يتنافى مع روح الإسلام ومبادئه الأساسية، كما أن فيه إغفالًا كبيرًا للأركان الأساسية في الإسلام.

من جانبٍ آخر قد يتصرّف بعضُ الجهلاء بغلظةٍ ووقاحةٍ مع المسلمين لمجرّد أنهم يدينون بدينٍ غير دينهم، ويتبنّون اعتقادًا غير اعتقادهم، بل إذا تهيَّأت لهم القوّة والنفوذ مارسوا الظلم والقمع عليهم.. وفي مثل هذا الموقف يجب أن تكون ردودُ الأفعال التي يبديها المسلمون جديرةً بأخلاق المسلمين.. أما الأفعال المنافية، والتلفظ بالألفاظ النابية، وتوجيه اللَّكمات يمينًا ويسارًا، واللجوء إلى العنف عند الغضب، فهذا ليس أسلوبًا حكيمًا، ولا يليق بالمسلم.

 فالقرآن الكريم حين يتحدّث عن صروح الفضيلة يؤكّد على أنّ المسلمين هم الكاظمون الغيظ، ولقد ظلّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتزمًا بهذا المبدإ القرآني طوال حياته، وهو الذي ارتُكب في حقّه الكثير من الإهانات والتجاوزات، ومع ذلك اتبع طريق الصبر والرفق والتسامح، أليس هذا خلقًا إلهيًّا؟! أيعاقب ربُّنا سبحانه وتعالى عبادَه المخطئين المذنبين على الفور، أم يُمهلهم حتى يعودوا إلى رشدهم، ويتوقّفوا عن أخطائهم، ويعيدوا تنظيم صفوفهم، ويصلحوا سلوكياتهم؟! وعلى ذلك فإن الذين يتبعون السلوك نفسه لا يفعلون ذلك لأنهم ممثلون لـ”الإسلام المعتدل”، بل لأنهم يتخلقون بأخلاق القرآن وأخلاق النبي وأخلاق الله.

وفي النهاية لا يغيب عن بالنا أن بعض القضايا مع تغير الظروف والأحوال تصبح أكثر أهمية من غيرها، وتحتاج إلى مزيدٍ من التركيز عليها، وهذا أمرٌ يعتمد على بصيرة المؤمنين، وخاصة رجال الإرشاد فيهم، فمثلًا يأمر القرآن الكريم المؤمنين في عدة مواضع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحال أن العلماء يرون القيام بهذه الوظيفة فرض كفاية، إلا أن بديع الزمان سعيد النورسي ينظر إليها على أنها فرضٌ يعلو كل الفروض وفقًا لفقه الأولويات؛ وذلك لأن قضية الإرشاد والتبليغ تعرّضت للتهميش كلّيّةً في عهده، ورغم أن القرآن الكريم يقول في الآية الكريمة: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/104)؛ فإنه يؤكد في مواضع أخرى أن هذا الأمر من صفات المؤمنين (سورة آل عمران: 3/114، سورة التوبة: 9/71، سورة الحج: 22/41)، بل يذكر أن خيرية الأمة منوطةٌ بالقيام بهذه الوظيفة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/110)، ومن الممكن استنباط أحكامٍ أخرى بشأن هذا الموضوع من الآيات، ولذلك حصر بديع الزمان سعيد النورسي همته في ترسيخ القضايا الإيمانية رغم وجود الكثير من الأعمال التي يمكن القيام بها في سبيل خدمة الدين؛ لأنَّ ما شهده عصرُه من تيارات الكفر والضلال قد أحدث تأثيرًا كبيرًا في الناس، بناءً على ذلك يمكنكم إبراز مفهوم الهجرة، والانفتاح على كل دول العالم، وإعطاء أولوية للتعليم، والتركيز على الحوار المستمر؛ طالما أن الظروف واحتياجات الإنسانية تقتضي ذلك، فإذا ما لمستم مثلًا تقاعسًا في الصلاة فينبغي أن تبرزوا أهمية الصلاة، وإذا ما بدا لكم تفككٌ في الأسرة فعليكم أن تصرفوا همَّتكم لإصلاحها وجمع شتاتها، باختصار: عليكم أن تحاولوا إعادة التوازن العام من خلال تعزيز أيِّ جبهةٍ تشهد تراجعًا وضعفًا.

خلاصة القول: إن الدين عند الله الإسلام، والإسلامُ واحدٌ لا يتعدّد، وكلُّ مسلمٍ مكلّفٌ بأن يعيش الإسلام كما هو.. قد يرتكب بعض الأشخاص أخطاءً أثناء معايشتهم للإسلام، ومع ذلك فإن استغلال هذه الأخطاء لإطلاقها على الإسلام كدينٍ؛ إنما هو اصطيادٌ في الماء العكر، وللأسف هناك حاليًّا حالةٌ ضبابيّةٌ هائلةٌ في الفهم الديني لبعض القضايا الدينية، حيث اختلط كلُّ شيءٍ وانقلب رأسًا على عقب، وابتكر بعض الناس مصطلحات خاصّةً بالإسلام والمسلمين، بحسن نيّةٍ أو بسوء نيّةٍ؛ وبهذا ألحقوا الضرر بالإسلام بوعيٍ أو بدون وعيٍ، فيجب على المسلمين الواعين الانتباه إلى اللغة التي يستخدمونها، والكلمات التي ينطقونها، والمفاهيم التي يصوغونها.