يُطلق لفظ “الصحابة” على المؤمنين الأوائل الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه ونصروا دعوته؛ ومفردها صاحب أو صحابي، ومن المعاني التي تتضمّنها كلمة “صحابي”: المُرافق، والمُلازم، ورفيقُ الدرب، فهي تعني صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ورفقته، والسير على نهجه.. ورُبَّ صاحب أحيانًا أفضلُ من أخٍ، وربَّ أخٍ لك لم تلده أمك؛ لأن الأخ الشقيق لا يكون رفيق درب أخيه على الدوام، ولقد وفّى سادتُنا الصحابة رضوان الله عليهم شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، إلى جانب تضحياتهم الجليلة، وخدمة دينهم، فقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في كلِّ أمورهم، في منشطهم ومكرههم وعسرهم ويسرهم، وظلّوا صادقين في بيعتهم حتى آخر لحظةٍ في حياتهم.
ولا نجانب الصواب إذا قلنا: إن الله تعالى قد اصطفى نبيه صلى الله عليه وسلم بشخصه ورسالته ودعوته؛ واصطفى له أيضًا جماعةً من الصحابة على نمطٍ خاصّ يرافقونه وينصرون دعوته[1]، وبغضِّ النظر عن الثناء والتقدير الذي خُصّ به الصحابة رضوان الله عليهم في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فإننا عندما ننظر إلى الأداء المتميّز الذي اضطلع به هؤلاء الصحابة الكرام لا يسعنا إلا أن نقول: إن الله تعالى كما خصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم بشخصيّةٍ متميّزةٍ وصفاتٍ عاليةٍ، فقد اصطفى له أيضًا جماعةً ممتازةً من الصحابة يتمتّعون بتجهيزٍ خاصٍّ وصفاتٍ عالية.
لقد نَفَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قلوب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فكشف عن جميع الخصال والفضائل المكنونة فيهم؛ فكانت سببًا في صلابة إيمانهم، وصِدق وصفاء عبادتهم وطاعتهم، فهؤلاء الذين كانوا بالأمس القريب يعبدون الأصنام، قد استأصلوا كلّ مشاعر الشرك من داخلهم بعد دخولهم في الإسلام، واتجهوا بكلّ قلوبهم نحو المعبود المطلق، حتى صار كلُّ واحدٍ منهم زاهدًا عابدًا، حتى إن بعضهم فكّر في التخلّي عن بعض متطلّبات الفطرة البشرية كي يتمكّنوا من تفريغ أنفسهم تمامًا لعبادة الله تعالى، وينسلخوا من كلِّ العلائق الدنيوية، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادته في كلِّ الأمور أرشدهم إلى الصراط المستقيم، وبيّنَ لهم أن ما يفعلونه يجانب الصواب.
تأملوا معي حفنةً من الناس خرجت من قلب الصحراء، وصارعت القوى العظمى في ذلك الوقت، وألحقت الهزيمة بهم، ومع ذلك لم يحيدوا عن الحقّ والعدل وهم يفعلون ذلك، بل أقاموا الحقّ حيثما ذهبوا، أي رفعوا راية الحق، وجلبوا معهم الحقّ والعدل والإنسانية.
ولقد استفاد الصحابة أيَّما فائدة من جميع خصاله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب توجّههم الكامل إليه، فبعد أن كان الواحد منهم بالأمس يَئِدُ ابنتَه ويدفنها في التراب، تحول اليوم تحوُّلًا جذريًّا بفضل انضمامه بضعةَ أيامٍ إلى الصحبة النبوية المباركة؛ حيث انصبغوا بصبغة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعوا وكلهم آذان صاغية إلى اللآلئ والدرر التي تنساب من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم، وتحلّوا بالإيمان الثابت والتسليم الكامل والشفقة الكبيرة والأخلاق العالية، وكأن الإيمان الذي هو بذرة طوبى الجنة قد لامس شغاف قلوبهم، وبعد أن تغلغل بين جوانحهم نما وأثمر وآتى أكله، فقد أدركوا حقائق الدين وشعروا بها بشكلٍ خاصّ، فلم يتوقّف الإيمان الذي دخل في قلوبهم عند الجانب النظري فقط، بل سرى إلى جميع أحوالهم وسلوكياتهم.
ويكشف هذا الحوار الذي دار بين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سيدنا الحارث بن مالك رضي الله عنه عن البنية والعمق الداخلي لجماعة الصحابة رضوان الله عليهم: فعَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: “كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟”، قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: “انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟“، فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لَيْلِي، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: “يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ” ثَلَاثًا[2].
ربما لم يُفصح جميع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم عن هذا العمق الإيماني المكنون في داخلهم، واحتفظوا بسرهم بينهم وبين ربهم، ولم يكاشفوا به أحدًا، وفي الوقت ذاته لم يُفصحوا عن عشقهم وشوقهم وعبادتهم وطاعتهم، ولكن عندما ننظر إلى حياتهم وجهادهم في سبيل ربهم نفهم كيف ارتقوا بالإيمان إلى الذرى، ويُمكِنُ تشبيه إيمانهم بمياه البحار، انظر كيف يشتدّ صفاؤها كلما ازداد عمقها، إنكَ قَبْل أن تنزل الماء تظن أن الماء سيصل إلى ركبتيك، وعندما تخطو خطوةً تجد نفسك قد غطست إلى الأسفل تمامًا، ولم تستطع أن تصل إلى القاع؛ حيث أخفى صفاءُ المياه عمقَها، وهكذا كان إيمان الصحابة رضي الله عنهم.
والحقُّ أن لكلِّ إنسان عظيم صبغةً خاصّة، وتأثيرًا مختلفًا، وجاذبيّةً معينة، تمامًا مثل الأشياء المادية لها قوّة جاذبية تعتمد على حجمها؛ فمثلًا قوّة الجاذبيّة الأرضية تحافظ على ثبات القمر في مداره حول نفسه، وقوة جاذبية الشمس أكبر بكثير من جاذبية الأرض بالتناسب مع كتلتها، فهي تحافظ على ثبات الكواكب من حولها في نطاق جاذبيتها.. كذلك الحال بالنسبة للعظماء لهم جاذبية تتناسب مع قامتهم العالية، ولقد كان لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاذبية قدسية تجعل كلَّ من يقع في نطاق جاذبيّته لا يمكنه أن ينصرف عنه، حيث يدور في مداره كالأجرام التي تدور حول الشمس، وكانت صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم تسري إلى قلوب الجميع مِن حوله، وتؤثر فيهم.
فليس بوسع الإنسان ألا يندهش ويذهل وهو يشاهد الارتقاء العمودي للصحابة الكرام من أمثال عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي سفيان؛ رضوان الله عليهم أجمعين بعدما دخلوا في الإسلام، فلا يخفى ما فعله عمرو بن العاص في الجاهلية، ولكن بعد دخوله في الإسلام، وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لفترةٍ قصيرةٍ انقلبَ حالُه وتبدَّل تمامًا، حتى قال لرسول الله عندما أراد أن يُغنِمَه ويعطيه من المال: “يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، إِنَّمَا أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ وَالْكَيْنُونَةِ مَعَكَ”[3].
كما قضى خالد بن الوليد رضي الله عنه عمره في ساحات الوغى وعلى متون الجياد، ولما مات لم يخلّف بعده سوى فرسه وسيفه ودرعه، فكان سعيد بن زيد يقول: “رحم الله أبا سليمان! ما عند الله خير له مما كان فيه، ولقد مات فقيدًا وعاش حميدًا”[4].
ولم تبخل فتراتُ التاريخ المختلفة عن إنجاب أناسٍ مثاليّين نادرين يمثّلون روح الصحابة، وكذلك عصرُنا كباقي العصور، فهو يحفل بأناسٍ مثاليّين في إيمانهم وطريقة حياتهم، نذروا أنفسهم للخدمة الإيمانية، ومن أجل قضيّتهم وفي سبيل نشرِ إيمانهم؛ فقد هاجروا إلى بلدانٍ لا يعرفونها، وهؤلاء سيجزيهم الله تعالى أجرَ أعمالهم، لكن ومع ذلك يظلُّ موقعُ الصحابة مختلفًا واستثنائيًّا حتى بين هؤلاء، فليس بالإمكان العثور على جماعة مثاليّةٍ بنفس المستوى الذي امتلكه الصحابة؛ لأنه من المتعذَّر أن تُقارن جماعةٌ إمامُها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بغيرها، وإن جاز التعبير فيمكننا أن نقول: إنهم كانوا مولعين بالله تعالى، ومهووسين بالآخرة، فمحبة الله كانت تصيبهم بالذهول والثمل، من أجل ذلك كان الحسن البصري رضي الله عنه يقول: “لَقَدْ أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا أَكْثَرُ لِبَاسِهِمُ الصُّوفُ وَلَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ قُلْتُمْ: مَجَانِينُ، وَلَوْ رَأَوْا خِيَارَكُمْ لَقَالُوا: مَا لِهَؤُلَاءِ مِنْ خَلَاقٍ، وَلَوْ رَأَوْا شِرَارَكُمْ لَقَالُوا: مَا يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ”[5].
ولذا ينبغي أن نتذكر دائمًا المكانة الاستثنائية للصحابة رضي الله عنهم، ونوفّيهم حقّهم؛ حتى نتمكّن من تكييف وضعنا بالنظر إليهم، ولكن حتى لا نقع في اليأس يجب ألا نتجاهل حقيقة أن هناك أربابَ حقيقة آخرين سيتبوَّؤون مكانًا خلف هؤلاء الصحابة، فلو عرفنا الصحابة عن قربٍ فسنلزم حدّنا، وسنرجع إلى الوراء خطوةً عند الضرورة، وعندما نرى الفسائل التي شقّـت التربة قد بدأت تنمو وتترعرع نقول: لِمَ لا يحدث ذلك مرة أخرى؟! وبذلك ندفع اليأس عن أنفسنا.
كونوا على يقينٍ أنكم كلّما ازدادت معرفتكم بالصحابة؛ ازدادت محبتكم لهم، وشعرتم بعمقهم أكثر، وهذا منوطٌ إلى حدٍّ ما ببلوغكم مرتبة الكمال؛ فكلما تكاملتم في الإيمان والإذعان والفهم والحس والشعور؛ أدركتم عظمتهم أكثر فأكثر، وكلما فهمتم ذلك جاشت مشاعر الوفاء لديكم نحوهم، فإذا دخلتم في عالمهم الساحر أصابتكم الدهشة والذهول، وكلما اكتشفتم أنفسكم، وظهرتم على طبيعتكم رأيتموهم في المقدمة أمامكم، ومهما زدتم من سرعتكم فستشهدون آثارهم أمامكم؛ فلا يجب أن تبتعدوا عن عالمهم، وبما أنّ لكم عينين؛ فلا بد أن تنظروا بعينٍ منهما إلى أنفسكم، وبالأخرى إلى تلك الهالة النورانية التي كانت تحيط بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول مع الأسف: إن الصحابة أصبحوا ضحيّة لسطحيّتنا، فبسبب فهمنا الضيق للتسامح، وفهمنا المحدود للعبادة، وفهمنا القاصر للتضحية، وفهمنا السطحي للكرم غُمَّ علينا رؤيةُ عظمة الصحابة، وبدلًا من أن نتكلّم عنهم، وعما كانوا عليه من مستوى، وما كانوا عليه من صفاءٍ ونقاءٍ، أضفنا على شخصياتهم بعض اللمسات، وحاولنا أن نشبّههم بأنفسنا، وبدلًا من أن نحاول رؤيتهم بقدر عظمتهم اجتهدنا في أن نشاهدهم في حدود أنفسنا، وقناعتي المتواضعة هي أننا في حاجة ماسّةٍ إلى أن نجمع كلّ ما قيل عنهم قديمًا وحديثًا، ونعيد تقييمهم من جديد، ففي هذا تقييم لأنفسنا أيضًا؛ لأننا سنرى أين نقف الآن؟! وأين يجب أن نقف أصلًا في معايشتنا للدين؟!
باختصار، ما نحتاجه في الوقت الحاضر هو إحياء روح الصحابة؛ بإيمانهم، وعمقهم الداخلي، وصلتهم مع ربهم، وشعور العطاء لديهم، وعبادتهم، وتكريسهم حياتهم في خدمة دينهم، يجب أن نتّخذهم أسوةً، ونحاول أن نكون مثلهم، وأن نوجّه أنظار الجميع إليهم، ونحفّز فيهم الرغبة في أن يصبحوا مثلهم، فإذا كنا نفكّر في انبعاثٍ جديد فسبيل ذلك هو أن نكون مثلهم، فإذا أحْسَنَّا فهمَ الصحابة، واستطعنا أن نأخذهم قدوةً لنا، فيمكننا أن نستخرج من ذواتنا وأنفسنا نماذج جيدةً عندما يحين الوقت، ونكون مثالًا للآخرين قدر الإمكان.
[1] وقد رُويَ مرفوعًا: “إن اللَّه اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير“. (الجامع لعلوم الإمام أحمد بن حنبل، 15/136؛ القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 2/54)
[2] الطبراني: المعجم الكبير، 3/266.
[3] مسند الإمام أحمد، 29/338؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 12/288.
[4] السيوطي: جامع الأحاديث، 27/224.
[5] أبو نعيم: حلية الأولياء، 2/134.