دعاء الاستفتاح

دعاء الاستفتاح
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

إن كل ذِكْرٍ وفعلٍ يؤدَّى أثناء الصلاة فرضًا كان أو واجبًا أو سنةً أو حتى آدابًا؛ يحمل بين طيّاته معاني عميقةً تتعلّق بماهية الصلاة، وقد اختار المشرّع لهذه الشعائر أن تكون عناصرَ مكمِّلةً للصلاة، متمّمةً لها، مساهمةً في تحقيق كمالها.. والمقصود بالذكر هنا الآيات والأدعية والتسبيحاتُ التي تُتلى خلال الصلاة.

فعلى سبيل المثال كان رسولُ الله ﷺ إذا استفتح الصَّلاةَ قال: “سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ[1]، فكلُّ تسبيحٍ وتحميدٍ وتهليلٍ يتضمّنه هذا الدعاء المبارك يشكّل من جهةٍ ما لُبَّ الصلاة أو أركانها المعنوية.

وأوّل ما يتبادر إلى الذهن عندما نقول: أركان الصلاة؛ الأفعال الأساسية التي تشكّل الصلاة، أي تكبيرة الإحرام، والقيام، وتلاوة القرآن، والركوع، والسجود، وجلسة التشهّد الأخيرة، فهذه الأركان وإن لم تُذكَر مجمَّعة في موضعٍ واحدٍ من القرآن الكريم فإنها قد وردت مجزّأةً في مواضع مختلفةٍ منه، وجاء ذكرها صراحةً في السنة النبوية الشريفة سواء أكانت قوليّة أم فعليّة أم تقريرية.. وقد بيّن الفقهاء شروط الصلاة وأركانها تفصيلًا في كتب الفقه استنادًا إلى نصوص الكتاب والسنَّة، فالأركان التي ركّزوا عليها تحدّد شكل الصلاة وهيئتها؛ أي إنها توضّح كيفية أدائها.

أضف إلى ذلك أن للصلاة بعدًا وعمقًا معنويًّا يكمن في معاني الحركات والأذكار، وهناك بُعدٌ مختلفٌ تمامًا لمعاني الآيات القرآنية التي تُتلى فيها.. وبما أن القرآن كلام الله، فهو معجزةٌ ربانيةٌ تخاطب إدراك كلِّ عصرٍ، ولا تبلى مع تقادم الأيام.. أما الأذكار الأخرى التي تتخلَّلُ الصلاة، كالدعاء والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، فلها أيضًا معاني عميقة جدًّا، فالصلاة ذكرٌ من بدايتها إلى نهايتها، يشير إلى ذلك ابتداء الصلاة بالتكبير، وتكرار التكبير عند الانتقال من ركنٍ إلى آخر، وتكرار التسبيح في الركوع والسجود، والحمد عند الاعتدال من الركوع، وهكذا تذكّرنا تكبيرة الإحرام ودعاء الاستفتاح الذي يليها بالأركان المعنوية للصلاة ومعناها ونواتها.. فالمهمّ هنا ليس تكرار ألفاظ الأذكار والأدعية المحفوظة، بل قراءتها بتأمُّلٍ ووعيٍ وإحساسٍ وخشوعٍ.

كنت أحدثكمبين الفينة والأخرى عن صلاة بعض تلامذة الأستاذ النورسي، لقد كانوا يضعون أيديهم على آذانهم وهم في تركيزٍ عميق، ويأخذون في التكبير، وأحيانًا كانوا يكرّرون التكبير إلى أن يستشعروا معنى التكبير والصلاة في أفئدتهم، ويسمعوا نبض قلوبهم، وينسلخوا عمّا سوى ربهم، وكأنهم يتلوّون ألمًا وعذابًا، فإذا ما أصابوا هذه اللحظة ووصلوا إلى هذا المستوى كبَّروا وشرعوا في صلاتهم، وعقدوا أيديهم أمامهم.. ولا يجدر بنا أن نفعل ذلك من باب التقليد والتصنُّع، فالمهمّ أن يفعل المرء هذا ويستشعره بشكلٍ عفويٍّ وهو يدور في فلك المحوية للذات، فمن لم يستطع محو الـ”أنا” حدث عنده نوعٌ من الخسوف والكسوف، والحال أن الصلاة قد شُرِعت حتى يتمكن الإنسان من محوِ نفسه، ويشعر بأنه ماثلٌ بين يدي ربه، فإذا أدرك الإنسانُ هذه المعاني يبدأ في الارتقاء العمودي روحيًّا.

المقدّس والمنزّه عن كلِّ نقصٍ

بعد أن نشرع في الصلاة قائلين “الله أكبر”، نقرأ دعاء الاستفتاح الذي نستهلّه بتسبيح الله عز وجل وتقديسه بقولنا: “سُبْحَانَكَ اللهم”؛ بمعنى أننا نعلن عن أن الله تعالى مقدّسٌ ومنزَّهٌ عن الشرك والشريك والعجز، فلا إله غيره ولا معبود سواه، وكلُّ شيءٍ ظلٌّ من ظلِّ نورِ وجوده، فلا شيء يقدر على تمثيل أوصافه العالية؛ فالوجود عند “محيي الدين بن عربي” و”مولانا جلال الدين الرومي” هو مجرَّدُ أوهام وخيالات، ولكن هذا التصوُّر للوجود يتنافى مع تصوُّر “الإمام الرباني” و”الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي” و”الإمام الغزالي” وعلماء أهل السنة بشكلٍ عام، فحقيقة الأشياء عند علماء أهل السنة هي عبارة عن تجلّيات الأسماء الإلهية. أجل، الوجودُ هو انعكاسٌ لها، وتجلٍّ من تجلياتها، والقدرة على رؤية الأسماء الإلهية التي تتجلى في الوجود وإدراك حقيقة الأشياء؛ تعتمد على النظر إلى الوجود بالبصيرة دون غيرها، وإلا فقد يُصاب المرء بنوعٍ من العمى أو قد يتعرَّض للخداع البصري.. وهكذا يمكننا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه المعاني الكامنة في عبارة “سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ” التي تعبّر عن تسبيح الله وتقديسه.

هو اللائق بالحمد والشكر

بعد التسبيح في دعاء الاستفتاح نعبر عن حمدنا وامتناننا لله بقولنا “وَبِحَمْدِكَ”، ووفقًا لرؤية “بديع الزمان سعيد النورسي” فإن في “سبحان الله” تجلّيًا جلاليًّا نعبر به عن واحدية الله ووحدانيته.. أما الحمد ففيه تجلٍّ جماليّ نعبّر به عن أحديّة الله.. فالواحدية ينهلُ منها كلُّ موجودٍ، وتكشف عن تجليات الله العامة في الكون، وعن جلاله وعظمته جل شأنه.. أما التجليات الأحدية والجمالية فإنها ترد حسب جاهزيّة وخصائص كلِّ موجودٍ.. ولذلك فإن العبد عندما يقول “سبحانك اللهمّ وبحمدك” فإنما يُعرب عن جلال تجليات الله وجمالها، ورحمانية الله ورحيميته.. وثمة تفسيراتٌ مختلفة وفلسفاتٌ متعدّدةٌ للتجلّيات الواحدية والأحدية يضيقُ عنها هذا المقال ولا داعي لسردها والاستطراد بها هنا، وعلى أية حالٍ فعلى الإنسان أن يحاول الجمع بين هذين الأفقين، ويستوعب نقاط الالتقاء بينهما.

فضلًا عن ذلك فإن ابتداء سبع سورٍ من القرآن الكريم بالتسبيح، وخمسٍ منه بالتحميد يدلّ على أهمّيّة هذه الكلمات المباركة، كما أن احتواء الأحاديث النبوية الشريفة على كثيرٍ من الأذكار والتسابيح يُظهر مدى أهمية تعظيم الله تعالى والثناء عليه، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ[2]، فما من إثمٍ أو خطإٍ أو ذنبٍ تعجز عن محوه هاتان الكلمتان، ومهما كان الشيء الذي يُوضع في إحدى كفتي الميزان عظيمًا فلا بدّ أن ترجحه هاتان الكلمتان عند وضعهما في الكفّة الأخرى، ومع ذلك يجب التأكيد مرّةً أخرى على أن مجرَّدَ ترديد الأذكار في غفلةٍ ليس له أيّة أهمّيّة، بل الأهمّيّة تكمن في التأمل فيها، والشعور بها، والتفكر فيها عند ترديدها.

مصدر الخير والبركة

وبعد التسبيح والحمد نقول: “وَتَبَارَكَ اسْمُكَ”، وبذلك نعلن عن أن اسم الله هو مصدر اليمن والبركة بالنسبة لنا، ويمكن تفسير كلمة “تبارك” بمعنى المقدّس والمبجّل والمنزّه، إلا أن مجال استخدام الكلمة مختلفٌ نوعًا ما، فمن المعاني التي تنطوي عليها هذه الكلمة نسبةُ مصدر البركة إليه تعالى، وتنزيهُه عن كلّ عارضٍ يعتري المخلوقات، وتبرئته من كلّ ما لا يليق بشأنه وذاته، فمثلًا يقول الحق جل وعلا في بداية سورة الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (سورة الفُرْقَانِ: 25/1)، وسورة الفرقان تحمل اسم القرآن الكريم، ونظرًا لأن بركة الله هبطت على الأرض مع القرآن، وشملت البشرية جمعاء؛ فقد بدأت السورة بالتأكيد على أن الذّات الإلهية تليق بكلّ نزاهةٍ وتقديسٍ، وهي مصدر كلّ بركةٍ، ولذا كان لفظ “تبارك” يتكرّر بين الحين والآخر في مواضع مختلفةٍ من السورة.

فالمعنى في عبارة “وَتَبَارَكَ اسْمُكَ” لا يشير إلى الله تعالى مباشرة، بل إلى بركة اسمه الجليل سبحانه وتعالى، وأنا هنا لا أريد أن أدخل في جدلية “هل الأسماء الإلهية هي عينُ ذاته أم غيرها؟” فما يُعبَّر عنه بالأسماء هو الذات الإلهية، يقول الشاعر التركي “نيازي المصري”: “تبدو للعارف الأسماء في الأشياء، ويبدو المسمى في جميع الأسماء”.

صاحب العظمة والكبرياء

أما قوله “وَتَعَالٰى جَدُّكَ” فتعني تعالى كبرياؤك وعظمتك، فكما هو معروف فاسم المتعالي من أسماء الله الحسنى، ويعني أن لله تعالى علوًّا وتعاليًا ذاتيًّا، بمعنى أن هذا اللفظ يعبّر بشكلٍ آخر عن عظمة الله تعالى وكبريائه، ولقد كان بعض الصالحين يلوذون في أدعيتهم باسم الله المتعالي ويتوسّلون به قائلين: “يَا مُتَجَلِّي اِرْحَمْ ذُلِّي يَا مُتَعَالِي أَصْلِحْ حَاِلي”.

ثم يُختتم دعاء الاستفتاح بعبارة “وَلَا إلٰهَ غَيْرُكَ، وكأننا نقول: “اللهم إنه لا إله سواك، ولا معبود بحقٍّ إلّاك، ولا مقصود بالاستحقاق إلا أنت، فكيف ألجأ إلى بابٍ غير بابك! أعرضتُ عن كلّ ما سواك، واتّجهت بكلّ كياني إليك، ألوذ بعنايتك ورعايتك، وأحتمي برحمتك ومغفرتك”.

قُربٌ في قُربةٍ

إن الشخص الذي يتهيَّأ للصلاة عندما يسمع صوت المؤذّن يخطو أول خطوةٍ نحو التركيز في الصلاة، لا سيما إذا كان صوت المؤذّن نديًّا مؤثِّرًا يثير المشاعر ويبعث على الخشية فإن تأثيره يكون أكبر وأعمق.. فإذا توضأ العبد يخطو خطوةً أخرى، فإذا ما دخل المسجد وتنفَّس جوَّ المكان خطا خطوةً أخرى، كما أن السنن والنوافل التي تؤدَّى قبل الفرض تهيِّئُ الفردَ لأداء الفرض.. كلُّ هذه الأمور من الأهمية بمكان من أجل تهيئتنا للمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأداء الصلاة بوعيٍ كاملٍ، والانخراط فيها بكلِّ أحاسيسنا ومشاعرنا.

وما التكبيرُ الذي نبدأ به فرض الصلاة، وما دعاءُ الاستفتاح الذي يليه، وما سائر الشعائر الأخرى إلا عبارةٌ عن تهيئة المصلِّي للسجود الذي هو من أهمّ أركان الصلاة.. وبما أن الصلاةَ من خصائصها تقريبُ العبدِ من الله تعالى؛ فإن السجود فيها قُربٌ في قُربةٍ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ[3]، وعليه فإن السجود يمثّل اللحظة التي يقرعُ فيها المصلِّي على مطرقة بابِ الله، يذكر ويُكرِّر فيها اسمَ الله الأعلى (سبحان ربي الأعلى)، إذًا يبدأ العبد الصلاةَ بالتسبيح: “سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ”، ويداوم عليه حتى في السجود؛ وهو الموضع الذي يكون فيه العبدُ أقرب ما يكون من ربِّه سبحانه وتعالى.. وكما ذكرنا في البداية فإن الشعائر الشكلية من أذكارٍ وحركات لها أهميّة كبيرةٌ، لكن الأهمّ هو أن يتجاوز العبد الأشكال والصور والمظاهر، ويشعر بكلّ هذه التسابيح والأذكار في أعماق وجدانه.

اللهم أرِحنا بالصلاةِ وأشعِر أرواحنا بروحها وحقيقتها! اللهم آمين.

 

[1] صحيح مسلم، الصلاة، 52؛ سنن أبي داود، الصلاة، 122.

[2] متفق عليه.

[3] صحيح مسلم، الصلاة، 215؛ سنن أبي داود، الصلاة، 151.