أبطال النضج الإيماني

أبطال النضج الإيماني
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

تعاني الإنسانية اليوم مشكلات جمَّة في الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية على حد سواء، ويتعذّر للأسف اتخاذ خطوات حاسمة وطويلة الأمد لحل تلك المشكلات، ولا شكّ أن علاج هذه الأمراض التي تبدو مزمنةً، وحلَّ المشكلات التي تبدو مستعصيةً على الحلّ؛ لن يحدث إلا بجهود أبطال النضج الإيماني.

لقد ظلّ الأنبياء العظام الذين أُرسلوا إلى المجتمعات مرشدين وهادين على مرّ تاريخ البشرية، يناضلون ويجاهدون من أجل إيصال الناس إلى هذا النضج الإيماني؛ فتفانوا بأقصى ما يمكن من أجل تهيئة الناس وإعدادهم وإنضاجهم؛ ناضلوا دون توقّفٍ أو راحةٍ ليرتقوا بمجتمعاتهم إلى أفق الإنسانية الحقَّة، وعلى الرغم من أنه قد اعترض طريقَهم أراضٍ شائكةٌ وبحارٌ من الدماء والقيح، فإنهم واصلوا المسير دون أن ينشغلوا بها.

فمثلًا عندما كُلِّف مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بمهمّة الرسالة وما يكتنفها من دعوةٍ وتبليغٍ؛ كانت الإنسانية تعيش انحطاطًا مروِّعًا، وكانت ترزح تحت وطأة الفوضى والمادية، ويصوّر الشاعر “محمد عاكف” تلك الحقبة المظلمةَ في هذه الأبيات:

كانت الدنيا المعمورة في تلك الحقبة وذلك الزمان

تعيش في لجة أزمات، أسوأ مما هي عليه الآن

لقد تجاوز البشرُ الضباعَ وحشيّةً وافتراسًا

فالضعيف الحليم يأكلُهُ إخوانُهُ غيلةً واختلاسًا

فعمَّت الفوضى آفاق الأرض كلّها كالوباءِ الفتّاكِ

كما يُدمّر الانقسامُ الشرقَ اليوم ويَعِدُه بالهلاكِ

ثم يواصل قائلًا:

فأنقذَ ذلك المعصومُ البشريّةَ في نفخةٍ واحدةٍ

وهزم القياصرة والأكاسرة في حملةٍ واحدة!

وما ذلك إلا لأن النضج والكمال كان قد بلغ الذروة فيه صلى الله عليه وسلم، فجعل كلّ واحدٍ ممّن حوله بطلًا من أبطال النضج الإيماني.

ورغم ما كان يعيشه ذلك العصر من الظلم والظلمات فقد استطاع نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أن يكوّن مجتمعًا قدسيًّا نقيًّا، لا همَّ لأفراده سوى الفضيلة، ولا هدف لهم سوى الإخلاص ونيل رضا الله والشوق إلى لقائه عز وجل، حتى إن أحدهم عندما تلقّى بصدرِه الشامخِ رمحًا معاديًا أسقطه على الأرض شهيدًا مجيدًا لم يزد على أن قال في لحظاته الأخيرة: “فزتُ وربّ الكعبة”[1]، كما أن صحابيًّا آخر[2] فقدَ ذراعيه وهو يقاتل في سبيل الله، فاستخدم عضديه لحملِ الراية ورأسَه كدرعٍ مسخَّر لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضربات السيوف[3].. لقد واجهوا الموتَ بكلِّ ثقةٍ وجَلَدٍ ورباطة جأشٍ مقبلين غير مدبرين، إذ إنهم يرون الشهادةَ في سبيل الله وسيلةً إلى النجاة الحقيقية، وما هذا إلا ثمرةُ النضج الإيماني.

سبل إحراز النضج الإيماني

لقد ارتفع الصحابةُ من المجتمع المادي الكئيب المظلِم إلى مجتمع النبوة الفسيح، وأصبح  كل واحد منهم بطلًا من أبطال النضج الإيماني، وذلك من خلال ثلاثة عوامل وأسبابٍ مهمّة:

العامل الأول: أنهم كانوا يتشاركون الجوّ نفسه مع مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ويصطبغون بصبغته، وينهلون من معين نبوّته.

العامل الثاني: كانت آيات القرآن تتنزّل عليهم غضّةً طريّةً، الواحدة تلو الأخرى، فترشدهم وتوجّههم، فكانوا يتطهّرون تحت وابل الوحي هذا، وكانت الآيات تتناول الأحداث التي يعيشونها والنقاشات التي يُديرونها، بل وتتخطّى ذلك لتشمل الأفكار التي تدور في أذهانهم أو تخطر على بالهم، أي إنهم كانوا يعيشون حياةً خاضعةً لرقابة ورعاية الوحي باستمرار.

العامل الثالث: يقينهم الحقيقي بأن القرآن والوحي الذي يعيش فيما بينهم سيفتح لهم الأبواب المغلقة، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم، وسيفضح الخائن ويقوّم المخطئ ويُثني على المصيب.. كلُّ هذا كان يشحذ فيهم الإيمان، ويرفع مستوى الشدِّ المعنويّ، إلى أن ضربوا أروع الأمثلة في الثبات فلم يتزعزعوا في مواجهة الاضطرابات والكوارث التي تعرضوا لها، وواصلوا السير دون تردُّدٍ، وكانوا يعرفون كيف يواجهون أسوأ الظروف برضًا وطمأنينة.

أما في عالم اليوم، فقد تغيّر شكلُ الجهاد -على حدّ تعبير الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي-. نعم، في الحقبة الحالية تبوَّأَت دساتير القرآن والسُّنة الماسيّةُ مكان السيف المادي، فبالإضافة إلى التزامنا الشديد بمسارنا وقيمنا الخاصّة، نتقبّل الجميع كلًّا في موقعه الخاص به، ونحافظ على الحوار مع الجميع، ونخطو خطواتٍ لخلق جوٍّ من السلام العام في العالم.. علاوة على ذلك، فنحن نلتزم بالقيم الإنسانية العالمية، ونحاول الالتقاء -ولو حتى في أبسط النقاط المشتركة- مع من يختلفون معنا في المشاعر والأفكار، فالتفوُّق في عالم اليوم الذي تغيّرت فيه الوسائل المستخدَمة لإزالة العوائق بين الله والناس؛ مرهونٌ بالنضج الإيماني.

الحقيقة أننا لا نتمتّع بالمزايا التي كان يتمتّع بها الصحابة، فلسنا مثلهم؛ إذ إننا محرومون من مناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم المبارك، ومن كَونِنا المخاطبين الأوائل بالوحي الإلهي.. ورغم أن الرسائل التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد عبرت القرون الطويلة، فأنارت الأزمنةَ والعصور المتعاقبة إلى أن وصل بريقُها إلى يومنا هذا؛ فقد تفقد تأثيرها ونضارتها ورونقها في نظر البعض منا والعياذ بالله.

إلا أنه وبالرغم من ذلك فإن لدينا رسالةَ القرآن الكريم، وحياةَ رسولنا المثاليّة وأحاديثه الشريفة، أضف إلى ذلك التجارب والمؤلّفات التي قام بها المسلمون منذ قرون استنادًا إلى هذين المصدرين.. فإذا توجّهنا إلى القرآن بصدقٍ، وانشغلْنا به باستمرارٍ، إلى أن يصبح القرآن جزءًا لا يتجزّأ عن طبيعتنا وتكويننا الذاتي؛ فسوف يتسنّى لنا أن نجد فيه كلّ ما نبحث عنه ونحتاج إليه.. فنحن أيضًا يمكن أن نصبح أبطالًا للنضج الإيماني من خلال العودة إلى القرآن من جديدٍ، وقراءته كما لو كان يُنزَّل علينا، وفهمِ فلسفة السيرة فهمًا جيّدًا، والاعتناء بالإرث الذي انتقل إلينا من السلف.

وظيفة أبطال النضج الإيماني

يصف الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي المهمّة والمسؤوليّة العظيمة التي تنتظر الأرواح المخلصة التي نذرت نفسها لخدمة الدين بقوله: “مهمّة ترميم القلعة التي ظلّت خربةً لعدّة قرون”، ولسوء الحظّ، فقد دُمِّرت القيم الأساسية التي حافظت على المجتمع لعدّة قرون، وحدث تشوّهٌ مفزِعٌ؛ فلم يبق احترامٌ للدين أو للمقدّسات، وانقطعت الروابط التي كانت تصل بين المسلمين، وفسدت الوحدة والتضامن، ونُسيت مهمّة إعلاء كلمة الله.

إن التغلّب على هذه المشكلات مرهونٌ بالنضج الإيماني لدى الأرواح المتفانية المهمومة التي ترى نفسها مسؤولةً عن ترميم هذه القلعة الخربة التي تنتظر إعادة الإعمار منذ عدّة قرون؛ لأن هؤلاء الأشخاص الذين حقّقوا النضج الحقيقي بإذن الله وعنايته؛ لا تستعصي أيُّ مشكلةٍ على الحلّ بأيديهم مهما كانت كبيرة.

عندما أُمِر قوم سيدنا موسى عليه السلام بدخول “القدس”، قال لهم موسى عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/21)، إلا أنهم لم يكونوا يتمتّعون بعدُ بالنضج الإيماني الذي يؤدّي إلى الهدف المنشود، وقد أظهروا ذلك بجوابهم: ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/24)  فكتب الله عليهم “التيه” في الصحاري مدة أربعين سنة، حيث دفعهم إلى ممارسة نوعٍ من “السير والسلوك” كي يصلوا إلى النضج والقوام الحقيقي، وبعد أن أكملوا رحلتهم في السير والسلوك بعد مرور أربعين سنة، فتح الله تعالى لهم أبواب الأرض المقدسة على مصاريعها، فدخلوا المدينة بقيادة “يوشع بن نون”.

إنه لا يمكن حلُّ المشكلات بجعل الإسلام آلة للسياسة المعاصرة، ولا بالديماغوجية، ولا بالمزاعم الكبرى، ولا بالحماسة والخطابة، ولا بالأكاذيب والخداع؛ بل إن ذلك سيؤدّي إلى تفاقم المشكلات القائمة، ومن المؤسف أن ما يسمى اليوم بـ”الإسلام السياسي” قد قتل روح الإسلام، وربط المسألة بالخطابة والديماغوجية.

خلاصة الكلام: إن حلَّ المشاكل التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم والإنسانية جمعاء مرهونٌ  بالنضج الإيماني.. وتحقيقُ النضج المنشود يعتمد على تفعيل حياة القلب والروح، وتدريس العلوم الإسلامية، ومطالعة الأوامر التكوينية أيضًا.. وعلى حد مقاربة الأستاذ سعيد النورسي: “ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبإمتزاجهما تتجلّى الحقيقة”[4].. ويجب على فدائيّي هذا العصر أن يبذلوا قصارى جهدهم لإعادة جمع هذه الحقائق التي تفرّقت وضاعت، وأن يعتبروا ذلك مسؤوليّةً كبرى على عاتقهم.. عندئذ يمكن القول: إنه قد شُرع في حلّ مشكلات العالم.

[1] عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي: أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَوْمَؤُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ، فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلُوهُمْ إِلَّا رَجُلًا أَعْرَجَ صَعِدَ الجَبَلَ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَأَرْضَاهُمْ. (صحيح البخاري، الجهاد والسير، 9).

[2] وهو الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه.

[3] البيهقي: دلائل النبوة، 3/206.

[4] بديع الزمان سعيد النورسي: السيرة، ص 540.