الانفراجات الواردة بعد التضييقات

Herkul | | العربية

يقول الله عز وجل في كتابه المبين: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (سورة الشَّرْحِ: 94/5-6)، عند النظر في التجارب الحياتية المكتسبة سواء على مستوى الفرد أو الحياة الاجتماعية، يمكن رؤية كثيرٍ من الأمثلة حول هذا الأمر، وعند مطالعة التاريخ نجد أن الاضطهاد والتضييق يعقبه على وجه العموم انكشافٌ وانفراج، فمعظم التطورات والانفتاحات التي حصلت في حركة الخدمة قديمًا، قد حدثت بعد فترة من الاضطهاد والتضييق.

من المعلوم أننا تعرّضنا لكثيرٍ من الأزمات نتيجة الانقلابات المتعاقبة والمستمرّة منذ الستينات.. لكن كلّ هذه الأزمات كانت وسيلةً لتطورنا من حيث الكمية والكيفية على حدٍّ سواء، كما كانت سببًا في توجُّهنا التام إلى الذات الإلهية واكتسابنا شدًّا معنويًّا حقيقيًّا، وتوحيد صفوفنا، وأن نكون ظهيرًا لبعضنا كالبنيان المرصوص.. وبتعبيرٍ آخر؛ أجبرَنا القَدَر على وفاقٍ واتفاقٍ جبريّ، وعلى أن نلمّ شعثنا ونرتب أمورنا من جديد.. والوفاق والاتفاق من أهم الوسائل التي تجلب توفيق الحق تعالى وعنايته.

أجل، قد تكون الضغوط والأزمات التي تزعج الإنسان وتضغط عليه سببًا في فتح أبواب جديدة غير متوقّعة؛ لأن الناس في مثل هذه الظروف، يستخدمون ملكاتهم العقلية بشكلٍ أفضل، ويبحثون عن سبلٍ للتخلّص من الظروف الصعبة التي يمرون بها، فيجلسون ويتشاورون ويخطّطون لما يجب فعله، فمن الممكن أن تخطر على أذهانهم أفكارٌ مبتكرة، وتكون مصدر إلهام لهم.. أما في أوقات السعة والراحة التي تسير فيها الأمور بسلاسة، يستولي على معظم الناس الإلف والتعوّد، وتفقد النظرات بريقها، فيتسبب النظام القائم في العمى بمرور الوقت، فإذا ما حدث خطأ ما، يتم مراجعة ما تم إنجازه حتى اليوم مرة أخرى؛ لمعرفة ما إذا كان هناك أوجه قصور أو عيوب في الخطط والمشاريع، وهذا أيضًا من شأنه أن يكون سببًا في انفتاحات وتطورات جديدة، وإنشاء طرق بديلة على جانب الطريق الذي يتم السير فيه، وبالفعل تم اكتشاف ساحات جديدة للخدمة، فمثلًا كانت بعض الأزمات والصعاب سببًا في إنشاء أول سكن طلابي، كذلك جاء تحويل السكن الطلابي إلى مدرسة عقب ضغط واضطهاد مماثل، كذلك الضغط الذي تسبّب في غلق أول مخيَّماتنا، أصبح سببًا في إقامة عددٍ من المخيمات في أماكن متفرقة.

إننا لا يمكننا توقّع إلى أين سيوجّهنا الحق تعالى، وما الألطاف التي سيفاجئنا بها نتيجة الضغط والظلم الذي يتعرّض له رجال الخدمة في الآونة الحالية، ولكن ما يجب علينا فعله اليوم، هو أن نحسن قراءة الظروف التي نعيشها، وأن ننظر عن يميننا ويسارنا، ومن أمامنا وخلفنا جيدًا، حتى نتمكّن من استغلال موقعنا الذي نحن فيه بشكلٍ مثمِرٍ.. علينا كذلك حتى في أحلك الظروف وأصعبها أن نهتم بعملنا، وأن نركِّز على أداء واجباتنا، وأن نزيد من اجتهادنا مع التسليم التام والانقياد الكامل لله تعالى مهما كانت العواصف التي تواجهنا.. إننا لا نستطيع معرفة ماذا سيحدث غدًا، ولكن المهم هو إنجاز ما نستطيع فعله اليوم.

من المهم جدًّا ألا نصاب بالذعر أمام الضغوطات والاضطهادات التي نتعرّض لها، لقد أنعم الحق تعالى على من يتشرّفون بخدمة الدين بألطافٍ عديدةٍ حتى يومنا هذا، ومن يدري ما الألطاف الأخرى التي تنتظرنا! من يدري فربما يمتحننا ويبتلينا ببعض المصائب والآلام من أجل تهيئتنا للألطاف التي سيغدقها علينا فيما بعد! فهو يريد أن نستوفي حقّ الموقع الذي نمثِّله، فيسلبنا عز وجل الأسباب التي اعتمدنا عليها ووثقنا فيها واحدةً تلو الأخرى، حتى نتوجه إليه وحده بقلوبنا وكلِّ كياننا.

ومن المسلَّم به أن الإنسان في الغالب لا يلجأ إلى مسبّب الأسباب جلّ جلاله ما لم يكن في حالة اضطرار، أي ما لم تُسلب منه جميع الأسباب التي يتعلّق بها.. إنه ربما يرفع يديه داعيًا، ويضع رأسه على الأرض ساجدًا، ولكن دعاءه هذا لم يخرج عن دائرة الشكليات، إذ لا ينسلخ من نفسه، ويتوجه إليه تعالى بكلّيّته ما لم يكن مضطرًّا.

إن الإنسان يتعلق أحيانًا بنفسه، وأحيانًا أخرى بالأسباب، ولهذا يُعرِّض اللهُ تعالى عبادَه من حين لآخر لاضطرار مؤقت، حتى نتجرّد عن كلّ ما سواه ممن يحولون بيننا وبينه تعالى ويفتحون السبيل للخسوف والكسوف، وحتى يتجلّى سرّ الأحدية في نور التوحيد، فإذا نجحنا في هذا الامتحان، واستطعنا التوجّه إليه تعالى بقلبٍ مضطرٍّ؛ تحوّلت هذه المحن والمصاعب التي نمر بها إلى أطياف من الرحمة.

من جانب آخر، يمكن اعتبار الضغط والاضطهاد والأذى الذي نتعرّض له صفعةَ شفقةٍ من الله تعالى، أو بتعبيرٍ مجازي: قرصةَ أذنٍ خفيفة من الذات الإلهية، فربما لم نُحسن استغلال الألطاف التي أنعم بها علينا، وربما أخذنا قرارات هوائية بدلًا من مراجعة العقل الجمعي، وربما نسبنا الإحسانات والألطاف الواردة من الله تعالى إلى أنفسنا، ونتيجة لهذا، فإن الله تعالى -إن جاز التعبير مجازًا- يقرص أذننا قرْصةً خفيفةً من أجل إيقاظنا، وعودتنا إلى الطريق القويم مرة أخرى، فلو جعل الحق تعالى الأزمات التي نعيشها سببًا في خيرات متنوعة، فينبغي إدراك ذلك على أنه لطفٌ جبريٌّ من جهة ما.

لا تنشغلوا كثيرًا بمن يفترون عليكم ويشهّرون بكم، ويولون ظهورهم لكم، ويتخلون عنكم؛ فنظام المقاومة والتحمل ليس سواء لدى الجميع، وهناك من يغيِّر طريقه ووجهته بحسب شدة التيار، والتاريخُ مليءٌ بالمخدوعين الذين تحركوا تبعًا للحالة النفسية العامة للجماهير، فأخطؤوا وتشتتوا يمنة ويسرة، إلا أنَّ كثيرًا منهم عاد إلى رشده بعد فترةٍ من الزمن، وأدرك خطأه وعاد إلى حيث ينبغي، حتى إن بعضَهم وُفِّقَ في التعافي بقدر ما استغرق في الشتات.. قد يأتي يوم ويعود الذين أدركوا خطأهم إلى جانبكم، ومِن خلفِهم مَن كانوا يتبنّون نفس الموقف معهم، فلا يراودني أدنى شك في نزاهتكم القلبية والروحية.. ربما نكون قد وقعنا في الخطإ أو النسيان أو الإهمال بمقتضى طبيعتنا البشرية، ولكننا لا نطمح في شيء من الدنيا، ولا نبتغي شيئًا سوى رضا الله تعالى، ولم نتدنّ لأيّ طريقٍ غير مشروع.

لو نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى، فإن هذا قد يكون سببًا في التخلّص والتخفّف من أولئك الذين يتخلّون عنكم في أوقات الشدائد، وفي تساقط أصحاب الشخصيات الضعيفة.. والحاصل أن هذه الدعوة لا يقدر على تمثيلها وحملها إلا الشخصيات القوية والصادقة التي تنصر الدعوة ولا تتخلى عنها.

إننا لا نولي أحدًا ظهورنا، ولا نغلق أبوابنا في وجه أحدٍ، ولا نتخلّى عن أحدٍ أو نتركه في منتصف الطريق الذي تشاركناه، لكن ابتعاد بعض أصحاب الشخصيات الضعيفة الذين يعوقون مسيرتكم، ويُلقون بالشبهات في قلوبكم وصدوركم، ويزعزعون قوتكم المعنوية بأحوالهم وأفعالهم؛ هو تجلٍّ آخر من تجليات الرحمة عليكم.

وينبغي ألا ننسى أنه إذا ابتعدنا عن الله، فإن كل شيء سينقلب علينا، أما إذا حافظنا على قوة صلتنا مع ربِّنا عز وجل، فإن الهزَّة التي نعيشها ستكون مؤقتة، قد يسلِّط الله عليكم -لحِكمة ما- بعض المفسدين الذين يضمرون الشرّ لكم، فإن اجتزتم هذا الامتحان بنجاح فستتحوّل الآلام التي تعيشونها إلى جماليات، حيث يعقب ظلام الليل نور النهار، فلا تحزنوا ولا تيأسوا، فإذا ما بلغ أنين “متى نصر الله؟” إلى أقصى درجاته؛ جاء المدد الإلهي، وفُتحت أمامكم أبوابٌ غير متوقّعة، فالأزمات بمثابة مفاتيح سرِّية للخروج من الضيق إلى الفرج، وللانفتاح على السعة والبركة.

فإذا كان الله تعالى قد أنعم علينا بألطافٍ وإحساناتٍ كبيرةٍ بهذا القدر نظير جهدنا القليل جدًّا حتى يومنا هذا؛ فمن يدري كم من العطايا سيغدقها علينا في المستقبل ما لم نخلف وعدنا! لا شبهة في ذلك ولا شك، فما أحرزناه حتى اليوم هو أصدق دليل على ما سيكون مستقبلًا.. لا ندري، فربما ستتضاعف وتتزايد المؤسسات التي أُنشِئت والخدمات التي قُدِّمت إلى اليوم، وستكون سببًا في أن يَنعم العالم بالسلام العام، وتنتشر القيم الإنسانية في كلّ مكان، فلا ريب في أن الخير فيما قدره الله وأراد، والواجب علينا هو مقابلة مراده تعالى بالصبر والرضا.

 

الارتقاء إلى الإنسانية الحقَّة وصلاح المجتمع

Herkul | | العربية

أيًّا كان الزمان أو المكان الذي نعيش فيه؛ فإن همَّنا الرئيس هو الارتقاء بالإنسان إلى أفق الإنسانية الحقَّة، فهذه الإنسانية التي أضاعت البوصلة؛ فتاهت منذ قرون في الأزقّة المختلفة، ولم تستطع أن تعود إلى رشدها؛ لا يمكن لأحدٍ أن يساعدها ويرشدها إلى مرتبة الكمال سوى الشخصيات المفعمة بشعور الإحسان، الطامحة إلى مرتبة الكمال.. أولئك سفراء القيم الإنسانية أينما حلّوا، قلوبُهم تنبض من أجل الإنسانية، ويُسهمون في انتشار مشاعر الخير والجمال.. وبفضل جهودهم ومساعيهم يمكن للصحوة العامة أن تحدث؛ فيبدأ الجميع في الحديث بلغة إنسانية مشتركة، والسعيِ نحو هدفٍ واحد.. وإذا ما تشكَّلت بيئةٌ على هذا المنوال؛ فإن الأشخاص الذين يجدون صعوبة في الوقوف بمفردهم سينضمون إلى نفس الجوقة بشعور جمعي، ويُنقَذون من الضياع.

غير أن إيمان المرء وحماسه قد لا يكونان كافيَين للحفاظ على صموده دائمًا، فقد تنهزم إرادته بين الفَينة والأخرى أمام أهواء النفْس وشهواتها، فإن كان هذا الشخص موجودًا ضمن جماعة يركض جميع أفرادها في إثر البِرِّ والخير؛ فمن الممكن أن يصمد هو أيضًا بفضل حماسهم هذا، ويحمي نفسه من فتنة النفس والشيطان.. تمامًا مثل الأشخاص الذين يتواجدون في الأماكن التي تؤدَّى فيها مناسك الحج كالمطاف ومنى ومزدلفة وعرفات، ويتشاركون نفس الحماس، فيؤثّرون في بعضهم، ويغذّون بعضهم معنويًّا، وحتى لو فقد المرء كلَّ عشقه وشوقه، فإن موجات الحماس التي تتشكل في هذه البقاع المقدسة، تحملكم أمامها، وتأخذكم إلى جوٍّ معنوي علوي لا مثيل له.

أجل، إن التزام الاستقامة في الحياة أمرٌ مرتبطٌ إلى حدٍّ ما بالتواجد في مجتمعٍ صالح وبيئةٍ مستقيمة، ومن هذا المنطلق، فإنه ينبغي لنا من جهة ما أن نعمل على بلوغ أفق الإنسان الكامل، ومن جهة أخرى أن نبذل أقصى ما في وسعنا حتى يتسنّى للآخرين بلوغ هذا الأفق.

والحق أنه لا يتيسر على الجميع دائمًا أن يقاوموا الفراغ ونقاط الضعف الكامنة في ماهيتهم وأن يقيموا صرح روحهم.. فكما أن صلاح المجتمع يرتبط بالأفراد الذين نشؤوا فيه نشأة سليمة، فإن ثبات الأفراد أيضًا يرتبط بدعم وتحفيز المجتمع الصالح لهم، فالإنسان الذي يقف بمفرده، من السهل أن تزلّ قدمه ويقع، ولا يقدر على مقاومة تيارات الضلالة المخيفة، ولا أمواج الذنوب العاتية، أمَّا إذا وجدَ من حوله جماعة تمسك بيده، وتمدّه بالقوة والطاقة؛ فإن فرصةَ محافظته على الثبات، وبقائه واقفًا على قدميه أكبر.

إن أحجار القبة عندما تترابط وتتراصّ فيما بينها، تتمكّن من الصمود أمام قوةٍ كالجاذبية الأرضية، وتحافظ على صمود وثبات الصرح الكبير الذي تُظلّله، وكذلك بنو الإنسان أيضًا، إذا ساند بعضُهم بعضًا فإنهم يصمدون، ويكونون أيضًا سببًا في صمود المجتمع.. وبناء عليه فإن تأمين مستقبلنا، يعتمد على تهيئة وسطٍ يمكّننا من أن يمنح بعضُنا بعضًا القوّة والطاقة بشكلٍ ما، وعلى جعل هذا الوسط مواتيًا للتزوّد بالطاقة ومواصلة السير، حتى إذا نفدت طاقةُ وقوة أحدهم في الطريق أثناء الركض لسببٍ ما؛ أمكنه أن يستمد الطاقة والقوة من أصدقائه ورفاق دربه؛ أي إنه سيواصل طريقه بدعمهم ووقوفهم بجانبه.. كذلك عندما تعجز ركبتاه عن الاستمرار في تسلّق جبال الطريق واجتياز عقباته؛ فإنّ الرياح الإيجابية التي يثيرها مَن حوله هي الكفيلةُ بحمله وتمكينه من الاستمرار في الصعود.

قد نفكر أحيانًا في أن الآخرين يحتاجون إلى أفكارنا وقيمنا، ربما يكون هذا صحيحًا، ولكننا بحاجة إلى إعداد أرضيّة صلبةٍ وبيئةٍ صالحة ووسط ثقافي؛ يتسنّى لنا من خلاله أن نعيش مشاعرنا وأفكارنا بأريحية، وهذا بلا شكٍّ أمرٌ ليس باليسير، فإن لم تكن قوّتنا كافيةً لتحقيق ذلك على نطاقٍ واسعٍ، فإنه يمكننا أن نحقّق ذلك في محيط مدينتنا أو قريتنا أو الحي الذي نقطن فيه.

إنّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم عندما شرَّف المدينة المنورة أسّس مجتمعًا مثاليًّا بفراسته وفطنته الكبيرة، ورغم كثرةِ وجود اليهود والمشركين والمنافقين في المدينة؛ فقد أصبح هو صاحبَ الكلمة العليا هناك خلال فترة وجيزة.. لقد كان هؤلاء يعملون في خلايا سريَّة لاستئصال شأفة المسلمين، ويتآمرون للقضاء عليهم، ويسلكون مختلَف السبل لإضعاف قوتهم المعنوية، ولم يتوانوا قط في إلحاق الأذى بهم إذا ما واتتهم الفرصة، وكانوا يفعلون كل ما في وسعهم ليطفئوا نور الإسلام في المدينة المنورة، ويقضوا على المسلمين.. ورغم كل هذه السلبيات فإن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، قد شكَّل وسطًا مثاليًّا في المدينة المنورة بنصرٍ من الله وعنايته، ومن ثم حُلَّت كثيرٌ من المشكلات بمرور الوقت، وجَفَّ مستنقع الشرّ شيئًا فشيئًا، حتى إن المنافقين قد انصهروا في هذا الوسط الصالح وانخرطوا فيه.

إن بنية أيِّ مجتمعٍ تتشكّل تبعًا لمفاهيم الأفراد الذين يعيشون فيه.. على سبيل المثال، إذا كنا في بقعةٍ يتحلّى الناس فيها بالقيم الإنسانية والإسلامية، فإننا أينما تجوّلنا في أزقّة هذه البقعة وحاراتها ومؤسّساتها وكلَّ ما نشاهده ونمرّ فيها يضيف حماسًا إلى حماسنا، وأذكرُ عندما ذهبت إلى إسطنبول في الخمسينات، زرت مساجد بعض السلاطين وأضرحتهم مثل “بايزيد، والفاتح، والسليمانية، والسلطان سليم”، لقد كنتُ أحبّ هذه الأماكن التاريخية كثيرًا، حتى إنني كنت أشعر كما لو أنني أتجوّل في المدينة المنورة تقريبًا، على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولا ريب في أن الإنسان الذي يعيش في عالم مثل هذا يكون بعيدًا بقدر كبير عن المعاصي والذنوب.

فالمدن التي أُسست في الوقت الذي ازدهر فيه الإسلام، تبعث في الإنسان نشوةَ المدينة المنورة، كانت هذه المدن بعمارتها، ومعابدها، ومدارسها، وتكاياها، وزواياها، ونظافتها، وجمالها مدنَنا، أينما توجّهت أو تجوّلتَ في ثناياها وأزقّتها العريقة تقابل أناسًا يتناثر من أفواههم اللؤلؤ والمرجان، وتختلط بأناسٍ إذا ذُكر “الله” امتلكهم حالٌ وكأنهم سيطيرون في الهواء من شدَّة الحماس والانفعال، وعندما يعيش أناس فُضلاء على هذا النحو في مدينة ما، تصبح هذه المدينة التي يعيشون فيها بمثابة المدينة الفاضلة.

لقد أكّدنا من قبل على أن الأرض لم تتعرَّفْ على المشاكل إلا مع وجود الإنسان على متنها، فلقد جاء الإنسان إلى الدنيا مهيَّأً لجميع ألوان الخير والشرّ، وذلك نتيجةً لقوّتين عظيمتين مُنحتا له، وهما العقل والإرادة، ففي طبيعته وجيناته قابلية للشرّ، فقد جاء إلى الدنيا ببعض النقص وجوانب الضعف؛ مثل الطمع والشهوة والعداوة والبغضاء.. فلا يمكن حلُّ أيِّ مشكلةٍ اجتماعية حتى تُحل المشكلة في الإنسان نفسه، وطالما لم يرتق الإنسان إلى الإنسانية الحقًّة، فإن هذه البيئة، تصير بمثابة بيئةٍ معطَّلة، وتسري هذه الحالة العامة للمجتمع إلى الأفراد الذين يعيشون فيه، ومن ثم فإنه سيكون من الصعب حقًّا أن ينشأ أو يعيش في هذا المجتمع أناسٌ كاملون.

إن الذين وُفقوا في الوصول إلى الإنسانية الحقَّة، يُكِنّون الاحترام للآخرين؛ فلا يحقرون أحدًا، ولا يتدخلون في اعتقاد أحدٍ، ولا مقدساته، ولا حياته؛ وبالتالي يسود بين أفراد المجتمع التسامح والتعايش السلمي، فلقد عاشت الأقليات جنبًا إلى جنب مع المسلمين لعصور مديدة، ومارسَتْ معتقداتها بحرّية تامة.

كذلك الأشخاص الذين يتشاركون المكان نفسه إذا اتفقوا على قيَم معينة، أمكنهم العيش معًا في هدوءٍ واستقرار، وعندها يؤمن كلُّ إنسانٍ بما يعتقده من قيمٍ دون أن يعترضه أيّ مانع، أو يساوره أيُّ خوفٍ، كما يستطيع أيضًا أن ينقل هذه القيم إلى حياته بحرّية تامّة، فلا يتدخل أحدٌ في شأن الآخر، ولا يتسلّط أحدٌ على الآخر.. ويمكنكم في مثل هذه الأجواء، أن تستغلوا ثمرات العولمة، وإمكانات التكنولوجيا المعاصرة في طرح قيمكم على طاولة الإنسانية، وبهذه الطريقة تستطيعون قطع مسافة كبيرة بشكل سريع جدًّا، يكفيكم عندما تفعلون ذلك، أن تظهروا جواهركم التي لا تُقدّر بثمنٍ، وتعرضوها بشكلٍ يناسب حقيقتها، وأن تتحرّكوا بطريقة بعيدةٍ عن أي سلوكٍ أو تصرُّفٍ يحطّ من قدر وقيمة هذه الجواهر، ولا تقصّروا في التحلّي بالتسامح مع الجميع، وتقبّل الآخرين كلٍّ حسب موقعه، ولا تثيروا مشاعر البغض والنفور، وتحتضنوا الجميع بحبٍّ وشفقةٍ.. فإن فعلتم ذلك، فُتحت لكم أحضان الشفقة، واستطعتم أن تقدموا القيم التي تؤمنون بها، وتشاركوها مع الإنسانية جمعاء.

وفي الختام، فإنه من الوظائف الرئيسة لمن نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام، هو تذكير الناس بإنسانيتهم وبالقيم الإنسانية المشتركة، وإرشادهم إلى أن الإيمان بالله واليوم الآخر هو حقيقة عظيمة لا يمكن إنكارها، وقيمةٌ كبيرةٌ لا يمكن تجاهلها، وحاجةٌ إنسانيّة ماسّة، فتُحيون بذلك حياتهم القلبية والروحية، فإن وُفِّقتم إلى ذلك، شعرتم بحماسٍ وانفعالٍ كبيرٍ أينما كنتم، فأينما نظرتم رأيتم ألوانًا ونسوجًا وصورًا من عالمكم.. لكن العمرَ قصيرٌ، والطريقَ طويلٌ، والأمر يستحق الاهتمام وعدم التأخير، فكلما تحركنا بشكلٍ سريع، وحافظنا على إعلاء شأن الخدمة؛ زادت أهمية الأشياء التي سنقدمها للإنسانية بإذن الله وعنايته..

نحن لا نركض في إثر اليوتوبيا والخيالات، فإننا نعرف الحقائق الإنسانية جيّدًا، ويمكننا حساب الأمور وتقديرها بقدرها، ونحن على وعيٍ بثقل وحجم الوظيفة التي على كاهلنا، فإن استطعنا أن نؤدّي مهمتنا حقّ الأداء، وذلّل الله عز وجل لنا الصعاب بإذنه وعنايته، فلن يكون تأسيس المدينة الفاضلة ضربًا من الخيال.

 

ما وراء المحنة

Herkul | | العربية

الإيمان والإسلام والإحسان والإخلاص والرضا والشوق إلى لقاء الله؛ ألطافٌ ربانية لا يمكن مقارنتها بالعالم المادي؛ حتى ولو وُهب الإنسان الدنيا بما فيها من جمال وسلطنة وملك؛ فكل هذا لا يعادله واحدٌ في الألف من هذه الألطاف المذكورة سلفًا.. وهمُّ المؤمن في هذه الحياة الدنيا هو الوصول إلى الإيمان الخالص، وتوثيقُ الصلة مع الله سبحانه وتعالى، والفوزُ بشعور الإحسان، وتحري الإخلاص في الأعمال، والوصولُ إلى أفق الرضا؛ لأن القدرةَ على الارتحال من هذه الدنيا إلى الآخرة بطهرٍ ونقاءٍ، والثباتَ عند سؤال الملكين في القبر، وإكمالَ الرحلة الطويلة لعالم البرزخ دون تعثّر، والنجاةَ من أهوال يوم المحشر، ثم الظفرَ بنعيم الجنة، والفوزَ برضا الله ورضوانه؛ منوطٌ بهذا.

فما من نعمةٍ أعظم من سير المؤمن إلى الله طاهرًا مطهّرًا، فلو كانت المشاقُّ التي تصاحب الخدمة في سبيل الله ستتحوّل إلى ألطاف إلهية ونعم أخروية في الدار الآخرة -وهي كذلك لا شك-؛ فعلى الإنسان أن يجعلها غاية أمانيه، ويتقبّلها ويتحمّلها عن طيب خاطر. أجل، إذا قوبِلت هذه المشاق والصعوبات بالصبر والرضا فستتحوّل كلُّ آلام الدنيا إلى ملذات أبدية خالدة في الآخرة، فعلى قدر ملذات النعم الدنيوية تكون آلامها، أما الملذات الأخروية فلا ألم لها.

إذن يجب على الإنسان أن ينسج دنياه وفقًا لآخرته، ويقيّم ما يفعله تبعًا لها، ويعتبر الدنيا طريقًا مختصرًا يصل به إليها، أو حقلًا وبستانًا يؤتي أكله فيها، فإن المهام التي يؤدّيها المسافر في طريقه إلى الجنة، والمشاق التي يلاقيها؛ ستصير زادًا له إلى الآخرة، وذُخرًا خالدًا مخلدًا له في حياته الأخروية، فالمسافات التي يجب قطعها من أجل نعيم الآخرة إنما هي أطول مما يجب قطعه من أجل نعيم الدنيا، كما أن العقبات في طريق الآخرة أقسى من عقبات طريق الدنيا؛ فعلينا أن نُعدّ ونجهز أنفسنا وفقًا لذلك، ونأخذ زادنا بالكامل.

إن المكسب الحقيقي لمن يؤمن بالله حقًّا وصدقًا هو الفوز برضا الله ورضوانه ورؤيته وإقباله، والتعرّض لنسائم ثنائه، والدخول ضمن من يخاطبهم بقوله: “إني راض عنكم”، فكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “إن قضاء حياة ألف سنة وسنة بسرور كامل في نعيم الجنة لا يساوي ساعةً من فرحة رؤية جمال الجميل سبحانه”[1]. وفي كتاب “بدء الأمالي” الذي يلخص عقيدة أهل السنة نظمًا يقول الأوشي:

يراه المؤمنون بغير كيف * وإدراك وضرب من مثال

فينسون النعيم إذا رأوه * فيا خسران أهل الاعتزال

إنه سبحانه وتعالى مصدرُ كلِّ جمالٍ نراه في الكون من نظامٍ وانتظامٍ وتناغمٍ ومعنى ومحتوى وجماليات، ولا ننسَ أن قضاء حياة ألف سنة وسنة بسرورٍ في الدنيا لا يعادل ساعةً واحدة في الجنة، فلو أنكم ألقيتم نظرة على مشاهد الجنة في القرآن الكريم لأدركتم أن نعيم الجنة لا يمكن مقارنته بأي نعيم دنيوي.

أجل، كما تُمحى الجنة تمامًا في أعين مَن يظفرون برؤية الله تعالى في الآخرة؛ فكذلك تُمحى الدنيا بكل جمالها وأبهتها في أعين مَن شرفوا بدخول الجنة.. ستَسحرُ النعمُ الأخروية أعينَ الناس، وتسلب عقولهم؛ حتى إنهم ليقولون حينها: “هذه هي الحياة حقًّا!”، وأما سبيل الفوز بهذه الحياة فهو الإيمان والعبادة والإحسان والإخلاص والارتقاء في مدارج حياة القلب والروح كما ذكرنا في البداية، وكما يقول الصوفية: القدرة على السياحة في آفاق السير إلى الله، والسير في الله، والسير مع الله، والسير عن الله، وجعْلِ الدنيا مكانًا للفوز بالآخرة دون الانخداع بوجه الدنيا الفاني.

تشوّه صورة الإسلام

لكن ابتعد مسلمو اليوم كثيرًا عن مثل هذه الأفكار، وتركوا اللبّ والجوهر، وانخدعوا بالصور والأشكال، ويقع على عاتق من يتولّون الإدارة مسؤولية كبيرة في هذه الانتكاسية؛ لأنهم لم يحسنوا التطبيق والتمثيل، فشوهوا بأفعالهم وتصرفاتهم صورةَ الإسلام المشرقة، ورغم أنهم يدّعون أنهم مسلمون، ويتظاهرون بأنهم حماة الإسلام؛ فقد انغمسوا في مستنقع الظلم، وانتهكوا حقوق الأمة، وارتكبوا جرائم السرقة والفساد، ورشوا وارتشوا، وحاولوا التفريق بين الناس على أساس الدين واللغة والعرق والمذهب، وقمعوا مخالفيهم ومعارضيهم، وارتكبوا كلّ القبائح والفظائع باسم الإسلام، كلُّ هذا تسبب في تشويه وإفساد الدين، حتى إن الدمار الذي أحدثه ألدُّ الأعداء في القرون السابقة لم يكن في الغالب بهذا القدر من الفظاعة والشناعة؛ لأن المتصدي لهم آنذاك كان من أمثال آلب أرسلان، وملك شاه، وقليج أرسلان، وصلاح الدين الأيوبي، ونور الدين زنكي، وشريكوه، لقد كانوا جميعًا بمثابة النور الذي يثور على الظلمات، فتصدوا لمن يضمرون العداء للدين الحق، وحافظوا على عزة الإسلام وكرامته.

أما المشهد الحالي فمختلف تمامًا، فالأشخاص الذين يتوجب عليهم نصرة الإسلام يستخدمون الإسلام عمدًا وقصدًا في خدمة خططهم ومصالحهم، فيغيِّرون في أحكام الدين، ويفعلون ذلك بالأكاذيب وهم يحدّقون النظر في أعين المسلمين، نتيجة لذلك تشكّل في أذهان الناس مفهوم خاطئ، وكأن الإسلام -حاشاه- يسمح بكلّ الأدناس والخبائث، وخُيّل إليهم أن المرء يمكن أن يكون مسلمًا دون إقامة الصلوات وأداء العبادات، والأدهى من ذلك أنهم قد باتوا يعطون غطاءً شرعيًّا لكل ما يُمارَس من ظلمٍ وجَورٍ وفسادٍ، ومن يعارضون هذا المفهوم يُتهمون بالكفر والضلال.

 لقد تعرض الدين لدمارٍ كبير، وأُريد بالإسلام أن يتدنّى إلى مستوى النفاق، ولو اجتمع العباقرة، وذوو العقول النادرة، وأصحاب الفطانة والحذق والمهارة في العالم الإسلامي، واستخدموا أفضل وسائل التقنية والتكنولوجيا في عصرنا، وحاولوا تبليغ أصواتهم إلى جميع أنحاء العالم؛ فلن يستطيعوا تغيير وإصلاح الوضع الحالي ما لم يوجد مددٌ إلهيّ إضافيّ.

إن مما يؤسف له في عصرنا الراهن أن تدمّرتْ صورةُ الإيمان والعبادة والدين، ولم تعد الأسرة أو المدرسة أو المسجد تلبي حاجة الناس إلى الإسلام الحقيقي، فكلُّ شيءٍ أصبح مرتبطًا بعرَض الدنيا الزائلِ، والمصالحِ الدنيوية، والمنافعِ الشخصية، واستُغلّ حتى الدين في سبيل تحقيق ذلك.. أما عن المسؤولين الذين يمسكون بزمام الأمر في أيديهم فهمّهم الوحيد هو المحافظة على مناصبهم، ودوام سلطانهم، ولتحقيق ذلك لجؤوا إلى كل سبيل، فلم يدَعوا شخصًا إلا وعابوه وشوهوا صورته، ولجؤوا إلى شتى صنوف الكذب والافتراء للوصول إلى أهدافهم الخبيثة، ولم يتوانوا في ارتكاب أبشع الذنوب والجرائم، فأضلّوا بسياساتهم القذرة الجماهيرَ وخدعوهم، وسمّموا قلوبهم وعقولهم، ومن ثم فقد ابتعد الكثيرون فراسخ عن الإسلام الحقيقي، والعبوديةِ الصادقة، والحياةِ القلبية والروحية، وشعورِ الإحسان.

لم يتعرّض الإسلام لمثل هذا الإهمال وسوء الطالع الذي تعرّض له في القرن الحادي والعشرين، فقد تعرض في أزمنةٍ مختلِفةٍ لهجمات متنوعة من قِبل أعدائه، وجاء المحتلون وهاجموا حصنه المنيع، وحاول المنافقون أن ينخروا عظامه ويقطّعوا أوصاله، وتسلّط عليه الظالمون والمستبدّون، لكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا منه مثل ما نال هؤلاء اليوم، ولقد أُحبطتْ هذه الهجمات بفضل النضال الصادق من أصحاب القامات العالية، إلا أن الدمار كان هائلًا في القرون الأخيرة؛ حيث كان الاضمحلالُ والتعفُّنُ قد بدأ من الداخل، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (سورة الرَّعْدِ: 13/11).. هذا هو وعد الله، أما إذا حدث التغير والتشوّه في الداخل؛ أي إذا ابتعد المسلمون عن جوهر الدين وروحه؛ فإن الله سيسلب النعم التي وهبها لهم، ويُذهبهم، ويأتي بقوم آخرين.

الحكمة من الثبات والصمود

من الأهمية بمكانٍ أن يتجشّم أبطال الصلح والإصلاح كلَّ المصاعب، ويثبتوا أمام كل التحديات، وتتشوّف نفوسهم إلى الإيمان والإسلام والإحسان والإخلاص.. لكن مع الأسف لم يستطع الذين حصروا همّتَهم على الدنيا فحسب أن يفهموا ذلك أو يستوعبوه، فجعلوهم يقاسون شتى الآلام والمحن، ورغم ذلك ركّز هؤلاء الأبطال على الجوانب الإيجابية في البلايا والمحن التي تعرضوا لها، وحوّلوها إلى فرصة للاقتراب من الله، والاستعداد للآخرة بشكلٍ أفضل.. وبسبب الآلام التي عايشوها تلاشت الدنيا وما فيها من أمام أعينهم، وفضلوا السعادة الأبدية على الأبهة والعظمة الفانية.

إن الذين وهبوا أنفسهم للخدمة في سبيل الله يعدّون المعاناة التي لاقوها وكأنها لدغة بعوضة، فيلتزمون بالثبات والصمود أمامها، فإن كنتم تعتقدون أن الأرضية التي تقفون عليها تقوم على العدالة والإنصاف فلا بد من المثابرة والإقدام، فإن الحكمة من وجود الإصرار والصمود هو رسوخ القدم والثبات على الحق والعدل، لقد وهب اللهُ الإنسانَ صفةَ الإصرار والصمود من أجل هذا، فإن كنتم تؤمنون بعدالة المسار الذي تسلكونه فلن تتمكن ألف عاصفة من أن تحرككم من مكانكم، فعليكم أن تظلوا صامدين ثابتين على أقدامكم مثل شجرة الدلب التي تأصّلت جذورها في التربة منذ عدة قرون.

وإن الأرواح المبتلاة بداء العظمة التي لا همّ لها سوى تأسيس نظام عالمي يخدم حساباتها ومصالحها، وتوريثِ هذا النظام لأبنائها؛ لم يمنحوا المؤمنين الصادقين الذين ما زالوا يركضون حتى الآن في سبيل الله الفرصة لالتقاط أنفاسهم، فاضطروا أولي العزم من الرسل -مثل سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى عليهما السلام والكثير غيرهم- للخروج من بلدانهم وأوطانهم، فقد ترك كثير من الأنبياءِ والأولياءِ أوطانَهم، وهاجروا إلى الديار الأخرى، بسبب ظلم واضطهاد أهل الفساد والنفاق، ولكنهم نثروا البذور حيث رحلوا، وأقاموا الحدائق والبساتين.

بعد ذلك ستظهر أيضًا صنوف من مثل هذا الظلم والجفاء، فعليكم أن تنظروا إليها على أنها امتحان من الله وأن تفرحوا وتسروا من ناحية ما، لأن طريقكم هو طريق سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وسِبْطيه الحسن والحسين المطهرين.. فلا بأس من الشهادة ما دامت على طريق الحسين رضوان الله عليه، المهم هو أن يحفظنا الله من السير على طريق يزيد أو الحجّاج.

فلو كانت مهمتكم الأخذ بأيدي الناس إلى الحق تعالى، وإزاحة العوائق بين الله والقلوب، فأعتقد -وأنا أحسن الظنّ بالله- أن ساكني الملإ الأعلى سيُقبلون عليكم بالتهاني والتبريكات، ويزفون إليكم البشارات، فلا بأس أن يزعجكم السفلة والمنحطون ويقضّون مضاجعكم، طالما أن العالم سيصل إلى الطمأنينة على أيديكم ويلتقط أنفاسه من خلالكم.

 

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب العشرون، ص 278.

الناذرون أنفسهم للأهداف السامية

Herkul | | العربية

إن من علامات سيرنا على الطريق القويم هو استقرار العفة والعصمة في جذور قلوبنا، وتغلغلُ الرقة والأخلاق إلى أعماق نفوسنا، وعندما نصل إلى هذا الأفق فإذا ما وقعت أنظارنا على الأشياء السيئة والقبيحة فلن نرى جوانبها السيئة، وحتى ولو رأينا ما فيها من قبحٍ فلا نقف عنده، بل نجتازه ونمضي؛ حيث يكمن وراء هذه الأحاسيس السالفة الذكر بعض الآليات مثل الإيمان بالله، ومعرفة الله، ومحبة الله، وبفضلها نستطيع أن نضع إطارًا وسياجًا حول أفكارنا ومشاعرنا ونتحكّم فيها.

ولكن يا للأسف فقدنا -نحن السواد الأعظم من أفراد المجتمع- هذه المشاعر في يومنا الحاضر، وحاولنا تعويضها بأشياء أخرى، فلم نستطع التخلّص من التناقضات، وظللنا فترةً طويلةً لا نعرف قدر وقيمة النظم الإلهية، ولم نمثّل بحقٍّ القيم التي نتبنّاها كمسلمين.. من جانبٍ آخر حاول البعض أن يُظهر لنا الجميل قبيحًا والقبيح جميلًا، والطيب خبيثًا والخبيث طيبًا، فأضروا بقيمنا الأخلاقية والدينية؛ وبعض المنظمات الإرهابية التي تمارس أعمال العنف والإرهاب شوّهت وجهَ الإسلام المُشرق.. وقد حاول الكثيرون فهمَ الإسلامِ بالنظر إلى النماذج السيئة، فوقعوا في أخطاء متوالية.

ويا لها من نعمة عظيمة أنعم الله بها على الذين كرّسوا حياتهم لخدمة الإيمان والقرآن أن منحهم الفرصة لخدمة الإيمان والقرآن وسط كل هذه السلبيات، ونثرهم كالبذور في كل أصقاع الأرض، وأحسن عليهم بإمكاناتٍ ومؤسّساتٍ استطاعوا من خلالها الوصول إلى مواطني الدول التي هاجروا إليها.. فكلُّ هذه فرصٌ مهمّةٌ لإظهار حقيقة القضايا التي أُسِيء فهمها حتى الآن.

ومن ثَمّ لا ينبغي أن تتأثروا بالذين يُضمرون الحقد والكراهية والعداء لكم إذا كشّروا عن أنيابهم وأسالوا لعابهم بهدف الانقضاض عليكم.. قد يراكم بعضُ الذين جُبلوا على الكره والعداء -وهم أصحابُ الآفاق الضيقة- بشكلٍ مختلف؛ لأنهم يحملون عقلية ترى الأبيض الناصع أسود حالكًا، من أجل ذلك يعملون على أن يُبرزوا للآخرين الجميلَ فيكم قبيحًا، لكننا صرنا في زمنٍ يفتش فيه الكثيرون عن النور من حولكم، فعليكم أن تستغلوا كل مواهبكم وقدراتكم في سبيل الغاية التي نذرتم أنفسكم لها، دون أن تستنفذوا طاقتكم يمنة ويسرة.

لقد أنعم الحق تعالى عليكم حتى اليوم بالعديد من الألطاف الإلهية، فكلّ ما حدث ويحدث هو من فضل الله تعالى وإحسانه عليكم، لقد استعملكم سبحانه وتعالى في الوظيفة التي عهد بها إلى الصحابة الكرام والتابعين الفِخام، ومَنْ بعدهم من المجددين والمجتهدين، فلم تتركوا بلدًا إلا ورحلتم إليه، وفتحتم مئات المؤسسات في مختلف أنحاء العالم، فلله الحمد والمنة ألف ألف مرة، فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى وأعلى من الكل.. وكما كلّف الله النمل أن يصنع لنفسه قبابًا تفوق قدراته ومهارته، فلا ندري لأي سببٍ أحسن سبحانه وتعالى إلينا بهذه الألطاف على مستوى الشرط العادي، ولعلّ الإخلاص البادي عليكم إلى حد ما، والوفاق والاتفاق بين الإخوة؛ كانا سببًا لاستدرار لطفِ الله وتوفيقه وعنايته.

فطالما حافظتم على مستواكم واستقامتكم، وصُنْتُم سلامةَ فكركم ومشاعركم؛ فمن يدري ما الألطاف الأخرى التي يمكن أن يحسن بها ربُّكم عليكم! وما دمتم تواصلون السير على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تتطلّعون إلى المقام والمنصب، ولا تتشوّفون إلى المنافع الدنيوية؛ ولا تقعون تحت وصاية أحد، وتؤثرون إحياء الآخرين على حياتكم، وتواصلون السير نحو الشمس دون الركون إلى الظلال؛ فستستمر هذه الألطاف بفضل الله وعنايته.

فلا تلتفتوا إلى الرياح المعاكسة، ولا إلى الأمواج المتلاطمة، ولا تتأثروا بجلبة الظالمين، وما دام الله معكم فلن يتغلّب أحد عليكم، والذين يظنون أنفسهم أعزاء اليوم سيكونون أذلاء غدًا، والذين يظلمون الأمة اليوم سيتبعثرون يمنة ويسرة كالأوراق التي عصفت بها رياح الخريف، فلا يساورنكم الشكّ أبدًا في هذا؛ لأن الله يمهل الظالم حتى لا تبقى له معذرة في الآخرة، ولكن لا يُهمله، وإذا مُسّت غيرة الله اشتدت صفعته، وإنه سبحانه لَيُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته، هكذا تجري السنن الإلهية، وفي التاريخ شواهد كثيرةٌ على ذلك.

جدير بالذكر أن هناك فتراتٍ يكون للإنفاق والجهود المبذولة في سبيل الله قيمةٌ أكبر مقارنةً بالفترات الزمنية الأخرى؛ لأن الأوضاع شديدة الوطأة، ونحن اليوم نعيش مثل هذه الفترة الزمنية.. فالذين تسلّطوا في الماضي على الأنبياء الكرام والأولياء العظام وعباد الله المكرمين يمارسون الشيء نفسه اليوم عليكم، ولذلك علينا أن نصبر ونتحمل اليوم كما تحمل السابقون البلايا والمصائب الواقعة عليهم في الماضي.. لا بد أن نثبت على طريق الحقِّ الذي عهدناه دون القلق بشأن المشاكل التي نتعرض لها، وأن نحلّق كاليمامة، وأن نعدو مثل الحصان.

فما علينا القيام به بإذن الله وعنايته هو الهجرة إلى الأماكن التي تعذر علينا الوصول إليها حتى الآن، وأن نضاعف مؤسساتنا المفتوحة، وخدماتنا المبذولة، ومساعينا المتواضعة، فرغم أن الذين يركضون خلف أوهامهم لا يتوانون عن خداع الأمة بادعاءاتهم الواهية؛ فإن الله تعالى قد حقق على أيديكم الكثير من الإنجازات، وأملُنا أن يوفقنا سبحانه وتعالى إلى تحقيق أعظم منها!

  لا شك أنه سيخيب سعي الأرواح المظلمة التي حصرت همتها على عرقلة هذه الأعمال الخيرية، لكن المهم هو ألا نبتعد عن سبيل الله أو ننحرف عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وأن نحيا بمشاعر إحياء الآخرين، ولنذهب بالأمانة التي حملناها على عاتقنا إلى أبعد مكانٍ نستطيع الوصول إليه دون أن نتخلّى عن عزمنا القوي وإيماننا النقي.

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”[1].. ولذلك يجب ألا نكفّ عن قول: “الحمد لله على كل حال سوى الكفر والضلال”. أجل، ما دمنا لم نقع في الضلال، ولم نهدم جسور الحياة الأخروية، ولم نقطع صلتنا مع ربنا سبحانه وتعالى؛ فالحمد لله على كل حال!

فإذا ما نظرنا إلى الحياة من هذه الجهة فظنِّي أننا لن نهتزّ أمام العواصف العاتية، والأمواج المتلاطمة، والأعاصير المدمرة.. وسنواصل طريقنا قائلين: “لا كرب وأنت ربّ”، فماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَك؟ وَماذا فَقَدَ مَنْ وَجَدَك؟!

[1] صحيح مسلم، الزهد، 64.

عصر من يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة

Herkul | | العربية

إن حبَّ الدنيا لزينتها ومُتعها وشهواتها، هو إيثارٌ لها على الآخرة عن علمٍ وقصدٍ؛ وهذا من أعظم بلايا عصرنا.. إذ يُفتَنُ كثيرون اليوم بجمالياتها الآسرة، ويرتبط ضعاف الإيمان بها بكلّ كيانهم، ويحبونها لدرجة العبادة، ويفضّلونها على الآخرة، ويتشبّثون بها وكأنهم سيُخلّدون فيها أبدًا، ويُفنون أعمارهم خلف طول الأمل.

فإن أولئك الذين ترتبط قلوبهم ارتباطًا وثيقًا بالدنيا لا تخرج عبادتُهم عن كونها عبادةً شكليّةً وسطحيّة، إذ لا بد من ارتباط القلب بالله تعالى أثناء العبادة، وأن يتعلّق الإنسان بربِّه بكل كيانه، وأن يعبده بعشقٍ وخشوعٍ وخشيةٍ، مستغرقًا فيه دون انشغالٍ بما سواه تعالى، إلى أن تنساب أنّات قلبه على لسانه وشفتيه بِصِيَغِ الدعاء.. وما أجمل أن يوافق موضوعَنا هذا القولُ النفيس للشاعر “فضولي”:

 ليس بعارفٍ مَنْ يعرف أمور الدنيا وما فيها
وإنما العارفُ هو مَنْ لا يَأبَهُ بالدنيا وما فيها

فمن يتوجه إلى الله تعالى بصدقٍ تنمحي أمام عينيه كلُّ مفاتن الدنيا تمامًا كما تنمحي النجوم من مرأى السماء حينما تشرق الشمس، بل يأتي عليه وقتٌ لا يكاد يرى حتى نفسه.

وكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “إن هذا العصر قد جعل حتى المسلمين يستحبّون الحياة الدنيا ويرجّحونها على الآخرة على علمٍ منهم ورغبة”[1].. فللأسف لا هَمَّ لمن يصلّون في المسجد، أو يطوفون حول الكعبة، أو يتوسّلون ويتضرّعون إلى الله في عرفات إلا الدنيا، فلو أصغينا إلى دعواتهم لأدركنا أنها في الغالب لا تتجاوز المطالب الدنيوية.. وبصرف النظر عن سؤالهم الدنيا في دعائهم فإنهم يجعلون عبادتهم وعبوديتهم واسطة لطموحاتهم الدنيوية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الشريف: “رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ”[2].. إن الأساس في العبودية هو الإخلاص والصدق، وإن أيَّ إدخال للجاه والمستقبل، أو الأولاد والعيال، أو المقام والمنصب، أو الصيت والشهرة ضمن العبادة؛ قد يدنّسها ويشوّهها.. ومما يُؤسَفُ له أن عصرَنا هو عصر عبّاد الدنيا، ومن الصعب للغاية التخلّص من هذا الخطر.

يصوّر القرآن الكريم عصرنا بقوله: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ﴾ (سورة القِيامَةِ: 75/20-21)، فلو كان هناك مرضٌ أخطر من الوباء والطاعون والجذام والإيدز في عصرنا الحالي فهو ذلك المرض الذي يضع الدنيا في المقام الأول على نحو يلوّث العبودية ويدنّسها، وإذا ما تسلّط هذا المرض على أحدٍ لقضى عليه وأهلكه.. أدعو الله وأرجوه أن ينجو رجالُ الخدمة الذين وفقهم الله لإنجاز هذه الخدمات العظيمة من هذا الفيروس رغم كل الشرور والمعوقات التي وضعها الأشرار أمامهم.

إن أسلم طريقٍ للحيلولة دون الانجراف في دوامة الحياة الدنيا هو ارتباط القلب بالغايات السامية، والحرص على تحقيق المثل العالية، فلا يصحّ لمن جعلوا غايتهم إعلاء راية الاسم المحمدي الجليل في كلّ مكان أن يتغيّوا غايةً أدنى من ذلك، لأن مثل هذه الغاية السامية هي أهم من جميع المقامات والمناصب الدنيوية، بل ومن تأسيس مئات الإمبراطوريات في العالم.

إن من يبتغون رضا الذات الإلهية ويستهدفون الآخرة لا يولون أهمية لوجه الدنيا المتعلق بالجسمانية والحيوانية، والذين يرنون بأعينهم إلى رؤية الحق جل وعلا يصونون أعينهم عن رؤية أي شيء آخر، والذين يُقبلون عليه سبحانه ويتوجهون إليه يكفّون عن البحث عن أيِّ قبلةٍ أخرى يتوجّهون إليها، ولو تمثّلت لهم الدنيا بجمالها ورونقها وروعتها لَرَأوها شيئًا ضبابيًّا قذرًا معتِمًا، وربما لا يرونها شيئًا أبدًا.

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في معرض حديثه عن قيمة الدنيا وقدرها: “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ”[3]، هذا هو قدر الدنيا وقيمتها! فلِمَ إذن يطمح الإنسان الذي أُرسِل إلى الدنيا بجاهزيةٍ عالية إلى مثل هذا الشيء الدنيء في حين أن الأَوْلى به أن يطمحَ إلى الغاية، ويتمسّك بالهدف الذي يوصِّله إلى قممٍ شاهقة، ويجعله يظفر بنعمٍ تتجاوز جميع الخيالات.. أما الذين أسلموا قلوبهم للدنيا، وجعلوها شغلَهم الشاغل في حِلّهم وترحالهم؛ فقد أنفقوا كلَّ زادهم الأخروي لحساب الدنيا الزائل، ورحلوا إلى دار الخلود دون زادٍ ومتاع.

وعلى ذلك فحتى لا ننخدع بمفاتن الدنيا وإغراءاتها علينا أن نقوي الصلة مع الله تعالى، وأن نضع توجهَ الله، وعنايتَه، ومعيته، وحفظَه، وحمايتَه، ونصرَه، ومعونتَه؛ في البؤرة المركزية لأدعيتنا، فلا نكفّ عن الدعاء قائلين: “اللهم املأ قلوبنا بالشوق إلى لقائك!”، ولا نهمل التضرّع إلى الله، وندعوه أن يزيد إيماننا ويقيننا به وتوكلنا عليه وتسليمنا له وثقتنا به سبحانه وتعالى، ثم نعلم في النهاية أن كلَّ هذا لا يفي بحقّه سبحانه وتعالى.

ونختم كلامنا بأننا لا نستطيع أن نعبد الله حقّ العبادة، ولا نعرفه حق المعرفة، ولا نحمده ونثني عليه حق الحمد والثناء؛ فلعل اعترافنا بعظمته وصِغرِنا وضحالةِ عبوديتنا يمسّ مرحمته ويلامس سعة رحيميّته، فيرحم عجزَنا عن الوفاء بحقّ العبودية، ويجبُر نقصَنا، ويسدّ فراغاتنا.

فإذا أردنا أن نظفر بتوجّه الله ورحمته ورضاه ورضوانه في الآخرة فعلينا أن نطمح إلى هذه الغايات وننشدها دائمًا في الدنيا، وكما أكَّدْنا مرارًا فإن الإقبال يتبعه إقبالٌ أعظم منه، وإذا أدركنا هذا جيدًا، وعلِمْنا أن الدنيا الفانية ما هي إلا طريقٌ وممرٌّ للوصول إلى الله ولقائه؛ فلا يمكن لها أن تفرض نفسها علينا، ولا تفتننا بنعيمها ولا تخطف أبصارنا.. إننا إذا ما نظرنا إليها بهذا المنظار؛ فإن هذه الدنيا التي لا قيمة لها كالفحم والغبار؛ تتحول فجأة إلى ياقوت وألماس وزبرجد.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ص 132.

[2] سنن ابن ماجه، الصيام، 21.

[3] سنن الترمذي، الزهد، 13؛ سنن ابن ماجه ، الزهد، 3.

جيل القرآن

Herkul | | العربية

سؤال: يُذكَرُ في الجلسات الإيمانية مصطلح “جيل القرآن”، فمن هم هؤلاء؟ وما هي واجباتهم؟

الجواب: يُقصد بجيل القرآن ذلك الجيل الذي جعل هدفَه الأوحد إقامةَ مراد الحق تبارك وتعالى على وجه البسيطة، ومثَّل بحقٍّ الحقائق القرآنية التي يستمرّ هديها للناس حتى قيام الساعة، واتّخذ من اتّباع الهدي القرآني شعارًا له في أفكاره وأقواله وأفعاله، فأينما نظرتم وجدتم معاني القرآن تنساب من شتى أفراده، فهؤلاء يقفون أمام الله على الشكل الذي يريده الله ويقتضيه موقفهم في حضرة الله؛ ذلك أنهم جعلوا هدفَهم الأساسَ الآخرةَ التي هي موطن الجماليات الأبدية، لا الدنيا التي هي ميدان اختبار مؤقت.. إنهم يفضلون إحياء الآخرين ولا يطمحون إلى ملذّات الدنيا الفانية، بل إلى المكابدة والمعاناة في سبيل نعيم الآخرة الباقية.. يتحلّون بأخلاق القرآن فإذا ما رُؤوا ذُكِرَ الله تعالى كما جاء في الحديث الشريف[1].. من يتبعهم يصل إلى الله، وإن هؤلاء علاوة على معايشتهم وتمثيلهم للقرآن على مستوى حياتهم الشخصية قد نذروا أنفسهم لإحياء الحقائق القرآنية على مستوى الإنسانية جمعاء، وجعلها روحًا للحياة.

يوجد في العالم العديدُ من الأنماط العَقَدية، والمفاهيم الميتافيزيقية، والتصوّرات المتعلقة بالذات الإلهية، إلا أن المهم بالنسبة لنا هو ما يرشدنا القرآن الكريم إليه، كذلك الحال بالنسبة للمعلومات المتعلقة بالعالم الميتافيزيقي، فإن أصحّها وأصوبها هي ما يبلّغها الأنبياء عليهم السلام للناس، فالأنبياء قد عرّفوا البشرية بالذات الإلهية على أكمل وجه، وقدّموا أكثر التفسيرات الواقعية عن الموت والبرزخ والآخرة، فإن لم نُصغِ إلى صوت الوحي السماوي في هذه المسألة أخطأنا التصوّر والاعتقاد؛ ذلك أن أهل الكتاب لم يحافظوا على الوحي المنزَّل إليهم في صورته الأصلية، فوقعوا في بعض المزالق من حيث الاعتقاد، وأخطؤوا التفسير والتأويل، وسقطوا في بعض الانحرافات.

لا جرم أن العقل والإدراك البشري محدود، ولا يستطيع حتى الداهية من الناس تجاوز هذه الحدود، وكما قال الشاعر التركي ضياء باشا (ت: 1880م): “إن إدراك المعالي ليسَ من شأن هذا العقل الصغير، فإن هذا الميزان ينوءُ بهذا الحِملِ الكبير”، حتى الآن والعديد من الفلاسفة والمفكرين يتحدّثون عن وجود الله، ولكن من الضروري الإصغاء إلى الوحي للوصول إلى المعرفة الصحيحة حول أسماء الله وصفاته؛ لأن هذه مسألةٌ غيبيةٌ، القول الفصل فيها يتجاوز حدود إدراكنا، ومن ثَمّ فإن أسلم الطرق للحصول على معلومات دقيقة بشأن حقائق الألوهية والربوبية هو الإيمان بكلام الأنبياء، فمن المهام الرئيسة التي تقع على عاتقِ جيلِ القرآن التعرّف على الله من خلال الرجوع إلى الكتاب والسنة، وتعريفه للإنسانية على النحو الذي يشفي صدرها ويروي ظمأها.

يقول شاعر الإسلام محمد عاكف (ت: 1936م): “يجب أن يكون القرآن مصدر إلهامنا، ونبراس فكرنا”. أجل، لا بد أن يكون الأفق الذي أشار إليه الشاعر محمد عاكف هنا هدفًا رئيسًا لجيل القرآن، لقد تغير نهج الناس في قراءة الكون، واختلفت نظرتهم إلى الحوادث والأشياء بفضل تقدم العلوم، فإن لم تراعوا وجهة نظر هؤلاء الناس فلربما تنشأ بعض الفراغات في عالمهم القلبي والروحي كما حدث عند الكثيرين؛ ومن ثَمّ يجب أن تكون الأجيال التي نذرت نفسها لخدمة الإيمان والقرآن قادرة على تقديم الحقائق الميتافيزيقية للناس بطريقة لا تؤدّي إلى أيّ فراغٍ عقليٍّ وروحي وقلبي وعاطفي، وترضي الضمير، وتستقيم مع الفطرة السليمة.

ومن الجدير بالذكر أن هناك أناسًا يفهمون الفكرة التي عبر عنها عاكف في شعره بشكل مختلف، ويفسرون الموضوع بصورةٍ متباينة، ويتعاملون مع القرآن بمنهجية مغايرة، وينادون بضرورة إصلاح الدين بما يتوافق مع ظروف العصر، ويتعاملون مع القرآن على أنه مرتبط بذلك التاريخ الذي نزل فيه، ويزعمون أن بعض آيات القرآن غير صالحة اليوم؛ لأن بعض المبادئ التي تنصّ عليها تخالف المفاهيم والتصوّرات الحالية، ولذلك لا يستطيعون أن يتبنّوها أو يراعوها، اعتقادًا منهم أنها أنظمةٌ خاصّة بالمجتمع الجاهلي؛ ولذلك لا تلزمهم.

إنهم ينظرون من زاوية خاطئة، ويفكرون بشكل بعيدٍ عن الصواب، وللأسف فإن هؤلاء تحرّكهم اليوم توجهات سريعة الزوال، فهم يؤمنون باستحالة العيش على غير نمط الحياة الذي نعيشه اليوم، ويعتقدون أن الرؤية العالمية التي يفرضها علينا العصر الحديث اليوم هي الرؤية الأكثر مثالية، ويرفضون مسبقًا كلّ أنماط التفكير الأخرى، وبالتالي فهم يرون أن بعض أوامر القرآن قد ولّى عهدها، وعفا عليها الزمن، ولا يمكن تطبيقها اليوم..

لا شكّ أن تعرُّض القرآن للهجر والإهمال منذ قرون، وتعذُّر فهمه وتفهيمه وتمثيله بالشكل الصحيح؛ له أثرٌ بالغ في ظهور مثل هذه الأفكار، ولو عايش جيل القرآن حقائق القرآن بحقّ، وجعلوها روحًا لحياتهم؛ لهرولت كلُّ الإنسانية أفرادًا وجماعات إلى عالمهم.

ولهذا فمن الأهمية بمكانٍ أن يعبّر رجال الخدمة أينما ذهبوا عن أفكارهم ومشاعرهم الخاصة بعوالمهم الذاتية، ومع ذلك فينبغي ألا تغيب الحقيقة التالية عن بالنا وهي: ليس من اليسير أن يتقبّل جميعُ الناس والشعوب والدول رؤى عالمية أخرى غير رؤاهم العالمية، أو يقدّروا قيمًا أخرى غير قيمهم؛ وهم أصحاب النفوذ الاقتصادي والأفكار المتحجرة والقوميات المتعجرفة، يبسطون سلطانهم على العالم منذ قرون، وينظرون إلى الآخرين بازدراء، ويتصرّفون وفقًا لنظامٍ طبقي ضمني غيرِ مسمّى، ويفرضون ثقافتهم الخاصة على العالم.

ورغم كل شيء فإنكم حينما تكشفون عن فضائل عالمكم الذاتي وتعايشون القيم التي تؤمنون بها؛ فإن هذا من شأنه أن يثير الدهشة والحيرة في نفوس الآخرين، ولقد شاهدنا أمثلة كثيرة على ذلك حتى الآن، لدرجة أن بعض الأكاديميين المخضرمين المؤثرين في محيطهم يقولون: “إذا كان هناك شيء يعد بمستقبل زاهر للعالم فهو هذه الحركة”، وكذلك فإن التمثيل الصحيح في المنتديات الصغيرة يثير مثل هذه الدهشة، بل وحتى التوهّجات الخافتة تدفع الناس إلى عالم أفضل، فهذه كلها مصادر أمل بالنسبة لنا.. المهم هو أن تحافظوا على مرونتكم، وتواصلوا حملَ عبءِ الخدمات التي لا تزالون تقومون بها، وتحسنوا الحديث عن دينكم وعن قيمكم التي تؤمنون بها، وتمثّلوها على أكمل وجه، فمهما كان حجم الضرر الواقع اليوم فاعملوا على إصلاحه، واسعوا إلى ترميم الأسوار المهدّمة، ورأب الصدع والشقوق، وغلقِ المنافذ والثغرات، واجتهدوا في إظهار جماليات الإسلام المبهرة حتى ينتفع عباد الله منها، وأحسنوا استغلال إيمانكم وحماسكم ومعرفتكم.

وبعون الله ومدده ستلقى هذه الجهود المبذولة منكم حسن القبول من مخاطبيكم إن شاء الله؛ لأن فطرة الإنسان تنطوي على شعور البحث عن الحقيقة، والشوق إلى الجمال والتوق إلى الكمال.

[1] سنن ابن ماجه، الزهد، 4.

مهمة فرسان الانبعاث

Herkul | | العربية

يقف وراء معظم المشاكل التي يعيشها الإسلامُ اليوم مسلمون تقليديون لم يستوعبوا روح الإسلام بشكلٍ كاملٍ، ولم يبلغوا شعورَ الإحسان والإخلاص، فسلوكياتُهم المنافية للمعايير التي وضعها الإسلام، وجهلُهم بحدود الحلال والحرام كانت سببًا في تشويه صورة الإسلام والمسلمين وزعزعة موقفهم.. ولذلك فإن الوظيفة الأساسية التي تقع على عاتق فرسان الانبعاث هي إعادة إحياء القيم التي ضيّعناها في حياتنا القلبية والروحية، والعمل على أن تكون هذه القيم بكلّ حيويتها جزءًا من طبائع الناس، وذلك لأن تخلّص الإنسانية من الإسلام الصوري التقليدي منوطٌ بتلك القيم التي يأتي الإخلاص على رأسها.

وإذا ما شبهنا محتوى الإسلام بقصيدةٍ من الشعر لقلنا الإخلاص قافيتها، أي أن تؤدّى جميع الأعمال بشعور عميق بالعبودية وترتبط بالله تعالى، ومن المعلوم أن الإخلاص هو القيام بكلّ عملٍ كما أمر الله تعالى، وعدم التشوف إلى أيّ شيءٍ سوى رضا الله عز وجل، وعلى حد قول الأستاذ النورسي رحمه الله في مطلع الكلمة الأولى من رسائل النور: “أن يعطي الإنسان باسم الله، ويأخذ باسم الله، ويبدأ باسم الله، ويعمل باسم الله”؛ باختصار أن يشرع الإنسان في كل عمل مبتغيًا رضا الله ومرضاته.

علينا كلّما رفعنا أكفّ الضراعة إلى الله أن نسأله الرضا والإخلاص، فهذا مهم للغاية حتى إن الإنسان لو بقي يسأل الله الإخلاص والرضا صباح مساء فهذا قليل أيضًا، لأن أعظم هدفٍ تتحقّق من خلاله الغاية من الخلق هو أن ينأى المؤمن بنفسه عن أي غرضٍ دنيويّ، وتستيقظَ لديه مشاعر العبودية الخالصة لله، فقمّة العبودية لا تتجلّى في الإعراض عن الأغراض الدنيوية فقط، بل في عدم ربط العبادات حتى بأيّ غرضٍ أخرويّ، والقيام بها من أجل الفوز برضا الله تعالى ليس إلّا.

ومن المعلوم أنه ليس من اليسير بلوغ مثل هذا الأفق، فثمة أشياء كثيرةٌ تتسلّط على الإخلاص، وتخرقه، وتقرضه كالعثّة، ومن ذلك على سبيل المثال: الغرائزُ البشرية، والسكون إلى الدعة والراحة، وحب الشهرة، والمشاعر الانهزامية، والمصالح الدنيوية… إلخ؛ فهذه كلّها تُبعدنا عن الإخلاص، وتمنعنا من الانفتاح على الآخرة وعالم الملكوت، وتُفقدنا أعظم الامتيازات، وحتى الذين سلكوا الطريق القويم إن لم يتوخوا الحذر تتزعزع دعائم الإخلاص عندهم بسبب دناءة مشاعرهم وتفاهة طموحاتهم، ويتعرّضون للسقوط، ويخسرون في موضعٍ هو أدعى للكسب، وإن كانوا يحسبون أنهم يسيرون على الطريق المستقيم.

والمهارة لا تعني القيام بالعديد من الأعمال، أو إنجاز العظيم من الأشياء، أو تسيير الكثير من الأمور، إنما المهارة الحقيقية هي ربط كلّ شيءٍ بمرضاته؛ إذ لا يوجد شيءٌ أسمى من التعلّق بمرضاة الله.. فإن لم نتمسّك بالإخلاص في أعمالنا وخدماتنا فسنخسر أنفسنا حتى وإن غيّرنا وجهَ العالم، ولو بدا لنا أننا من الرابحين في الظاهر فنحن في الحقيقة قد دخلنا عند الله في فئة التعساء الخاسرين، ولن يطول عمر الأعمال التي حسبنا أننا نجحنا فيها، بل تتلاشى وتصبح هباءً منثورًا، لذا ينبغي تحرّي الإخلاص في كلّ أمرٍ، وألا نتخلّى عن محاسبة أنفسنا في كلّ وقتٍ وزمان.

والإنسان يوفَّق في إخلاصه بقدر تعمُّقه في معرفة الصانع جل وعلا، فالوصول إلى الإخلاص الحقيقي مرتبطٌ بهيمنة معرفة الله على كيان الإنسان، فمثل هذا الإنسان إذا فتح فمَه أو نطق بلسانه أو رمش بعينِه أو حرّك قدميه استشعر أنه في حضرة الله، وما غاب هذا عن باله لحظةً؛ فنظراته عميقةٌ، وتصرّفاته جادّةٌ، ومواقفه رزينةٌ، وكلماته مهذّبةٌ، وكلّ سلوكياته تهدف إلى الإيمان بالله ومعرفة الله ومخافة الله، فلا يصدر عنه سلوكٌ أو موقفٌ غير لائق، فلو كانت معرفة الله تحيط بالإنسان على هذا النحو وتُهيمن عليه، فقد فاز بالتعمق في إيمانه، والإخلاص في أعماله.

إن المهمة الأساسية المنوطة بالذين يسعون إلى بعث حركة الإحياء وتمثيل الإنسانية والإسلام بالشكل اللائق؛ هو إحياء هذا الشعور بالعبودية، فالمسألة ليست تعويد الناس على الصلاة، بل جعلهم -إن جاز التعبير- مجانين بالصلاة؛ بحيث تكون قلوبهم -كما جاء في الحديث الشريف- معلقةً بالمساجد، ينتظرون الصلاة بعد الصلاة؛ فإذا خرجوا من المسجد بعد أداء صلاة الظهر تشوفوا إلى أن يرفع المؤذنُ أذانَ العصر حتى يهرولوا مرة أخرى إلى المسجد ليقفوا في حضرة الحق سبحانه وتعالى في خشوع وخضوعٍ وتسليم، ويخروا سجدًا، ويمرغوا وجوههم على عتبة بابه سبحانه، ويعلنوا عن عجزهم وضعفهم وفقرهم أمام عظمته سبحانه.. ولا يجب أن يكونوا مجانين بالصلاة فقط، بل بالصوم والإنفاق وسائر العبادات، ولا بد أن يكون لديهم عزم وتصميم على أداء كل العبادات بوعيٍ وإخلاصٍ.

وعلى عكس هذا الشعور بالعبوديةِ المفعمِ بالإخلاصِ يأتي أداءُ العبادات لمجرّد التخلّص منها، أي أداؤها دون أن تستشعرها خلايانا العصبية في المخّ، ودون وعيٍ حتى بأننا نقف أمام الله، فيجب على الإنسان أن يعزم على الوعي في أداء العبادات، وقد لا يشعر أحدُنا في أعماقه بهذا في بداية الأمر، لأن ذلك منوطٌ بالجهد المستمر والعزم القوي، وقد روي عن الجنيد البغدادي أنه لم يصل إلى أفق العبادة والمعرفة الذي ينشده إلا بعد ستين سنة، وبالمثل كان بديع الزمان سعيد النورسي يقول: إنه يسبح الله ويذكره بتسبيحات الصالحين متمنيًا أن يكون على شاكلتهم، فكان يشعر وكأن الكون كلّه يسبّح معه.. فالأساس هو أن يطمح الإنسان إلى هذا الأفق، وأن يبذل قصارى جهده لبلوغه.

فلو كنتم حريصين على التعمق في العبادة وكنتم مهيئين للوصول إلى أفق الإخلاص والإحسان فستصلون إلى مبتغاكم يومًا ما، إن لم يكن اليوم فغدًا، ثم إن عليكم أن تنقلوا ما تشعرون به إلى الآخرين، فهذه هي المسؤولية التي تقع على عاتق المنتسبين إلى حركة الإحياء، وكما ذكرنا آنفًا فإن هذه المسؤولية تتمثل في تخليص الناس من الإسلام التقليدي، والأخذ بأيديهم إلى الإسلام الحقيقي، وتوجيههم إلى حياة القلب والروح.. والحق أن تخلص الناس أيضًا من ضغوطات السياسة في وقتنا الراهن يعتمد على تقوية صلتهم بربهم من خلال هذا التوجه الروحي.

كلُّ ابن آدم خطّاءٌ، ولكن من وصلوا إلى هذا المستوى تقلّ احتمالية انحرافهم وضلالهم، وحتى وإن انحرفوا؛ فإنهم سرعان ما يهرولون إلى ربهم ويتوجهون إليه ويبثّونه همومهم محاولين التخلّصَ من رجس آثامهم وأخطائهم بالتوبة والاستغفار.. فلو ظهرت في مكانٍ ما جماعةٌ من الناس على هذه الشاكلة والمستوى لأصبحوا المنبع الذي يفيض بالخير على من حوله.

إن الإنسانية اليوم في حاجة إلى مثل هذا الانبعاث، وفي حاجة إلى أناسٍ يستشعرون الدين في أعماقهم ويعايشونه في حياتهم مثل سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، فعلينا الانشغال بهذه المشاعر السامية على الدوام، والسعي إلى تفعيلها، والدعاء والتوسل إلى الله أن يستجيب لمطالبنا في هذا الأمر، أما ما سوى ذلك فهي أمورٌ ثانوية بالنسبة لنا.

طريق العجز والفقر

Herkul | | العربية

نحن البشرَ نزاول كلَّ يوم كثيرًا من الأعمال المختلفة، ونتّخذ العديد من القرارات، لكننا في أغلب الأحيان لا ندري هل الأعمال التي نقوم بها والقرارات التي نتخذها يُقصد بها وجه الله تعالى أم لا؟! فربما تشوب الأنانيةُ أعمالَنا وتخالطها دون وعيٍ منا، نحسب أننا نتحدّث عن الله تعالى والحقيقة أننا نتظاهر بالعلم والمهارة والحذاقة، ونحاول أن ننسب العناية الإلهية في الوفاق والاتفاق بيننا إلى قدراتنا ومهاراتنا، ومن يدري ما الأخطاء الأخرى التي نقع فيها في حياتنا اليومية! فمثل هذه الأخطاء الخفيّة تحيق بمن يرغبون في معايشة الإسلام بحقّ، ومن الصعب للغاية أن يسلم من هذه المخاطر أولئك الذين لا تدور حياتهم في فلك المحاسبة والمراقبة، ولا ينكرون ذواتهم أمام ربهم عدة مرات كل يوم.

والواقع أننا إذا فكرنا قليلًا في وجودنا، وراعينا موقعنا أمام ربنا، وجعلنا ذلك غايةً لنا؛ فلربما نتحاشى الأطوار والعبارات التي تشي بمعنى الشرك الخفي، وكلّما فكّرنا في نعم الله تعالى علينا؛ أنكرنا ذواتنا قائلين: سبحان الذي هدانا لهذا العمل! وأدركنا يقينًا أن عزمنا وسعينا وإرادتنا وجهدنا هو ظلٌّ من ظلِّ ظلِّ مشيئتِه سبحانه وتعالى، فثمّة مسافةٌ طويلة لا بد أن نقطعها في هذا الشأن، حيث إن تحديد طور عبوديتنا وفقًا لوضعنا أمام ربنا سبحانه وتعالى يتطلّب جهدًا جهيدًا، وإلا وقعنا دون وعيٍ منا في خطإ نسبة ألطاف الله تعالى إلى أنفسنا؛ وهذا أيضًا نوعٌ من الشرك الخفي.

نعم الله علينا

إننا مظهرٌ لنعم الله تعالى الخارقة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، فقبل كلّ شيءٍ خرجنا من العدم إلى ساحة الوجود، ومن الوجود صرنا أحياء، ثم خُلقنا بشرًا، وزُوِّدنا بالعقل والشعور والإرادة، وفوق ذلك شُرِّفنا بالانتساب إلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته تبوّأْنا مكاننا بين المصلحين في وقتٍ يتعرّضُ فيه الإسلام للفساد والانهيار، ولن نستطيع أن نوفّي شكر هذه النعم، حتى لو ظللنا طوال عمرنا ساجدين دون أن نرفع رؤوسنا، ولكن جهلَ قدرِ هذه النعم وقيمتِها والكفرانَ بها؛ يجعل الإنسانَ ينقلب رأسًا على عقب.

والله تعالى يختص بنعمه من يشاء من عباده، فمنهم مَن يُنعم عليه بالمال والثروة، ومنهم من ينعم عليه بالسلطة والنفوذ، ومنهم من ينعم عليه بالصيت والشهرة، فلو أيقن العباد أنه سبحانه وتعالى مصدر هذه النعم، وتوجّهوا إليه بالشكر؛ فازوا وأفلحوا، أما إذا نسبوا النعم إلى أنفسهم، وجحدوا صاحبها؛ خسروا وهلكوا كما حدث مع “بلعم بن باعوراء” و”برصيصا” اللذين أشارت المصادر إلى مواطن الدروس والعبر في حياتهم، ومن يدري ربما ظهر عبر التاريخ الكثيرُ من أمثال بلعم بن باعوراء وبرصيصا؛ أساؤوا استعمال نعم الحق تعالى، فخسروا وهلكوا.

ولا داعي لأن نذهب بعيدًا في أعماق التاريخ، ففي زماننا الحاضر هناك كثيرون أعطاهم الله السلطة والنفوذ، والصيت والشهرة، والمكانة العالية؛ ثم نسبوا كلَّ هذه الإمكانات إلى أنفسهم؛ فتدمرت حياتهم عندما انخدعوا بإقبال الناس عليهم وتصفيقهم لهم، فلبسوا رداء الكبر والغرور، وجعلوا من أنفسهم محرابًا للجميع، فقد كانوا يرغبون في أن يرتبط كلّ شيء بهم، وتُطرح كل المسائل عليهم، وتُحلّ كل المشاكل على يديهم، ويُصغي الجميع لقولهم؛ فدمروا دنياهم وآخرتهم بعد أن سجّل التاريخ سيرتهم بين أقذر صفحاته.

إن الخسارة كلَّ الخسارة في عدم الحيطةِ من هذه الأمور، والذين نذروا أنفسهم للخدمة الإيمانية والقرآنية أيضًا معرّضون لمثل هذه المخاطر، ولو أنهم ألقوا نظرةً على سيرة حياتهم لأدركوا كمّ النعم غير المتوقعة التي أحاطهم الله بها، لقد خصّ الله تعالى رجال الخدمة في بداية الأمر بنعمٍ لا يتصوّرها عقل، لقد كدنا نطير فرحًا عندما افتتحنا بضعة بيوتٍ للطلاب، وأعظمنا ذلك في أعيننا، ولما تحولت البيوت إلى مساكن طلابية وزاد عددها أصبحنا في عجبٍ أكبر وذهولٍ أعظم، ثم تلا ذلك إنشاء مئات المدارس ليس في تركيا فقط، بل في بلدان مختلفة من العالم، وأعقب المدارسَ افتتاحُ العديد من المحافل الثقافية والمراكز الحوارية، إلى غير ذلك من المؤسّسات.. وإننا لا ندري ما الذي ينتهي إليه هذا الأمر، لكن لا ريب أن الذي تفضل علينا بكلّ هذا أمس سينعم علينا بالمزيد غدًا إن شاء الله.

فلا يمكن أن تُنسب الخدمات التي تحققت حتى اليوم إلى عبقريّتنا الشخصية وقدراتنا المحدودة، وإلا ظهر تناقضٌ كبيرٌ بين الأسباب والنتائج، ولا يخفى على أحد أن الله تعالى هو الذي أحسن إلينا بكل هذا، ولذلك فإن وظيفة العبودية الملقاة على عاتقنا تقتضي التوجّه إلى الله بالحمد والشكر على نعمائه.

 والحق أننا مهما توجّهنا إلى ربنا بالشكر والثناء له فلن نقدر على الوفاء بحق العبودية له، حتى ولو صمنا النهار وأقمنا الليل طيلةَ أعمارنا، وذهبنا للحج كلّ عام؛ فلن نؤدّي شكر النعم التي تفوق الحصر والتي أحسن الله بها علينا، ولذلك فعلينا ألا نقنع بعباداتنا وطاعاتنا.

“لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”

يجب على الإنسان أن يعيش حياته بين مشاعر العجز والفقر والشوق والشكر، ولو راودت عقلَه فكرةُ أن يعزو شيئًا لذاته فعليه أن يعرض حاله على ربه ويئِنّ بقوله: “مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ يَا مَعْبُودُ، مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ يَا مَعْرُوفُ، مَا شَكَرْنَاكَ حَقَّ شُكْرِكَ يَا مَشْكُورُ، مَا ذَكَرْنَاكَ حَقَّ ذِكْرِكَ يَا مَذْكُورُ، مَا حَمِدْنَاكَ حَقَّ حَمْدِكَ يَا مَحْمُودُ، مَا سَبَّحْنَاكَ حَقَّ تَسْبِيحِكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ”.

فإذا تمكنا من العيش على هذا النحو وتعاملنا مع هذه النعم بشعور الشكر والامتنان؛ زادنا الله من نعمه، لأنه تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/7)، وإلا فسنُحرم من الألطاف السبحانية..

 البعض يقول: “نحن أحفاد عرقٍ يصنع الأبطال”، فلو قلنا مثلهم: “نحن أفراد جماعة فتحت العديد من المؤسسات التعليمية في كل أرجاء العالم”، ونسبْنا كلَّ الجماليات إلى الأنانية الجماعية، وعزوناها إلى أنفسنا؛ فسنتعرّض للوعيد الإلهي الذي جاء في ختام الآية السابقة: ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/7)، فإذا أردنا دوام الألطاف السبحانية فعلينا أن نعترف بالصاحب الحقيقي للنعم أولًا، وأن نتوجّه إليه بالتقديس والتسبيح، وأن نقول: “إلهي، أنت مصدر كلّ النعم، وأنت الغني، وقد توجهْتُ إليك”.

من الصعوبة بمكان أن يتورع الإنسانُ بعد المدح والثناء الذي يلقاه من الآخرين عن نسبة ألطاف الله وإحساناته إلى نفسه، هذه مسألةٌ تتطلّب الحيطة والحذر؛ فقد تتلوّث أفكاركم ومشاعركم بمدح الآخرين لكم ببعض فضائلكم ومزاياكم، فتنسون الله، وتنسبون المزايا المذكورة إلى أنفسكم، ورأيي أنه لا ينبغي أن تكون مثل هذه الأفكار -التي يُشمَّ منها رائحة الشرك- موضعَ ترحيبٍ حتى في أخيلتكم، بل أقول ما هو أبعد من ذلك لا بدّ أن تتجنّبوا رؤية هذه الأشياء حتى في منامكم؛ لأننا إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر “فرويد” فسنجد أن بعض الأحلام هي تعبيرٌ عن مكتسبات العقل الباطن.

كل هذه الأمور هي متطلبات طريق العجز والفقر والشوق والشكر التي بيَّنها الأستاذُ سعيد النورسي رحمه الله استنادًا إلى المبادئ الأساسية في القرآن والسنة، فليس تفضّلًا من الإنسان إدراكُ عجزهِ وفقره، ولكنه اعترافٌ منه بالحقيقة وبموقفه العام، ولا يُتصوَّر من إنسانٍ حدّد موقفه أمام الله جيّدًا أن يكون تفكيرُه خلاف ذلك.

ومَن يرى ألطافَ الله تعالى التي تتنزّل عليه زخًّا زخًّا لا يتملكه اليأس والقنوط، فبما أن مقاليد كل شيء بيده، وطالما أن كل شيء يأتي منه ويعود إليه؛ فلماذا أستسلمُ لليأس؟! قد يكون المنظر في ظاهره محبِطًا، ولكن ما دمتُ أوقن بأنه هو الذي يمهِّد الطريق، ويهدينا إلى سواء السبيل، ويكفل لنا سلامة السير بالقضاء على الغيلان التي تترصدنا فلماذا ينتابني هذا الإحباط؟! وما دمتُ أومن يقينًا بأن الله هو الواهب والآخذ، وهو الواهب مرّةً أخرى فلِمَ أقع في مستنقع اليأس؟! بالعكس يجب أن أتمسك بالعزيمة، وأسلك طريق الشوق وهو أساس آخر في المسألة.

فلا حرج إطلاقًا أن ننظر بهذه النظرة إلى الأعمال التي نقوم بها، فالله تعالى بيده التقدير والتدبير، أما نحن فنشبه الأشخاص الذين كُلِّفوا بتعمير مبنى أصابه الخراب والدمار، فلو أننا نظرنا إلى المسألة هكذا، فسنتوجه بالحمد والشكر إلى الله تعالى على استعماله لنا في الأعمال الجميلة، ونحاسب أنفسنا قائلين: “يا تُرى هل أستطيع أن أستوفي حقّ الأعمال التي كلفني بها ربّ العباد سبحانه وتعالى؟ وهل أستطيع أن أستغلّ موقعي بشكلٍ مثمِرٍ؟

وكما أن ادعاء ملكية الألطاف الإلهية شركٌ خفي واغتصابٌ للحقوق الإلهية، فإن من الجحود أيضًا تجاهل كل هذا، فكلاهما خطأ، والأفضل هو إدراك ألطاف الله علينا، والتنويه بها من باب التحدّث بنعمة الله علينا، والتوجه إلى الله بالحمد والثناء على استخدامه لنا في مثل هذه الخدمات الجليلة.

استقامة الفكر

ليس من اليسير مطلقًا الحفاظ على استقامة الفكر في مثل هذه المسائل كما أوضحنا سلفًا، فهذا لا يتأتى إلا بسلوك الطريق المستقيم، ولكن قد يتعذّر الحفاظُ على سلامة الطريق بعد الدخول فيه، فتحدث بعض التعرّجات والانزلاقات، وقد لا تُراعى آداب الطريق، ولا يُستوفى حقّ هذه النعم، وبناء على ذلك قد يتلقى الإنسان صفعات الشفقة، ويتعرّض لبعض الابتلاءات من قبيل الإنذار والتحذير، فقد يُسلّط اللهُ عليه بعض الظالمين، ويتعرّض للتهجير والتهديد والظلم والقمع والإدانة والاعتقال والتنكيل، فإذا نظرنا إلى كلّ هذا على أنه صفعةٌ من صفعات الشفقة فإن المتاعب التي نلاقيها ستدفعنا إلى الرجوع إلى ربنا تائبين منيبين أوّابين، فإذا كانت تصرفاتنا لا ترضي ربنا فعلينا أن نستغفر الله ألف مرة وليس مرة واحدة.

فإذا قُيّم الظلم والقمع على أساس هذه الملاحظات فإن المشاعر التي تنتاب المرء إزاء الآلام التي يتذوّقها تتحوّل فجأةً من الكراهية والاستياء ومن القاعدة الظالمة “المقابلة بالمثل” إلى رحمةٍ وشفقةٍ، فلا يؤسف في ذلك إلا على من يكونون نقطةً سوداء في صفحات التاريخ.

إن الله تعالى قد استعمل رجال الخدمة الإيمانية والقرآنية حتى اليوم في خدماتٍ جليلة، وهيّأ لهم الكثير من الإمكانات مثل: التطهير -ولو جزئيًّا- للقطران المتناثر على الوجه الوضيء للإسلام، وتغيير الأحكام المسبقة ضدّ الدين، وإقامة جسور السلام بين الناس عن طريق الحوار والتعليم، وحتى اليوم يواصلون السير في الطريق نفسه، أملنا في الله تعالى أن تتضاعف هذه الخدمات وتستمرّ في المستقبل! فإن كنتم واثقين من سلامة السير، فستشعرون بالشفقة على هؤلاء الذين يحاولون اعتراض سبيلكم، ويطلقون ضدّكم الدعايات المغرضة، لأنه في اليوم الذي تُمسّ فيه غيرة الله ستعرفون كيف يخيّب المولى عز وجل مسعى هؤلاء الظالمين ويردّ كيدهم في نحورهم، وعندما تفكرون في الثمن الذي يدفعه هؤلاء الذين يظلمون الناس اليوم أمام المحكمة الإلهية، فستأسفون على حالهم، وتشفقون عليهم.

المراد الإلهي هو الغاية

Herkul | | العربية

لا جرم أن من يتوكّل على الله ويستعينُ به ويتشبثُ بالسعي والعمل ويستسلمُ للحكمة الإلهية؛ سيحالفه النصر في نهاية المطاف لا محالة، إن لم يكن اليوم فغدًا، وإن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.. لكن الإنسان خُلق عَجولًا، فهو يستعجل الجماليات التي يرغبها والنعم التي وُعِد بها، وإن لم يتحقّق ما يرغبه على الفور يستولِ عليه اليأس والتشاؤم في كثير من الأحيان، بل يصل الأمر إلى أبعد من ذلك إذا كان ضعيف الإيمان، فيقدّم مراد نفسه على مراد ربه، ويستغرق في أفكار لا تُرضي الله سبحانه وتعالى.

إننا نرجو من أعماق قلوبنا أن يغمر الله المؤمنين دائمًا بالألطاف السبحانية والتوجهات الإلهية زخًّا زخًّا، وألا يقطع عنهم مدده الإلهي، ولا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين، فمثل هذا الرجاء ينشأ عن ثقة المؤمن بالله وتطلُّعِه إلى معونته وعنايته؛ وهذه أمورٌ حسنةٌ، والأحسنُ منها أن نجعل المراد الإلهي هو الغاية في كلّ أمورنا، وأن نقدّمه على رغباتنا وأهوائنا؛ فإن اتخاذ مراد الله غايةً لنا في جميع أمورنا هو تعبيرٌ عن احترامنا لحقيقة “رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا”[1].

كم نرجو ونأمل أن تتهلّل وجوه المؤمنين الباكية منذ قرون، وأن ينهلوا هم أيضًا من الرحمة الإلهية مثل السابقين الأولين، وأن ينتهي بأسُهم وشقاؤهم، وأن يجمعوا شملهم ويلملموا شعثهم، وأن يرجع بهم الزمان إلى عهد الخلفاء الراشدين مرة أخرى ولو على مستوى الظلّية، وأن يسود الحق والعدل والحرية وجه البسيطة! هذه هي غايتنا المثلى، فلا بدّ أن نسارع إلى تحقيقها من جهة، وأن نتوسّل إلى الله بالدعاء من جهة أخرى.

لكن قد تتدخّل النفس في مثل هذه الغاية التي تبدو بريئة ومنطقية وعادلة، فلربما ونحن ندعو الله بأن يغمر المسلمين بالتوجهات الإلهية والألطاف السبحانية نجعل للنفس نصيبًا من دعائنا فلا يكون خالصًا لوجه الله الكريم، قد تُغرينا النفسُ والشيطانُ بالأعمال التي نعتقد أننا نفعلها من أجل الله، فلا أمان للنفس بحيَلِها وفخاخها، وكيف نأمن لها وحتى النبي يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام يقول: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/53)، معلنًا بذلك أن النفس لا يُوثَق بها ولا يُعتمَد عليها؛ ومن ثم حذارِ أن نثق بأنفسنا، فمن وُكِلَ إلى نفسه هلك وتردّى.

وهذا لا يعني ألا نكشف عن رغبتنا في نفْعِ الإنسانية والأمة المحمدية، لا ريب في أن المؤمن يتمنّى لإخوانه من المسلمين الذين يعتلج في صدورهم الألم منذ قرون أن يتخلّصوا من الآلام التي تعرضوا لها حتى اليوم، ويرجو أن يطلع الفجر وتشرق الشمس لينير عالم المضطهدين والمظلومين والمهجّرين، ويلحّ في الدعاء والتضرع إلى ربه من أجل هذا الأمر، وإنه ليسأل الله ما يسأل؛ ثقةً في سعة رحمة ربه وعظيم فضله، وهو على يقينٍ بأن الله سيستجيب دعاءه يومًا ما، فما من ليل إلا ويعقبه نهار، وما من شتاء إلا ويعقبه ربيع، ومع ذلك لا ينسى أن مراد الله هو الغاية، ولا يتوانى عن انقياده لتجلّيات الله وتصرّفاته سبحانه وتعالى.

ومن هذا المنطلق يجب على الذين كرّسوا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن على وجه الخصوص أن يجعلوا المراد الإلهي غاية لهم، وأن يعيشوا حياتهم وفق هذا المنهج.. أما بالنسبة للمصدر الوحيد الذي يمكننا من خلاله معرفة مراد الله سبحانه وتعالى فهو الوحي الإلهي؛ أي القرآن الكريم أولًا، ثم السنة النبوية الشريفة..

إن الوظيفة الأهمّ بالنسبة لهؤلاء هي فهم هذه الرسالة الإلهية ومعايشتها وتبليغها للآخرين، فالدنيا بالنظر إلى وجهها الدنيء لا تزن عندهم جناح بعوضة كما ذكر في الحديث[2]، فما قيمة الدنيا أمام رضا الله ورضوانه ورؤيته والنعيم الأبدي الذي أعده للمؤمنين! ولذلك تراهم يواظبون في دعائهم على قول: “اللهم أشبِع قلوبنا طمأنينةً وشوقًا واشتياقًا إلى لقائك ولقاء حبيبك وأحبائك!”.. وفي رأيي يجب ألا ينشغل الذين عزموا على إقامة صرح أرواحهم على وجه الأرض بشيء آخر سوى هذا الهمّ.

ورغم ذلك يعتقد أهل الدنيا الذين يجهلون نيّتكم الحقيقية وغايتكم السامية أنكم تلهثون وراء عرضٍ دنيوي زائل، ويقولون: عجبًا هل يطمع هؤلاء في السلطة؟! أم يجرون وراء الصيت والشهرة؟! أم يرغبون في حياة مترفة في القصور؟!… إلخ. فلا تحزنوا، وانسِبوا أحكامهم الخاطئة إلى جهلهم، واعذروهم، واسألوا الله الهداية لهم، وفوِّضوا أمرَ مَن ليس لديهم استعدادٌ للهداية إلى الله تعالى، ولا تشغلوا أنفسكم بهم.. المهم هو أن يسير الذين يتبنَّوْن دعوى إعلاء كلمة الله في طريقهم دون أدنى انحراف أو اعوجاج، وأن يجعلوا مراد الله غايةً لهم في كلّ أعمالهم، وحتى ولو تعثّر هؤلاء الذين ضعفت قابلياتهم واستعداداتهم، وساروا في المنعطفات، وتخبطوا يمنة ويسرة في الجداول والتلال؛ فلا بد إلا وأن يأتي يوم ينهضون فيه للسير في طريق سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.

[1] صحيح البخاري: العلم، 29؛ صحيح مسلم: الصيام، 36؛ سنن أبي داود، الأدب، 110.

[2] “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ”. (سنن الترمذي، الزهد، 13)

ليلة الرغائب

Herkul | | العربية

سؤال: يَذكر الأستاذ بديع الزمان أن ليلةَ الرغائب هي بداية الترقي المعنوي للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليلة المعراج هي عنوان وصوله إلى القمة؛ فما أهمية ليلة الرغائب انطلاقًا من هذه العبارة؟

الجواب: ربما توصَّل الأستاذ بديع الزمان إلى هذه الاستنتاجات بما صحّ كشفًا ومشاهدةً معنوية عنده.. وقد نجد صعوبة في فهم هذا المغزى ومناسبتِه وتخريجه.. لقد ذكرت بعض المصادر أن السيدة آمنة حملت به صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، غير أن قولًا كهذا غير صحيح، بالنظر إلى اليوم الذي شرَّف فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم العالمَ، وقد قال بعض العلماء الذين فطنوا إلى هذا الخطإ التاريخي: إن السيدة آمنة ربما أدركت في تلك الليلة أنها حملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس لدينا أية رواية صحيحة تؤكّد ذلك.

 وانطلاقًا من كلام الأستاذ بديع الزمان، يمكننا أن نفهم الموضوع على النحو التالي: إن نبيّنا صلى الله عليه وسلم قد بدأ في تلك الليلة رحلته إلى الله تعالى رغبةً منه في الحق تعالى، وتجهز للنبوة، وسلك السبيل الذي يجهّزه للمعراج، ويمكن أيضًا اعتبار ترقّي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -باعتبار حياته المعنوية والروحية- بمثابة ميلاده الثاني بمعنى من المعاني، وقد استفاد نبينا صلى الله عليه وسلم من المؤهلات الكامنة التي يمتلكها بتوجيهات الله وإرشاداته، ووصل إلى مستويات في العبودية لدرجة أنه كُوفئ بالمعراج ثمرة لعبوديته.. والحقيقة أنه ما كانت هناك ليلة “الرغائب” ولا “البراءة” -النصف من شعبان-، ولا “القدر” قبل البعثة أو في مطلع الإسلام، لقد تحددت هذه الليالي بعد تشريع الأحكام الدينية، لكن ربما تزامنت بعض الأحداث المهمة مع هذه الليالي.

وعند النظر إلى الأمر بشكل عام يتبيّن أن هناك روايات مختلفة عن فضل الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان ورمضان.. ويوجد في كل شهر من هذه الأشهر أيام وليالٍ مباركة، فالجمعة الأولى من رجب المبارك هي ليلة الرغائب، أما الليلة السابعة والعشرون منه فهي ليلة المعراج، وفي وسط شعبان تأتي ليلة النصف من شعبان أو ليلة البراءة، وفي أواخر رمضان المبارك تأتي ليلة القدر. بالإضافة إلى ذلك، هناك ليلةٌ أخرى مهمّة أيضًا بالنسبة لنا، ألا وهي الليلة الثانية عشرة من شهر ربيع الأول، ليلة المولد النبوي الشريف، فقد ظل المسلمون يحتفلون -منذ عصور طويلة- بهذه الليلة التي تحقق فيها الميلاد المبارك، وشرَّفَ مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم العالم، وذلك عبر قراءة الابتهالات الخاصة بالمولد والصلاة والسلام عليه وإقامة برامج وأنشطة مختلفة.. ومع أن ليلة المولد -التي شرَّفَ فيها النورُ الخالدُ عالمَنا- لا تشتهر بالاعتكاف والأدعية والطقوس الخاصة إلا أنه يمكن اعتبارها عيدًا بالنسبة للمسلمين.

وعودًا على كلام الأستاذ بديع الزمان مجدّدًا، فإنه أكد على قيمة هذه الليالي من خلال التعبير عن الفضائل التي نالها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا يعني أن ليلةَ الرغائب لها أهميّة مختلفة عن بقية الليالي من حيثُ الزمن، فثمّة ألطافٌ خاصّةٌ من الحق تعالى تتجلّى في أوقاتٍ معيّنة، فتجدُ ما يمنحُه الحقُّ تعالى من الثواب على عملٍ ما في الأوقات العادية يُضاعفه فيها عشرةَ أو مائةَ أو ألفَ ضِعفٍ، فهذه الأوقات المباركة تزيد العبادة وتباركها، إلا أن ذلك يختلِفُ من شخصٍ لآخر بحسب الاستعداد والجاهزية.

نعم، إن الأشهر الثلاثة، وخاصة شهر رمضان، وكذلك ليلة الرغائب والمعراج والبراءة والقدر تُكسب العبادات والطاعات عمقًا مختلفًا؛ فيُمْنُ الظَّرْفِ وبركَتُه ينعكسان على المظروف، ويمكننا أن نوضّح فضيلة هذه الأوقات بأرض وفيّة وشديدة الخصوبة، والبذور التي أُلقيت في صدرها تعطي سبعَ وربما سبعين سنبلة، كذلك العبادات المؤداة لله تعالى، فالقرآن يَعِد بمنح عشر أمثال لكل عمل صالح[1]، ولكن تخيلوا أرضًا كهذه تشبه أرض الجنة، ألقوا فيها أي شيء؛ فإنه ينمو ليصبح سنبلة على الفور ويُثمر.. وربما تخرج آلاف السنابل من كل بذرة، هكذا يمكننا أن نشبّه الأعمال التي تؤدّى في هذه الأيام والليالي المباركة بهذا المثال.

وبما أن الله عز وجل يتوجه إلى عباده في هذه الأيام والليالي المباركة توجُّهًا غير عادي، ويتضاعف أجر العبادات من واحد إلى ألف، فإن الواجب على المسلمين هو أن يستثمروا تلك الأوقات المباركة على أفضل وجهٍ وبشكل مثمِرٍ، ويملؤوا حقائبهم خلال هذه الفرص، لا سيما أن التضحية بالنوم في سبيل إحياء تلك الليالي لها أهمية خاصة.

وعلى الرغم من كثرة الكتب والمؤلَّفات عن فضائل الأيام والليالي المباركة واشتهار بعض الصلوات الخاصة بليلة الرغائب؛ إلا أنه لا توجد عبادة خاصة بهذه الليلة في الأحاديث الصحيحة.. ومع ذلك ينبغي للإنسان أن يصلي، ويتضرع إلى الله تعالى بالدعاء قدر استطاعته في هذه الليلة، حيث تستحب الأعمال الصالحة ويُضاعف ثوابها في الآخرة، فهذه الليالي فرصة عظيمة لاتحاد الدعوات.. وإذا اعتبر المؤمنون هذه الليالي فرصًا مهمة، ورفعوا أيديهم معًا إلى رب العالمين، وسجدوا، ودعوا الله وهم يذرفون الدموع خوفًا وخشية وطمعًا، فإن الله يستجيب لهم تلك الدعوات.

كما أنه من الأهمية بمكانٍ التوسّل والتضرّع إلى الله من أجل دفع البلايا التي تتعرّض لها الأمة المحمّديّة بصفةٍ خاصّة، وقد يطلب البعض أمورًا خاصّة لأنفسهم، ومن ذلك على سبيل المثال، أنهم قد يطلبون من الله بيتًا دافئًا، أو ولدًا صالحًا، أو خيرات دنيويّة؛ فيقول بعضهم: “اللهم هبني شاة، فأحلبها كلّ يوم، وهبني دجاجتين، فآخذ بيضهما”، وهؤلاء لا يمكن انتقادهم، إذ إنّ كلَّ شخصٍ يطلب وفقًا لهمته، ويطلب البعض ألا يقع في جهنم، وأن يصل إلى نعيم الجنة، وأن ينال شفاعة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. نعم، لا ينبغي تجاهُلُ هذه المطالب أيضًا، لكن هناك من لا يملك شيئًا من متاع الدنيا، وربما أنه يعيش بملابس مرقعّةٍ رثّةٍ، يئنّ في دعائه قائلًا: “إلهي، مُنَّ بالخير على أمّة محمد! إلهي خلِّص أمة محمد من هذا الشقاء والذلّ الذي وقعت فيه! اللهم اجعل اسمك الجليل يرفرف في كلّ مكان!” حتى إن البعض يعتبر الدعاء لأنفسهم مضيعة للكلام، وكل رجائهم يتعلّق دائمًا بأمة محمد، وبالإسلام الدين المبين.. إنها مسألة أفق.

ولا يحقّ لنا أن نلوم أحدًا أو نشنّع عليه في هذا الصدد؛ فإن من يغلقون الحياة على أنفسهم، ولا يستطيعون التخلّص من جسمانيتهم، ويحصرون أنفسهم في إطارٍ ضيّق، تكون مطالبهم وفقًا لهذا، وقد يقبل الله تعالى دعاءهم أيضًا، ويضعهم في الجنة، ويستجيبُ مطالبَ أصحابِ الوجدان الرحب والهمة العالية التي تشمل البشرية جمعاء، وفي رأيي، إذا كان الانفتاح على العالم واردًا حتى في الدعاء، فمن الضروري ألا نظلّ رهيني الضيق والانغلاق.

كما تأخذ الأدعيةُ التي تُؤدَّى في فتراتٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ -كالأدعية في بعض الأماكن مثل الكعبة وعرفات- الأولويّة بالقبول بسبب قيمة الظرف.. ويمكن أن يسمى هذا أيضًا انعكاسَ قيمة المكان والزمان على الأعمال التي تتمّ فيهما، والأكثر رجاءً أن تُقبل الأدعية التي تُرفع في الأماكن والأوقات التي يمنحها الله قيمة خاصة.. وإذا جاز التعبير: كما يوزع السلطان الأوسمة على شعبه في مناسبات مختلفة، فإن الحق تعالى أيضًا -تنزّهت ذاته تعالى عن التشبيه- يُحسن على من يرفعون أيديهم من حينٍ لآخر، بغضّ النظر عن مدى استحقاقهم، يكفينا أن نطلب إحسان الله وإكرامه بإيمانٍ وثقةٍ من القلب، ونرتبط به تعالى قلبيًّا، ونرجو منه فحسب ما نرجو، ولنحذر من الأدعية الباردة التي يُشَمُّ منها رائحة التردّد والشكّ مثل: “يُعطي إن كان سيعطي، ولا يعطي إن كان لن يعطي”؛ فمثل هذه الأدعية -حفظنا الله- يُضْرَبُ بها وجهُ صاحبها في الآخرة، ومما لا شكّ فيه أن إعطاء الله أو منعه أمرٌ يعلمه هو تعالى، لكن الواجبَ على العبد أن يُلحّ على ربّه تعالى في الطلب، وأن يؤمن بأنه المرجع الوحيد في هذا الأمر.

ويمكن أيضًا عمل أنشطةٍ خاصّة من شأنها أن تليّن القلوب وتُدمِع العيون في الليالي المباركة، ويمكن أن تمارس العبادات والطاعات بشكلٍ جماعيّ، وأن تُرفع الأيدي إلى الله دفعةً واحدة، وأن يُشكِّل مَن يجتمعون مرضاةً لله مناخًا مختلِفًا، فتلين قلوب الأشخاص الذين يدخلون في ذلك الجو، وعندما ينزوي الأشخاص إلى بيوتهم، يتوجهون إلى الله بقلوبهم التي رقّت ولانت، ويُعبرون عن أصوات قلوبهم.. وعلى الرغم من أن الأنشطة التي تُنَفَّذ بشكلٍ جماعيّ لها مذاقٌ ولونٌ فريدٌ، إلا أنها لا تستطيع أن تمنح السكينة والطمأنينة التي يمنحها بقاء المرء وحيدًا مع ربه، فالجوُّ العام ووجود الآخرين قد يمنع الإنسان من أن يبوح بما في قلبه لله بكلِّ أريحية، لهذا السبب من المهم جدًّا أن يبوح الإنسان لربه بقلبٍ مخلصٍ في مكانٍ لا يراه فيه أحد سواه.

[1]  ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/160).

السوق الإلهي

Herkul | | العربية

سؤال: تؤخذ الكياسة والمهارة في الاعتبار دون العناية الإلهية عند تقييم العوامل التي تقف وراء النجاحات والإنجازات العظيمة، فكيف نحقق التوازن بين إرادة الإنسان وبين العناية الإلهية، وما الموقف الجدير بالمؤمن في هذا الشأن؟

الجواب: من أكثر الموضوعات التي ركز عليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هي التوازن والاعتدال؛ أي لزوم المنهج الوسطي بعيدًا عن الإفراط والتفريط، والعيش وفقًا لهذا المنهج الفكري المستقيم، ولقد وردت كلمة “الميزان” في مستهل سورة الرحمن ثلاث مرات، يصحبها الأمر بعدم الطغيان فيه.. والميزان يعني التوازن والاعتدال، ويُشار به إلى ضرورة تحقيق ذلك في كل شيء، فلقد خلق الحق سبحانه وتعالى الكونَ كلّه في توازنٍ عظيم، وأقامه على ميزان حسّاس دقيق، وبالتالي لا بدّ أن يحافظ الإنسان على التوازن والاعتدال في عالمه الفكري، وفي حياته القلبية والروحية، وفي صلته مع ربه سبحانه، وفي علاقاته الإنسانية، وفي أطواره وسلوكياته، وأن يتحرّك وفقًا لنظام الكون، فإن اختل الميزان في شيء أصابه الانحرافُ والاضطرابُ والتصدعُ والانكسارُ، ومعيار الميزان في المقام الأول هو دساتير القرآن الكريم والسنة الشريفة ومبادئهما.

الإرادة الجزئية والكلية

والمسألة المذكورة في السؤال هي مسألةٌ تتطلّب ميزانًا حساسًا؛ إذ لا بد من استخدام معايير دقيقة عند تقييم أفعالنا الاختيارية والحوادث الجارية في الكون، ولقد بذل علماء الإسلام وخاصة علماء الكلام جهودهم لإيجاد منهجٍ متوازنٍ موافق للقرآن والسنة في هذا الموضوع، غير أن المعتزلة والجبرية قد وقعتا في الإفراط والتفريط في هذه المسألة؛ فالمعتزلة يرون أن الإنسان مخيّرٌ بشكلٍ مطلَقٍ في كلّ أفعاله، أما الجبرية فكانوا لا يعتدون بالإرادة الجزئية، فالإنسان في زعمهم كالريشة في مهب الريح، إلا أن علماء أهل السنة اتخذوا طريقًا وسطيًّا بينهما.

أما بالنسبة للأشعرية فلم تستطع الحفاط على التوازن الكامل في هذه المسألة، وذلك لأنها كانت من ناحيةٍ ما تمثِّل ردَّ فعلٍ على المعتزلة من حيث نقطة الانطلاق.. ولقد كان مذهب الإمام الأشعري في مسألة الإرادة وخلق الأفعال مثار جدل ونقاش كبير، بل وأطلق البعض على مذهبه “الجبرية المتوسطة”، ولكن كما ذكرتُ من قبل في عدة مناسباتٍ فأنا لا أعتقد أن مقاربة الأشعري لهذه المسألة مفهومة تمامًا، فيا تُرى ماذا كان يقصد بعبارة الاستطاعة مع الفعل التي كان يشرح بها مسألة الإرادة وخلق الأفعال؟! الرأي عندي أن من الإفراط اعتبار هذه المقاربة نوعًا من الجبر، ومن الخطإ أن نصدر أحكامًا سلبيّة في حقّ الأشعري ومن تبعه من العلماء الذين عالجوا أفكاره أمثال الإمام الجويني والإمام الغزالي والإمام العزّ بن عبد السلام لمجرد أننا في بعض الأحيان لا نستطيع فهم المقصود من الكلمات والمفاهيم التي يختارونها بدقة، فللأسف تسبب اتهامُنا الفكرَ الأشعري بالقصور والخطإ، وربطُه بالجبر، وتلقينُ أبنائنا ذلك في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية؛ في خسارةٍ كبيرةٍ.

أما الإمام الماتريدي الذي نشأ في بلاد ما وراء النهر فقد اتبع الطريق الأسلم في هذه المسألة؛ لأنه ظل بعيدًا نسبيًّا عن الجدالات والخلافات الفكرية، فتعامل مع المسألة بطريقة أكثر توازنًا، ولذلك أرى أهمية إحياء المذهب الماتريدي مرة أخرى في العالم الإسلامي.

فإذا نحّينا جانبًا الخلافات حول التفاصيل بين هاتين الطائفتين السنّيتين فيمكننا أن نقول ما يلي حول أصل المسألة: إن الحق تعالى يعطي قيمة كبيرة لإرادة الإنسان على مستوى الشرط العادي، ومن هذا الجانب يمكن اعتبار إرادة الإنسان ظلًا لتوجّه الله ومشيئته، ومهما كانت طبيعة هذه الإرادة ففي النهاية لا يصح الاستخفاف بها طالما كانت وسيلةً لتجلي إرادة الله تعالى؛ وكأننا بإرادتنا نضع النقطة والله يصيّر هذه النقطة كتابًا، فإرادتنا مهما كانت بسيطة أو ضئيلة فإن لها أهمية بالغة لأن أفعالنا مرتبطة بها، ولأنها تسوق إلى توجه الإرادة الإلهية إلينا.

وهذه القدرة التي يهبها الله للإنسان هي في الوقت ذاته تعبيرٌ عن القيمة التي يمنحها سبحانه وتعالى للإنسان، فالله تعالى هو القادر على كلّ شيء، وبيده مقاليد كل شيء؛ ومن ثَمّ فله ألا يعتدّ بإرادة الإنسان، لكن سنن الله الكونية لا تجري بهذا الشكل، فمع أن أفعاله سبحانه وتعالى وإجراءاته وألطافه لا تتقيّد بإرادة الإنسان فإنه سبحانه وتعالى يرسل ألطافه وإحساناته التي ينعم بها علينا بمقتضى السنن الإلهية بالتوازي مع إرادتنا، فنحن ننوي فعل الشيء، ثم نعزم على القيام به، وهو سبحانه وتعالى يخلقه إذا اقتضت حكمته، ولهذا علينا أن نقدِّر الإرادة قدْرَها؛ وذلك بأن نستوفي في البداية حقّها، ثم ننتظر ألطاف الله من بعدها، ولا نتجاهل ما كرّمه الله وقدّره.

وبما أن الأمنيات لا تتحقّق إلا بإرادة الله، فمن المهم جدًّا أن نقول: “إن شاء الله” عند التعبير عن توقّعاتنا لأشياء تحدث في المستقبل؛ ففي هذا إقرار بأنه لا يقع إلا ما أراده الله.

ولهذا خاطب ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين في شخص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ * وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/23-24).

وكما يُفهم من هذه الآية الكريمة يجب على الإنسان أن يربط كلَّ أمورِه بالمشيئة الإلهية، ولا ينسى أن كل ما يفعله مقيدٌ بإرادة الله تعالى، فإن لم يعتقد الإنسان أن المشيئة الإلهية وراء خططه ومشاريعه وإستراتيجياته، ولم يعتبر أنها في تحقيق خططه، وتجاهلَ الإرادةَ الإلهية وراء كلّ حادث؛ فهذا يعني أنه مبتلًى بشركٍ خفيٍّ لم يفطن إليه.

فلا ينبغي للإنسان أن يقصِّر في القيام بما عليه منذ البداية، وإنما عليه أن يُحكِم خططه ومشاريعه، وأن يستغلّ قوّة إرادته التي منحها الله له حتى اللحظة الأخيرة، وأن يراعي الدقة في أداء ما يجب عليه للوصول إلى هدفه المنشود، وبعد أن يقوم بما يقع على عاتقه يتوكّل على الله، ثم يرجو تجلّي إرادة ربّه وعنايته، لأنه لا يحدث في ملك الله إلا ما أراده الله، ومهما بدت الأسباب أمامنا قويّةً فلا يغيبن عن بالنا لحظةً أن الله هو خالق النتيجة.

مبدأ تناسب العلّية

عند النظر إلى الإنجازات المحقَّقة من حيث مبدأ تناسب العلية سنلاحظ مدى ضعف العلاقة بين جهد العبد وسعيه والنتائج الحاصلة، فلطالما يحوِّل الله جهودنا التي تشبه القطرات بحارًا، ويجعل من محاولاتنا الهزيلةِ عواصفَ شديدةً، ويُحيل الحلقات التي تنشأ عن حجرٍ صغيرٍ نرميه في الماء إلى أمواج متلاطِمةٍ؛ فإنه جلَّ شأنه يحيل بقدرته وإرادته توجهاتنا ومُيولنا الناشئة عن إرادتنا الجزئية إلى أعمالٍ عظيمة.

وناهيك عن تحقُّقِ أهدافنا بسعينا وجهدنا فإن العقلَ يعجز عن إدراك ما حدث، فإذا ما التفتنا إلى الوراء في نهاية الأمر أدركنا إجراءات الله بكلِّ عظمتها وروعتها.

ومن الصعوبة بمكانٍ الوصول إلى الفكر المستقيم المتوازن في هذه القضايا دون أن نظفر بمعرفةٍ جادَّةٍ بالله تعالى، فالكثيرون يتلبّسون بالشرك دون وعيٍ لأنهم ينسبون التأثير الحقيقي للأسباب؛ ولذا فإنني أخشى على المؤرّخين الاجتماعيين والفلاسفة التاريخيين الذين سيقيّمون حركة الخدمة لاحقًا؛ من الوقوع في الشرك عندما ينسبون الإنجازات الموجودة إلى الأشخاص.. ولا يعني هذا أنني لا أدرك النجاحات الواقعة أو لا أقدّر الأشخاص الذين ساعدوا في هذه النجاحات، لكن بدلًا من النظر إلى الأفراد أو إظهارهم على أنهم مصدر كل الجماليات يجب أن ننظر إليهم على أنهم مرايا تنعكس عليها تجليات الله وفيوضاته، ونقيّمهم وفقًا لذلك.

لقد شُيدت الهيئات والمؤسسات للخدمة في سبيل الله، ووُضِعت الخطط والمشاريع الكبيرة لنفع الإنسانية، ولكن لا بدّ أن ننظر إلى الأمر من حيث السَّوق الإلهي، وأن نعتبر هذا من قبيل استخدام الله تعالى أفرادًا معينين في اتجاهٍ معين، فلا نعزو الجماليات إلى قريحة هذا أو ذاك، ولا إلى جهود هؤلاء أو أولئك، ولا ننسب إلى الناس أعمالًا تتجاوز طاقتهم وقدراتهم، ولا نحمّلهم صفات فوق قدْرِهم ومنزلتهم، فرغم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند ربه فإن الله يخاطبه قائلًا: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (سورة القَصَصِ: 28/56)، فإذا كان الوضع هكذا فينبغي أن نتوخّى الدقة والحذر عند الحديث في هذه الموضوعات.

وفي هذا السياق سأقصُّ عليكم حادثةً عشتُها بنفسي: زارني يومًا ما  ثلاثة من الأساتذة الجامعيين، فحدثوني عن الأعمال الجميلة التي قام بها متطوعو الخدمة في مختلف البلدان، ثم سألوني كيف حدث هذا، وكأنهم كانوا يريدون أن يقولوا: كيف يمكن للأشخاص العاديين من ذوي الموارد المحدودة أن ينجزوا مثل هذه الأشياء العظيمة التي يتعذّر على الكثير من الدول القيام بها؟! فقد كانوا يجدون صعوبة في إقامة علاقة بين الأفراد الذين يقفون وراء الخدمات المبذولة وبين النتائج الحاصلة بالفعل، فعبروا لذلك عن دهشتهم وحيرتهم، وكانوا يحاولون أن يفهموا ما إذا كانت هناك عقول عبقرية أو أيادٍ خفية، أو قوى خارقة وراء هذه الإنجازات، فأجبتُهم بقولي: “إنه السَّوق الإلهي.. إنها العناية الإلهية”، فلم يبدُ الجواب مطمئنًا لهم ولا مشبعًا لرغباتهم، فازدادت حيرتهم ودهشتهم؛ لأنهم كانوا من عوالم فكريةٍ مختلِفة، وربما كانوا لا يعلمون تمامًا ما معنى السّوق الإلهي وما ماهية العناية الإلهية، وما الذي نقصده بهذا التعبير!

إن المقصود بذلك هو توجيه الله تعالى الناسَ إلى طريقٍ معين، فإذا سلكوا هذا الطريق غمرهم بألطافه وإحساناته، فإن لم ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية فلا مناص من الوقوع في بعض الانحرافات من ناحية العقيدة؛ لأنكم إذا أسندتم للأشخاص قوَّةً تفوق قدراتهم فكأنكم قد نسبتم إلى بذرةٍ صغيرةٍ وجودَ شجرة دلبٍ تمتدُّ فروعها إلى السماء، وتغافلتم عن مشيئة الله وعنايته ولطفه.

يمكنُ تلمُّسُ العناية الإلهية من خلال الأدعية التي أوصانا مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بقراءتها صباح مساء، ومن ذلك: “سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[1].

 

[1] السيوطي: الجامع الصغير، 8551.

المحاسبة والاستغفار

Herkul | | العربية

يقول مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”[1] مبينًا بذلك أن لكل فردٍ ساحة أو مجالًا هو مسؤول عنه، ويُحاسَب عليه.. فعلى سبيل المثال من يتولى إدارة قرية أو بلدة أو دولة يكون مسؤولًا عن إرساء الحق والعدالة فيها، وتحقيق الاستقرار والانتظام بها، وحماية أهاليها والذود عنهم، ومن ثم ينبغي على كل واحد من هؤلاء أن يحاسب نفسه أولًا على كلِّ موقِفٍ سلبيٍّ في نطاق مسؤوليته؛ فمثل هذا الصنيع يعبّر عن بصيرته وإنصافه وخشيته من ربه، أما أن يبحث عن المذنب في الخارج دون أن يحاسب نفسه فهذا دليل على جحوده وعمى بصيرته.

فعلى الذين نذروا أنفسهم للحق تعالى وعلموا أن غاية حياتهم هو بث روح الإحياء في نفس الإنسانية؛ أن يتحرَّوا دقةَ وحساسيةَ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطلِ المحاسبة الذي أرجع الجفاف وانحباس المطر إلى ذنوبٍ اقترفها.. أسأل الله تعالى أن ينشأ بين رجال الدعوة الذين قدّموا خدمات جليلة للإنسانية مَن يصل إلى هذا الأفق والمستوى! فمثل هؤلاء سيرشدون الإنسانية إلى الطريق الموصِّل إلى إكسير الحياة، ويكونون وسيلةً إلى انبعاثٍ جديد، فإن كنتم من أبطال المحاسبة الذين ينسبون كل أمر سلبي إلى أنفسهم وكانت صلتكم وطيدةً مع ربكم فاعلموا أنه حتى ولو طالَتْكم صفعات الشفقة من حينٍ لآخر فإنما هذا أمرٌ مؤقّت زائل، وستشرق الشمس حتمًا بعد الليالي المظلمة وتنير آفاقكم، ولا ندري كم من شؤون ستتولّد من رحم الليل قبل شروق الشمس!

أجل، ما ينبغي أن نركز عليه هو محاسبة النفس، فقد تراودنا أفكارٌ من قبيل: “كنّا أشخاصًا مستقيمين، نسير في الاتجاه الصحيح، وكنا نقدّم خدماتٍ نافعةً للإنسانية، فلماذا بُلينا بكلِّ هذه المصائب؟!”، مثل هذه الأفكار تسوقنا إلى الطريق الخاطئ، ومن ثم ينبغي للمؤمن أن يكون تفكيره على النحو التالي: “يُحتمل أن نكون قد تورّطنا في بعض الانحرافات، أو أننا لم نلجأ إلى الله على الوجه الصحيح، وربما لم نؤمن بربنا حقّ الإيمان، أو أننا قصّرنا في عمل الصالحات، أو لم نُوَفِّ حقّ الموقع الذي استؤمِنّا عليه، أو لم نستغلّ الإمكانات التي وهبها ربنا لنا كما ينبغي”.. لا بدّ أن يكون هذا ديدن المؤمن دائمًا؛ يحاسب نفسه عند كل فرصة، ويتوجه إلى الحق تعالى بالتوبة والاستغفار، ويعدّ مثل هذا الإجراء من أهم وسائل تطهير العبد وتزكيته أمام ربه عز وجل، ومن حافظ على طهره حتى اليوم حافظ دومًا بهذه الطريقة، فإن لم يُخضِع المؤمن نفسه دومًا إلى المحاسبة والمراقبة، ولم يحاسب نفسه؛ انسدت كلُّ طرق الترقي أمامه، وفقد سبلَ الوصولِ إلى الله، وحُرِم رائحة المعية، وتعذّر عليه إدراك الشوق والاشتياق.

لقد كان الذنب بعيدًا كل البعد عن مفخرة الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الله تعالى لم يمكّن الذنب من أن يراود حتى خياله في الماضي، وسد كل الطرق أمامه في المستقبل، ورغم ذلك كان صلوات ربي وسلامه عليه يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، فداؤك نفسي يا رسول الله! على ما كنت تستغفر؟! لا أتصور أبدًا -أنا القطمير- أن يكون الذنب قد راود حتى مخيلتك! فإن عالجتم أنفسكم كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان توجُّهُ اللهِ لكم بنفس القدر، وإن حرصتم على النقاء والتزكية والطهر حفظكم ربكم، ولم يدع غبار الذنب يصيبكم.

“من كان لله، كان الله له”؛ بمعنى أن من كرّس حياته لله -فلا يقوم ولا يقعد إلا بالله، ولا يفكر إلا في الله، ولا يتمتم إلا بذكر الله، ويحرص دومًا على التعبير عن أفكاره عن الله- فلن يدعه الله وشأنه أبدًا، ولن يقطع عنه عنايته وفضله، من أجل ذلك نقول في دعائنا: “اللهم كن لنا، ولا تكن علينا”، أي اللهم أفِض علينا تجلياتك، وتوجه إلينا، ولا تكن علينا.

فما يقع على عاتق المؤمن هو أن يعرف أين هو من علاقته بالله في كل مناحي حياته، وأن يقضي عمره بطلًا للمحاسبة.. فضلًا عن ذلك فإنكم إن حاسبتم أنفسكم هنا فلن تتعرّضوا للحساب في الآخرة؛ سيُعطَى لكم جوازُ مرورٍ خاص، ويُنادى عليكم أن مرّوا دون حساب، عندها تتجاوزون البرزخ والمحشر، وتطيرون من فوق الصراط، وتفوزون برؤية ربكم ورضوانه، ولذلك يقول الفاروق الأعظم سيدنا عمر رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”.

فإن عشتم حياتكم بهذا الوعي؛ فحاسبتم أنفسكم، وقضيتم أوقاتكم في تفكر وتذكر وتدبر؛ فستفوزون برضا الله عاجلًا أم آجلًا، أما إن أعرضتم عن محاسبة أنفسكم؛ انشغلتم بمحاسبة الآخرين، أو بالأحرى شغلكم الشيطانُ بغيركم، فلن تستطيعوا الوصول إلى المستوى المطلوب.. وحتى لو سلمت حياتكم المعنوية وخلت من الفوضى فلن تستطيعوا المحافظة على استقامتكم لتعلّقكم بانحرافات غيركم وانشغالكم بها.

فينبغي للإنسان أن يضبط إيقاع قلبه باستمرار، وأن يتوخّى الدقة في حياته، وإلا صار إنسانًا سطحيًّا، وكلما كان سطحيًّا تعلّق بعيوب الآخرين وأخطائهم، ومن انشغل بإحصاء عيوب الآخرين نسي نفسه، ومن نسي نفسه وقع في أخطاء جمة دون أن يدري، ومن ينشغل بدنياه ينسى آخرته، فيضيعها.

وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي توجه المؤمنين إلى المحاسبة والاستغفار، يقول ربنا سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة من سورة البقرة التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها قبل النوم: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/286).

وفي سورة آل عمران إشارة إلى أن المحاسبة والاستغفار من الصفات التي يتسم بها الربيون الذين نذروا حياتهم لخدمة الدين، وكيف كان هؤلاء الربيون يقاومون عدوهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/146)، وفي الآية التالية يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/147).

في ختام الآية يأتي طلب النصر والمعونة من الله عز وجل، ولكن في بدايتها يحاسب الربيون أنفسهم، ويستغفرون لذنوبهم وإسرافهم في أمرهم ويتطهرون، فهل لا يستجيب الله دعاء من لجأ إليه؟! يستجيبه بالطبع؛ ولذلك يقول في الآية التالية مبيّنًا كيف كانت استجابته لدعائهم: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/148)، فلا يحرمهم الله من لطفه وكرمه وفضله وإحسانه، ويبلّغهم مرادهم في الدنيا، وينعم عليهم بأجلّ النعم في الآخرة.

نفهم من هذا كله أن من الشروط الأولية للفوز بألطاف الله التزكية والتوبة والاستغفار، ومن ثَمّ يجب أن يكون لدى المؤمن إصرار وعزم وحرص أكيد على التزكية والتطهر، وللوصول إلى هذا الهدف لا بدّ أن يُخضِع نفسه للمحاسبة والمراقبة، وأن يعلم أنه إذا كان هناك من شيء لا بدّ من الشكوى منه فهو نفسه أولًا، فمهما كانت حياة الفرد نقية طاهرة فمن الجدير به أن يتوجّه إلى الله بشعور المحاسبة؛ لأن هذا يكشف عن ولائه لربه وإخلاصه في عبوديته، فضلًا عن أن هذا السلوك يجنّبه إلصاق الجرم بالآخرين والانشغال بعيوبهم والبحث عن المذنب في الخارج دائمًا.

فمن لديه هذا الوعي يتمكّن من إصلاح عيوبه ومعالجة تصدعاته.. ومثل هؤلاء وحدهم هم الذين ينالون سعادة الدنيا والآخرة كما ورد في الآية الكريمة.

[1] صحيح البخاري، الجمعة، 11؛ صحيح مسلم، الإمارة، 20.

كلٌّ يعمل على شاكلته

Herkul | | العربية

تظهر شخصية الإنسان بشكل أكثر وضوحًا في الأوقات الصعبة؛ لأن منْ يعيشون في راحةٍ وسعةٍ يسهل عليهم امتلاك زمام ألسنتهم والحفاظ على استقامتهم، والحقيقة أنه عندما تبدأ المشاكل والمصائب يصعب الحفاظ على التوازن والاستقامة، وتحدث انحرافات مختلفة وفقًا لشدّة الضائقة التي يُعانى منها، فمثلًا قد ينزلقون إلى التشكيك في القيم الإيمانية، ويمكن أن يقعوا في أفكار غير لائقة في شأن الذات الإلهية.. وفي مثل هذه الحالة، يُحرم العبد من كل أنواع الثواب والأجر الذي يمكن الحصول عليهما من الصبر على المصائب، كما يمكن أن يرتكب ذنوبًا مختلفة بحسب درجة الانحراف، وهذا هو الخسران في الوقت الذي هو أدعى للكسب؛ لأن الصبر على البلاء مثل العبادة؛ يمنح الإنسان مكافآت كبيرةً ودرجات عاليةً لا يستطيع بلوغها في الأوقات العادية.

ومع ذلك فليس سهلًا على الإنسان أن يسيطر على نفسه، ويتحلّى بالصبر في مواجهة السلبيات التي يتعرّض لها؛ لأنّ هذا الأمر يتطلّب جهدًا وجهادًا حقيقيًّا، إننا بشر قد نتأثّر بمواقف الآخرين وسلوكهم، فننسى أنفسنا والقدَر أيضًا عند المشاكل والمصائب التي تحلّ بنا، ونرى كلَّ شيءٍ نابعًا من أخطاء الآخرين؛ فتضطرب نفوسُنا وتتشتّت أفكارنا جرّاء ما حدث، وربما نتلوّى ألمًا لذلك.. بل وقد تهاجم خيالنا وقلوبَنا وأذهانَنا -من وقت لآخر- مجموعةٌ من المشاعر والأفكار السلبية التي لا تتّفق مع عقيدتنا، وفي هذه الحالة يجب أن نعبّر عن إرادتنا بثباتٍ وإيمان حقيقيّين ونحاول التخلّص من هذه السلبيات في أسرع وقتٍ ممكن، وأن نتحكّم في خلايانا العصبية، وأن نُخضع أفكارنا للسيطرة دائمًا، ولا نسمح بمرور ما لا يرضي الله.. علينا أن نمنع الأفكار التي لا يمكن التوفيق بينها وبين نظامنا العقدي من الدخول إلى مشاعرنا وأفكارنا، وحتى أحلامنا.

إذا كانت مواقف الآخرين وسلوكياتهم غير الإنسانية تقودنا إلى أفكار وأفعال مشابهة، فهذا دليل على ضعف إرادتنا وضعف إيماننا، وإذا كانت الانحرافات التي يعيشها الآخرون تجعلنا نعيش نحن أيضًا انحرافات مماثلة، وكانت الضغوط والإهانات التي نتعرّض لها تضرّ أيضًا بقلوبنا وأفواهنا فهذا يعني أننا لم نستطع وضع أقدامنا على أرضيةٍ صلبة، ولا الثبات في الطريق الذي نسير فيه، ويجب أن يكون وردنا دائمًا وأبدًا ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/8).

كلُّ شخص يفعل ما تمليه عليه طبيعة شخصيته، دع الآخرين فليكتبوا ويرسموا ويتحدّثوا ويتصرّفوا وفقًا لطبيعتهم! بل ليكذبوا أشدَّ الكذب إن أرادوا، وليلجؤوا إلى جميع أنواع الافتراء والتشهير، وليأتوا بما لا يوصف من القبائح، وليغلوا في ظلمهم؛ ولكن يجب ألا تدفع أفعالُهم المنحرفةُ والخاطئةُ منْ نذروا أنفسهم بصدقٍ لخدمة الإيمان والقرآن إلى سلوكيّات مماثلة.. فكذبُ أحدهم مائة أو ألف مرة لا يبرر لك أن تكذب ولو مرة واحدة، واتصاف غيرك بالكفر أو ارتكابه جرائم مختلفة لا يبيح لك فعل ذلك، إن الحرام حرام دائمًا، وانغماس العالم كله في الحرام لا يُحللُ لك ذرّةً من الحرام، ولو أن الآخرين سرقوا الجمل بما حمل، فستخسر أشياء كثيرة إذا ما خالطتك قطرةٌ من الحرام.

نعم، إن القرآن الكريم يقول: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/84) بمعنى أن كل فرد يتصرّف وفق مزاجه وطبيعته نفسه، ويفعل ما تمليه عليه شخصيته، وفي بقية الآية يقول: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/84)، وبما أن الله هو من يعلم كلّ شيءٍ ومَنْ سيعاقب على أفعالنا أو يُثيب عليها، فيجب علينا أن نعدّل مواقفنا وسلوكنا تبعًا لذلك، وسيحصل كلُّ امرئ على جزاء ما فعل.. وإذا كان البعض يسلك طريق الاضطهاد والظلم، فسينال ما يستحقه في هذه الدنيا تمهيدًا للعقاب الذي سيلقاه في الآخرة. ومن يَسِمون الأبرياء اليوم بـ”الخونة والإرهابيين” ربما يتعرّضون أنفسهم للافتراءات نفسها ذات يوم؛ لأن الله عادل.. أنا أؤمن بعدالة الله بقدر ما أؤمن بوجوده.

عاقبة الظالمين

سترون قريبًا أن مَنْ أعدّوا مشاهد الظلم التي نشهدها اليوم، ومَنْ يُسلطون الناس بعضهم على بعض، ومَنْ يحاولون بناء مستقبلهم الخاص بدماء الآخرين ودموعهم سيعيشون في خراب ويبابٍ، وفي شتات وضياع، ويتعرّضون لصفعات القدر القاسية، حتى إنكم ستشعرون بالحزن لحالتهم البائسة وستقولون: “ليتهم لم يفعلوا الكثير من الشر في السابق، ولم يصيروا ألعوبة في يد الشيطان، حتى لا يكونوا من الخاسرين!”، عندما ترون أولئك الذين فعلوا بكم كثيرًا من الشر، واستساغوا كل أنواع القسوة بحقكم -عندما ترونهم- يهوون لاحقًا الواحد تلوَ الآخر مثل الأشجار التي ضربتها العاصفة، ويتساقطون مثل الأوراق التي تعصف بها رياح الخريف، وقد انهارت عروشهم على رؤوسهم؛ فكيف لكم ألا تقولوا: “آه، كم هو محزن!”، وكيف يمكن ألا تشفقوا على الشباب الذين انخدعوا وانهاروا في الشوارع وضاعوا بسببهم!

لقد مارسوا من الظلم والاضطهاد، وفعلوا من الشرور ما لا يمكن تصوّره لدرجة أنهم لم يتركوا وراءهم شيئًا يُذكر بالخير بعد ذلك، لقد أغلقوا جميع الأبواب التي يمكنهم اللجوء إليها وطلب المساعدة منها، وكم أتمنّى لو أنهم تركوا لنا على الأقل دافعًا لقراءة الفاتحة عليهم! لو أنهم تركوا علاقةً ولو بسيطة، لو أنهم لم يدمّروا الجسور تمامًا!

وبعد أن ينتقل هؤلاء الظالمون إلى الدار الآخرة فإنكم ستجدون صعوبة في العمل بحديث رسولنا صلى الله عليه وسلم: “اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ”[1]، وعندما تسمعون أسماءهم وتتذكّرون الآلام التي عانيتموها، ستفور مشاعركم بحسب طبيعتكم الإنسانية، وربما ستوفون إرادتكم حقّها عندئذ، وتتحكّمون في مشاعركم السلبية لئلا تتصرّفوا بما يخالف المبادئ الأساسية للدين، وستقولون مرة أخرى: “صبر جميل”، وستحاولون ضبط ردود أفعالكم الداخلية، فلن تشتموهم أو تلعنوهم، لأن شخصيَّتنا العامة تتطلّب أن نكون هكذا.

إذا كان كل امرئ سيفعل ما تمليه عليه شخصيته، فهذا يعني أن الظالمين سيواصلون قسوتهم حتى يُطاح بهم، ولن يترك الفاسقون فسقهم وفجورهم، ولن يتخلَّى المنافقون عن النفاق، وسيستمرّ هذا الحال حتى ولو تغيرت الأسماء والأشخاص.

وعليه فإنه يقع على عواتق المؤمنين الذين كرسوا حياتهم لخدمة الإيمان والقرآن أن يتعاملوا بإيمان ويحافظوا على أحوالهم وأفعالهم التي تليق بالمؤمن، ويجب علينا أن نفي بمقتضيات شخصيتنا، رغم كل الصعوبات، وألا نتخلَّى عن موقفنا الأخلاقي، وأن نعمل على تجاوز الأزمات والصعاب التي نمر بها ثقة بالله وتسليمًا وتوكّلًا وتفويضًا له، كما ينبغي ألا تقودنا الدناءات والشناعات المرتكبة إلى فعل قبائح مماثلة، بل ألا تَرِدَ في أحلامنا ولا تخطر ببالنا فكرة الانتقام، وألا نسمح أبدًا للأحقاد والكراهية أن تدُبَّ في داخلنا، لأننا -رغم كلِّ الظروف- مطالبون بالحفاظ على نزاهتنا الروحية والفكرية والحسية.

يجب أن نعلم جيّدًا أنه كان هناك دائمًا من يؤذون ويهينون، ويزدرون أناسًا ليس لديهم أيّ هدفٍ سوى إعلاء مُثُلهم الدينية وتحقيق أحلامهم النبيلة، وسوف تقابلون أمثال هؤلاء الأشخاص دائمًا، ومن جهةٍ سيقوم أفراد الخدمة الذين يتعرّضون لهذه الأمور بتطوير إستراتيجيات لدفع المكائد التي تعترضهم، مثل المصارعين المحترفين، ومن جهةٍ أخرى سيسعون إلى مواصلة خدمتهم دون تردد.. فإن تهدروا كلَّ أوقاتكم بالضربات القادمة من اليمين واليسار، ومن الأمام والخلف؛ فستخسرون.

قد يواجه المخلصون في أثناء محاولتهم تعمير قلعةٍ خربةٍ منذ عدّة قرون وإصلاحها، عقباتٍ وهجماتٍ من البعض، وبحسب حجم الهجمات، قد يحدث دمارٌ وانهيارٌ في البنية من موضعٍ لآخر، وربما تُغتصب المؤسسات التي أقامها المؤمنون المخلصون بعرق جبينهم ودموعهم وكثيرٍ من الجهود بهدف حماية الأجيال الشابة، فيجب علينا في مواجهة كل ذلك أن يكون لدينا إيمانٌ وأملٌ وتصميمٌ وعزمٌ يؤهّلنا لتحقيق عشرة مكاسب مقابل خسارةٍ واحدة، وأن نواصل طريقنا من خلال إيجاد طرق بديلة جديدة، وإذا ما انتزعوا منّا واحدًا، علينا أن نُسهم في إيجاد عشرة يلتفّون حولنا، ينبغي أن يزداد حماسُنا وحذرُنا كلّما هاجمنا الظالمون واعتدوا علينا، وأن نخصّص المزيد من الوقت لخدماتنا ونزيد من سرعتنا أكثر فأكثر.

سيأتي يوم ينظر الحق تعالى فيه بألطافه السبحانية الربانية إلى مثل هذا العزم والتصميم وروح التضحية، ونحظى بنعمٍ وألطافٍ إلهيّة أكثر بكثيرٍ وكثيرٍ من الأعمال التي عملناها وفاءً بحقّ إرادتنا، بل وعلى نحو يستحيل شرحه وتفسيرُه وفق مبدإ تَنَاسب العلية.

الحقّ والعدل والاستقامة

جوهر الأمر هو الحقّ والعدل والاستقامة، إننا مطالبونا باحترام الحق والحقيقة لدرجة الخضوع أمام الحق حتى ولو كان ذلك ضدّ أنفسنا ومصالحنا، يجب ألا نبتعد عن العدل ولو لحظةً واحدةً، نحن مكلفون بالعيش في استقامة تامّة، ويجب أن نتحلّى بحساسيّة ودقّة بالغة في عدم التعدي على حقوق الأفراد والأمة ما حَيِيْنا، وألا نتخلَّى عن فكرة الإخلاص ولو للحظة، وألا نوقف خدمة الإيمان والقرآن أبدًا، حتى ولو أقبلت علينا الدنيا بكلّ أبّهتها وزهوها فيجب أن نكون عازمين لأن نفضّل عليها الخدمات التي نضطلع بها حاليًّا، ونفضّل فتح القلوب ودخولها على سلطنة العالم.

عندئذ سيرد الله تعالى عليكم الخيرات التي قدمتموها أضعافًا مضاعفة، ويجازيكم أَضعاف جهودكم، سوف يمنُّ عليكم بفتوحاتٍ غير متوقّعة، وسيقيم بأيديكم القيم الإنسانية العالمية التي تتوقّعها البشرية، كيف لنا أن نعرف كل هذا؟! لأن هذا هو نهج النبي ونهج الصحابة، والله لا يتخلَّى عمن يسلكون سبيله، ولا يصيبهم بالعطب.

أما بالنسبة لمن تركوا الحق والعدل والاستقامة، وانخدعوا بمناصبهم وسياستهم وسلطتهم وقوتهم وقدرتهم فسيخسرون -عاجلًا أو آجلًا- حتى ولو حقّقوا بعض الانتصارات والنجاحات المؤقّتة، وسيتعرّضون للمهانة والاحتقار بينما هم لا يزالون في الدنيا، وسيرتجفون من الخوف، ويبحثون عن حفرة يهربون إليها، وهم نادمون على ما فعلوا.. إن الأشياء التي يفعلها منْ يلوثون حياتهم الروحية ويعيشون في اللوثيات سوف تُردُّ عليهم ذات يوم، وعندما ينتقلون إلى الآخرة، ستكون حالتهم بائسةً، ولن يُمنحوا الأمان.

نعم، فالعاقبة للمتقين، على حدّ قول الآية القرآنية، لكن انتظار ذلك يتطلّب صبرًا حقيقيًّا، وهذا أمرٌ ثقيلٌ للغاية، ولكن المكافآت التي سيتم الحصول عليها في النهاية أثقل وأكبر، وستضيف وزنًا إلى الوزن الذي في كفة الحسنات.. يكفي أن نستطيع مواجهة حتى أكثر الأمور إيلامًا بقلبٍ منشرِحٍ صادقٍ، وأن نقول: “الحمد لله على كل حال سوى الكفر والضلال” حتى ونحن نتألم، فالحمد والشكر لله الذي لم يعرّضْنا لهفوات وسقطات شيطانية رهيبة، ولم يجعلنا نضحّي بقلوبنا وحياتنا الروحية طمعًا في السلطة، وحفظنا من السرقة والنهب، ووقانا من التصفيق والتهليل للظلم والظالمين.

[1] سنن أبي داود، الأدب، 49؛ سنن الترمذي، الجنائز، 34.

الأنْسُ بالله

Herkul | | العربية

سؤال: ماذا يعني “الأُنْسُ بالله”، وكيف يتحقّق؟

الجواب: تأتي كلمة “الأُنس” بمعنى: الاستئناس بأحدٍ ما، والتعوّد عليه، والشعور بقربه إلى النفس، وتكوين صداقة معه.. أما كلمة “أنيس” المشتقة من جذر “أُنس” فهي بمعنى الصديق القريب.. كذلك كلمة “جليس” فهي تعني التواجد في المكان نفسه، والصداقة، والرفقة.. ويُستخدم تعبير “أنيس وجليس” تعبيرًا عن الأشخاص الذين تجمعهم صداقةٌ حميمةٌ وصاروا أخلّاء مخلصين أوفياء بعضهم لبعض.

أما في الأدب الصوفي فتفيد كلمة “أُنس” معنًى أكثر خصوصيّة، فهي تعني أن يتوجّه الإنسان بقلبه وكيانه كلّه إلى الله -حتى لو لم يكن مادّيًّا- قلبيًّا وروحيًّا وحسّيًّا، وربما عقليًّا مبتعدًا عمّا سوى الله تعالى، وأن يتقرّب إليه تعالى، ويجيش بحبّه، ويثق به وحده، ويعتمد عليه فحسب، ويشعر بالراحة والطمأنينة معه سبحانه، وإن الحق تعالى تقدّست ذاته وتنزَّهت عن مشابهة المخلوقات، يأنس أيضًا بمن يأنس به من عباده، ولهذا تستخدم عبارة “الأُنْس بالله” للتعبير عن هذا المعنى.

إن مَن حققوا الأنس بالله ليحظَون بعلاقةٍ مختلفةٍ وعميقةٍ مع الحق تعالى، تؤثّر على مشاعرهم وأفكارهم وكلامهم ومواقفهم وأحوالهم وتصرّفاتهم، فلا تبقى ثمة أهمية في نظرهم للدنيا من حيث ما يتعلق منها بجانبها الفاني؛ فلا يستطيع البيت ولا الأهل ولا الأولاد ولا ثروات الدنيا أن تُبعدهم عن الله، فإن من يحظى بهذه العطايا يصير إنسان أفق مختلف تمامًا؛ إذ يمكنه -وفقًا لدرجته- التنزّه في عوالم خارقة للأبعاد متجاوزًا المكان ثلاثي الأبعاد.

غير أن الفوز بمثل هذا المقام ليس سهلًا؛ فهذا مرهونٌ بجهدٍ وسعيٍ جادّين، إذ ينبغي أولًا أن يكون للمؤمن هدفٌ للسير في أفق الأُنس بالله.. ومن أجل تحقيقه هذه المكانة يجب عليه أن يوفِّيَ إرادته حقّها، ويشُدَّ على نفسه باستمرار، ويراجع مشاعره وأفكاره دائمًا، ويتوجه إلى الحق تعالى بمشاعره وأفكاره ولطائفه الربانية وسرّه وخفيّه وأخفاه، ويبحث دائمًا عن طرق التقرّب إليه؛ إذ تُفتح الأبواب المغلقة لمن يفعل هذه الأشياء، حتى إنه يشعر وكأنه مع الحقّ تعالى سويًّا “بلا كَمٍّ ولا كَيفٍ”، ومع أن جميع المؤمنين مؤهّلون للأُنس بالله، إلا أنَّ إحراز مثل هذه المكانة يعتمد على إيمانٍ راسخٍ، ومعرفةٍ واسعةٍ، وعبوديةٍ عميقة.

إن نيل الأُنس بالله يعتمد أصلًا على إدراك حقيقة الدنيا، ومحوِ حبّها من القلب.. ويشرح القرآن الكريم الوجهَ الحقيقي للدنيا من جوانب مختلفة؛ فيخبر أنها مجرَّد لعبٍ ولهوٍ، وأن ملذّاتها وعلائقها ومنافعها قصيرةٌ وعابرةٌ، ويُشار أيضًا إلى الدنيا والآخرة إلى جانب معانٍ أخرى باستخدام كلمتي: “مستودَع” و”مستقَرّ” في موضعين من القرآن الكريم[1]. فالدنيا “مستودع” بالنسبة للإنسان، أي مكان مؤقت يبقى فيه مؤتمنًا عليه، أما المكان الذي سيذهب إليه ويتّخذه قرارًا رئيسيًّا، أي “المستقرّ”، فهو الآخرة، وبينما كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم يصف علاقته بالدنيا، ضرب لها مثلًا فَقَالَ: “مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا”[2].

وعلى الرغم من أنه بُيّن في القرآن والسنة، وبشكلٍ أكيد، أن الدنيا دار ممرّ وفناء، وأنه لا ينبغي الانخداع والتشبث بها والاعتقاد بأنها دائمة؛ إلا أن الكثيرين يعدّونها دارَ مقرٍّ وبقاء، ويتمسّكون بها تمسّكًا شديدًا، وبالتالي يتخلّون عن الأشياء التي يجب الارتباط والتمسّك بها.. ولما كان الأشخاص الذين يمشون في هذا الطريق المؤدّي إلى الآخرة ينسَون أن هذا مجرَّد طريق أو معبرٍ على الطريق، ويتعلّقون ببساتين الدنيا وحدائقها ومروجها ومفاتنها؛ فإنهم ينسون وجهتهم الأصلية؛ لأنه عندما تمتلئ القلوب بحب الدنيا، لا يبقى فيها مكان للحبّ الحقيقي، فمَنْ يأنسون بمتاع الدنيا المؤقّت لا يمكنهم أن يحظوا بأنس الله تعالى.

وفي عالمنا المعاصر، حيث تسري الدنيوية في كلّ مكانٍ مثل الأمراض المعدية، تحظى مسألة تحويل كلّ اجتماع إلى مجلس لذكر الحبيب عز وجل، ولفت انتباه الناس واهتمامهم إلى حقائق الألوهية والربوبية بأهمية خاصة.. يجب أن نكرّس همتنا لهذا العمل لدرجة تُنسينا ما سوى ذلك من أشياء أخرى مهما بلغت أهميتها، حتى إننا حينما نجتمع لمناقشة بعض القضايا الحياتية يجب علينا أن نستهلك هذا الاجتماع بذكر الله؛ بحيث يجب على من يرانا أثناء خروجنا من الباب أن يُذَكِّرنا لماذا عقدنا هذا الاجتماع أصلًا؟! يجب أن يكون هذا همنا الرئيس، وقضيتنا الأصلية، وهدفنا الأساسي.. ومهما انشغلنا بأشياء كبيرة، يجب أن نربط كلَّ شيء نفعله بالله تعالى، وننسج طريقنا وفقًا له، ونضعه سبحانه نصب أعيننا، وإن أمورًا مثل فتح البلاد، وحكم العالم، وإدارة الناس وتسييرهم تبقى صغيرةً جدًّا إلى جانب تلك الأعمال التي هي قضايانا الرئيسة.

نعم، بما أن الدنيا مستودع بالنسبة لنا، دار ممرّ، فيجب علينا نحن أيضًا أن نضبط موقفنا وفقًا لذلك، وألا نحتار أمام مفاتن الدنيا المغرية، وألا تزيغ أبصارنا، وألا نُسلم قلوبنا للدنيا وكأننا سنخلد فيها إلى الأبد؛ لأن من لا يترك الدنيا وما فيها لا يستطيع أن يصل إلى حقيقة الأُنس بالله.. وهنا يمكنكم أن تتذكروا مصراعَي فضولي التاليين:

ليس بعارفٍ مَنْ يعرف أمور الدنيا وما فيها
وإنما العارفُ هو مَنْ لا يَأبَهُ بالدنيا وما فيها

نعم، إن القضية الأساسية هي ارتباط الإنسان بالله، وتركيزه النظر عليه دائمًا، وترقّبه اللحظة التي سيفتح سبحانه فيها الباب، فلا يمكن لمثل هذا الشخص أن يكون قانعًا بالدنيا، ولا راضيًا عنها.

إن العبادات -التي هي تعبير عن عبوديّتنا لله- وسيلةٌ مهمّة للوصول إلى الأُنس بالله، فمثلًا يمكن للإنسان أن يدرك هذا الأفق من خلال الصلاة، ويقترب من الله، ويمكنه -إذا جاز التعبير- أن يكون أنيسًا وجليسًا له؛ فالصلاة معراج المؤمن، غير أنه يصعب تحقيق هذا الأمر بصلاة تُؤدّى دون تركيزٍ ودون خشوعٍ وخضوعٍ، وتذهب ضحيّةً للشكل والإلف، ولا يُستشعر بأركانها شعورًا عميقًا، ولا جرم أنه من واسع رحمة الله تعالى يمنح هذه الصلاة قيمة، فيُسقِطُ بها الفرض، ولا يُضيّع ثوابها، ولكنه من الواضح تمامًا استحالة الارتقاء بصلاة كهذه إلى أفق الأُنس بالله.

للصوم أيضًا مكانة خاصة في الاتصال بالله، ويمكن للإنسان من خلال الأوراد والأذكار أن يهيئ لنفسه مناخًا خاصًّا به، يكفيه لذلك أن يشعر ويُحسّ بالذكر الذي يخرج من فمه ويكون مدركًا له واعيًا به، وأن تكون كلُّ كلمةٍ يقولها صوتَ قلبه، وترجمانَ مشاعره، وأن يكون واعيًا بمن يقف في حضرته، ويتوسّل ويتضرّع ويتحدّث إليه، ومن لا يأخذ أيًّا من هذه الأمور بعين الاعتبار ويكرّر ما حفظه فحسب يستحلْ أن تكون له علاقة بالأُنس.. ربما يكون قد أدى واجبه بالعبادة والأوراد والأذكار، وصار مؤهلًا للجنة، هذه أمور يعلمها الله، لكننا نتحدّث عن مستوى أرفع.

يمكن لأيّ إنسانٍ أن يزيل ويقتلع من قلبه كلّ شيءٍ يتعلّق بالدنيا، وذلك بفضل وفائه بمهمّة إعلاء كلمة الله العظيمة حقّ الوفاء، ومن هذا المنطلق تفتح الأبواب المؤدّية إلى الأنس بالله على مصارعها للإنسان المنشغل تمامًا بتبليغ اسم الذات الإلهية الجليل، وهنا من الضروري أن نقول بين قوسين: “يجب تناول مسألة الأُنس بالله في إطار نسبي، فهي على مستويات ودرجات، فالذين يتحمّلون مسؤولية تمثيل الدين وتبليغه في الأوقات التي يصعب فيها تحقيق ذلك، يمكنهم أن يُحرزوا في وقتٍ قصيرٍ الرتبةَ والمقامَ اللذين يتسنى للصوفية تحقيقهما من خلال السير والسلوك الروحاني مدة سنوات طويلة، فمثلًا من يقوم بمهمّة حراسة الحدود مدّة ساعةٍ ينال ثوابًا يعدل ثواب من تعبَّد مدّة عام، كما ورد في الحديث الشريف[3]، وإذا كان الشهيد مؤهّلًا -بحسب إخلاص نيته وصدقها- أن يسبق الأولياء والأصفياء؛ فإن المدافعين عن الله في الأوقات التي تكون فيها الظروف صعبةً تمامًا يمكن أن يرتقوا عموديًّا بسرعة الصاروخ، ويقفزوا على سلّم الترقّي والكمالات.

ينبغي لمن يريد نيل مرتبة عظيمة مثل “الأُنس بالله” أن يحارب الشكليّات، وأن يحاول إدراك أفق الإخلاص والإحسان في الآية الشريفة: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/61).

إن الله هو المطلع على كل شؤوننا، يسمع كل كلامنا، ويرى مدى انعكاس هذا الكلام على مواقفنا وسلوكياتنا، ومدى تأثيرها علينا، ويعلم حجم العلاقة التي بين الأذكار الجارية على ألسنتنا وبين قلوبنا، لهذا السبب يجب على المؤمن أن يقاوم الرياء والسمعة والأفعال الصورية والشكلية ويشنّ الحرب عليها.. يجب أن يعلم أن مَثَل الإنسان الحي والتمثال الذي لا روح فيه، كمَثَل العبادة الحقة والعبادة التي لا روح فيها، ومن هذه الزاوية يجب أن تنبع من أعماق قلب المؤمن كلُّ كلمةٍ ووعدٍ يوجّهه إلى الله، لدرجة ينخلع معها قلبُه أثناء العبادة.. ومع هذا يجب عليه أيضًا أن يضغط على قلبه حتى لا يكشف السرّ أمام من لا يعرفون الحال، ويجهلون الطريق.

ذلك هو الطريق المؤدّي إلى الأُنْسِ بالله…

[1] ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/98)؛ ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (سورة هُودٍ: 11/6).

[2] سنن الترمذي، الزهد، 44؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 3.

[3] عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعْدِلُ عِبَادَةَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ صِيَامَهَا وَقِيَامَهَا، وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَأَجْرَى لَهُ أَجْرَ رِبَاطٍ مَا دَامَتِ الدُّنْيَا” (السيوطي: الجامع الصغير، ٤٣٨٣).

المنحدرات الوعرة وأفق الرضا

Herkul | | العربية

الدنيا هي دار الامتحان، وعلى الإنسان ألا يَغيب عن ذاكرته أبدًا أنه في امتحانٍ دائمٍ في كلّ لحظةٍ من حياته؛ فالحياة مليئة بالامتحانات من البداية إلى النهاية، ويختلف امتحان كلّ إنسان عن الآخر.. ومن ناحية أخرى الدنيا هي دار الخدمة، أي مكان العمل والجهد؛ وليست دار الأجرة أي ليست مكانًا للمكافأة والأجر، وعلى حدّ قول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: “إن هذه الدنيا دار عمل وليست موضعَ أخذ الأجرة، فثواب الأعمال الصالحة وثمراتها وأنوارها تمنح في البرزخ والآخرة، وإن جلب تلك الثمرات الباقية إلى هذه الدنيا وطلبها في هذه الدنيا يعنى جعل الآخرة تابعة لهذه الدنيا، وعندها ينثلم إخلاص تلك الأعمال الصالحة ويذهب نورها”[1].

والحقيقة أننا قد حصلنا بالفعل ومقدمًا على أجرنا ومكافأتنا التي نعجز عن شكرها، وذلك بظهورنا على ساحة الوجود، وخلقنا بشرًا، وتشرُّفنا بالإيمان، وكوننا من أمة سيد الأنام، وتعرفنا بالقرآن، وقدرتنا على النظر إلى الكون بعدسة القرآن.. وفضلًا عن كلّ هذه النعم التي منَّ الله تعالى بها علينا ولا تُقدَّر بثمنٍ؛ فالذين نجحوا في الامتحان الدنيوي من خلال أدائهم واجباتهم ومسؤولياتهم؛ قد بشّرَهم الله بنعم الجنة الخالدة والذاخرة بجماليّات لا تخطر على بال.

الامتحان والخدمة وعدم التشوّف لمقابل

ومن ثم فإنه من الجدير بمن يخدمون القرآن الكريم أن يُدركوا حقيقة الامتحان ويسعوا إلى اجتيازه بنجاح، ويخدموا ويبذلوا جهدهم في سبيل تنفيذ أوامر الله تعالى، ولا يتشوّفوا إلى أيّ أجرٍ ومكافأةٍ دنيويّة في مقابل ذلك، ويستفيدوا بطريقةٍ مشروعةٍ وفق الإطار الذي حدّده الله تعالى من النعم والهبات الإلهية، فتلك هي العبودية! الامتحان والخدمة وعدم التشوف لمقابل… ثلاثة أشياء تلخّص العبودية.

إن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم هو خير مثالٍ لأتباعه في هذا الشأن، لقد عدَّ الدنيا دارًا للخدمة، ووهب نفسه وحياته لتطبيق أوامر الدين وتبليغها، لكنه لم يتشوّف إلى أيّ شيءٍ سوى رضا الله ورضوانه مقابل أداء العبودية الحقّة وتبليغ الرسالة.. لقد نجح في اختباراته على أجمل نحو، وكأنه يبعث لأهل الإيمان من خلال جميع أحواله وأفعاله برسالة مفادها: “أنتم أيضًا استعدوا للامتحانات، واعتبروا من موقفي إزاءها!”.

ويمكننا أن ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية أيضًا، إذا كان مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم -الذي خلق تشريفًا للوجود، وكُرّم بلقب حبيب الله، وهو الإنسان الكامل بحقّ- قد عانى دائمًا، وتعرّض باستمرارٍ للضغط والقمع والعنف والافتراء في حياته السنيّة؛ فيلزم أيضًا على منْ يسيرون على الدرب نفسه ليكونوا أتباعًا مخلصين له أن يأخذوا بعين الاعتبار أنهم سيتعرّضون لابتلاءاتٍ وفتنٍ مماثلة.. إذا كنتم تؤمنون بالله إيمانًا خالصًا فلن تنقطع ابتلاءاتكم، وستخضعون لامتحانات مختلفة حسب درجة إيمانكم وعمق علاقتكم بالله وانقيادكم للنبي وإخلاصكم لقضية الدين.

ومع ذلك لا ينبغي نسيان أنه: إذا أمكن النظر إلى الدنيا على أنها دار خدمة واستوفيت متطلّبات ذلك، وأمكن الصمود في مواجهة الامتحانات والابتلاءات؛ فإن الحقّ سينتصر على الباطل بكلّ تأكيدٍ، إن لم يكن اليوم فغدًا، ذلك أن الله وعد في هذا الشأن فقال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/139)، والذين يؤمنون بالله إيمانًا صادقًا تكمن لديهم القدرة على التفوّق، وقدرتُهم هذه ستظهر وتتكشّف، إن لم يكن اليوم فغدًا بكلّ تأكيدٍ.

وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلّم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: “الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ”[2].

لماذا يعاني صفوةُ البشر أشدَّ الأزمات؟ ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/37)، ومثلما يُفصَل الحديد عن صدئِهِ بالنار، فالأزمات والابتلاءات التي يعيشها الإنسان تلعب دورًا كبيرًا في تنقيته وصقلِه، وضعفِ تعلُّقه بالدنيا وتوجيهِ نظره إلى العقبى، وتقريبه من ربّه، وكما قال بديع الزمان سعيد النورسي: “إن العاملين في خدمة القرآن إما أن يُعرضوا عن الدنيا أو الدنيا تعرض عنهم، كي ينهضوا بالعمل بجد ونشاط وإخلاص”[3].

أجل، لو أن الأزمات التي تعرض لها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وُضِعَتْ على الجبال لاستحالت الجبال غبارًا ونقعًا؛ فقد تعرّض لكلّ أنواع البلاء، ولاقى أقسى الإهانات، واستهزئ به، وقُوطع، وهُدِّد، وعانى من الظلم، وأُجبر على الهجرة، وخطّطوا لاغتياله، وصُودرت ممتلكاته، وخاض بدرًا، وأحدًا، والخندق.. لقد لجأ الظالمون -الذين أعرضوا عن الحقائق الإلهية وعميت بصائرهم بسبب الطمع الدنيوي- إلى كل الطرق ليقضوا عليه وعلى من آمنوا به، لكنه لم يهتزّ، ولم يستسلم، ولم يقنط، ولم يغيّر الطريق ولم يبدّل المسار؛ فعلَّمنا بموقفه وصبره ومتانته كيف يلزم أن نصمد في وجه البلايا والمصائب.

الموقف الإيماني في مواجهة الابتلاءات

إن ما يجب على سالكي الطريق النبوي هو ألا ينحرفوا عن قبلتهم، وألا يغيروا موقفهم في مواجهة المشاكل التي يتعرضون لها، ومهما كانت الامتحانات شديدة، فلا ينبغي لأحدٍ أن ينتقد القدر أو يتصرّف وكأنه يشكو الله إلى الناس، لا ينبغي أن نردّ على ذلك بعدم الرضا عن القضاء والقدر الذي قدّره الله لنا.. وعلاوة على الحديث عن ذلك فمثل هذه الأشياء لا ينبغي أن تمرّ حتى بأحلامنا.. صحيحٌ أننا بشرٌ، وقد نهتز في مواجهة الصعوبات، وقد نجد صعوبة في تجاوز الإهانات والأكاذيب والافتراءات التي نتعرّض لها؛ ولكننا نعُدُّ ذلك كله جزءًا من الامتحانات، ولا ننخرط أبدًا في أفعال وتصرفات يمكن اعتبارها تمرّدًا على الله لمجرّد حدوث ذلك، ماذا قال مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، الذي ذرف الدموع عند موت ابنه: “إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ”[4].

وبعد أن أشار الله تعالى بقوله ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ (سورة الْحِجْرِ: 15/97) إلى الحزن والكدر الذي أحسّه رسول الله بسبب المصاعب التي تعرض لها، أمره قائلًا: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (سورة الْحِجْرِ: 15/98-99).

وبعد أن ذكر الله تعالى الحزن العميق الذي شعر به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء ما قاله وفعله الكفار والمشركون، أمره بالتسبيح والتقديس والثبات على العبودية لله تعالى حتى آخر أنفاسه.

ولما كانت الدنيا التي نعيش فيها دارًا للامتحان فسيعاني الجميع من أزمات ومحن بقدر معين بلا ريبٍ، وسيعاني أعاظمُ الناس أقساها، إذ إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.. لقد تعرّض الأنبياء إلى أصعب وأشد أنواع البلاء، فمنهم مَن قُتِلَ، ومنهم مَن قُطِّع بالمناشير، ومنهم مَن تعرَّضَ للصلب، وعُذِّب بعضُهم ورجم بالحجارة، واستُكثر على البعض الآخر حقُّ الحياة على الأرض الذي منحه الله إياهم.. ويُفهَمُ من قوله: “ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ”؛ أن عبادَ الله الصالحين من بعد الأنبياء سيُمتَحَنون حسب درجة قربهم من الله.. وربما لهذا السبب، استُهدف سيدنا أبو بكر من قبل أعوان الشيطان، وأُسقط سيدنا عمر شهيدًا في أثناء الصلاة على يد عبدٍ ناقمٍ، واستُشهد سيدنا عثمان بوحشيّة على يد بعض الطائشين الّذين حرَّكَهم الشيطان، واستُهدِف سيدنا علي من قبل شخصٍ منافقٍ، ثم تسمم سيدنا الحسن، وقُتل سيدنا الحسين وأقاربه على يد جيش “يزيد” في “كربلاء”، وبسبب هذه العظمة أيضًا تعرض لأصعب الامتحانات كل من السيدة “مريم” وأمّنا السيدة “عائشة” رمزي العفة اللتين لم يخطر الحرام ولو حتى في منامهما.

إن تقتفوا أثرهم، فسوف تمرون أنتم أيضًا من غرابيل دقيقة، ووفقًا للحديث الشريف: “يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ”، إلى أن يُفصل الماسُ عن الفحم.. إذا لم يُصفع الإنسان في الدنيا بسبب دينه وديانته ومعتقده ودفاعه عن الحق والحقيقة، فيجب عليه -إلى جانب تقديم الشكر لربه- أن يقلق على وضعه أيضًا، ويحاسب نفسه قائلًا: “لقد تعرّض السائرون قبلي على هذا الطريق إلى شتى أنواع المصائب؛ فلماذا لا ينشغل بي الشياطين وأعوانهم؟! ألستُ مثل أسلافي يا ترى؟!”.

 إن الذين يعيشون آمنين دائمًا في هذه الدنيا يجب أن يخافوا من كونهم يحظون بأمان الآخرة في الدنيا، وقد بيّن الله تعالى في حديثٍ قدسيّ: “وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[5]، وهذا يعني أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش حياة في أمان وراحة تامّين، وتشير إلى الأمر نفسه آية: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (سورة الأَحْقَافِ: 46/20).

وكما أسلفنا فإن الدنيا مكانُ الامتحان والخدمة، أما الأجر والمكافأة ففي الآخرة، ولا ينبغي للإنسان في الدنيا أن يفرط فيما حظي به من النعم، بعدم المبالاة بأوامر الله ونواهيه، والإفراط في التمتّع بالرفاهية والأبهة.. ينبغي له أن يبرمج الدنيا وفقًا للآخرة، وألا يذهب إلى الآخرة بحسابات متراكمة.. عليه أن ينظر بمنظار الخواص فيعُدَّ الامتحانات الصعبة التي تعرض لها شرطًا من شروط العبودية، فيغتنمها ويحوّلها إلى رأسمال للآخرة من خلال مقابلته إياها بالصبر والرضا.. إلى جانب ذلك لا ينبغي لأيِّ قلب مؤمن أن يسيء إلى أحد لكونه تعرض للافتراء والظلم، ولا أن يولي ظهره للقضية التي آمن بها، ولا أن يخسر في وقت هو أدعى للكسب.. عليه كلّما تعرض لمثل هذه الامتحانات أن يقول: “رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا”[6]، ويواصل طريقه.

 

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ملحق قسطموني، ص 141.

[2] سنن الترمذي، الزهد، 57؛ سنن ابن ماجه، الفتن، 23.

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة العاشرة، ص 61.

[4] صحيح البخاري، الجنائز، 42؛ صحيح مسلم، الفضائل، 62.

[5] عبد الله بن المبارك: الزهد، ص 50؛ ابن حبان: الصحيح، 2/406.

[6] صحيح مسلم، الصلاة، 13.

آفة الحديث عن النفس

Herkul | | العربية

سؤال: هلا تفضلتم بشرح موضوع “الحديث عن النفس”، الذي غالبًا ما تؤكّدون عليه في حلقات الدرس؟

الجواب: أولًا، علينا أن نحدّد ما الذي نقصده بالحديث عن النفس.. إننا عندما نقول: “الحديث عن النفس”، نقصد إظهار الإنسان نفسه، وإبرازها في المقدمة، وتطويعه الكلام بحيث يجعله ينسحب على نفسه، ومحاولته إظهار نفسه في أعين الناس ليس فقط بالكلام، ولكن بأطواره وأفعاله أيضًا، ونعُدُّ هذا عيبًا وقصورًا أخلاقيًّا.. هذه هي المشكلة التي نحاول تحذير الناس منها فقط، لأن التعبير عن النفس ليس مرفوضًا في كل موقف.

فعلى سبيل المثال؛ تعبيرُ الإنسان عن نفسه في حضرة الله من خلال العبادة والعبودية أمرٌ مقبول، ذلك أن كلَّ إنسان، بالنظر إلى تجهيزاته الداخلية والخارجية، هو أثرٌ فنيٌّ رائع يحمل نقوشًا وآثارًا خاصّة بصانعه، وعلى حدّ تعبير الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، يمكن النظر إلى الإنسان على أنه فهرست الوجود وجوهره.

 وبتدقيق النظر: يتبين أن الإنسان يتمتّع بطبيعةٍ مثاليةٍ بعقله ومنطقه وروحه وقلبه وإرادته وضميره ووعيه، وقد جعله الله تعالى بمثابة أَثَرٍ ينبض بالحياة والإحساس، فهو كائنٌ يسمع ويشعر ويدرك أيضًا ما يسمعه ويشعر به؛ لذا يجب على الإنسان المتمتع بهذا التجهيز الرائع أن يعلم أن كل هذه النعم والسجايا تأتي من الله تعالى، فيحمده ويشكره تعالى كلما فكر في أيٍّ من هذه المميزات، ويقول أمام عظمة الله ومهابته: “سبحان الله والله أكبر”.. فتعبير الإنسان عن نفسه من خلال العبودية له تعالى ضرورة من ضرورات العبودية.. والحقيقةُ أن مثل هذا التصرُّف، هو تعبير عن إدراك المرء لوضعه، ودليل على عزوه كل ما لديه لمالكه الحقيقي، وإعلانٌ عن العلاقة بينه وبين الذات الإلهية.

أما بالنسبة للتعبير عن النفس، والذي نعتبره مرفوضًا ونحاول أن ننأى بأنفسنا عنه ونحذّر الآخرين منه في كلّ فرصةٍ، فهو محاولة الإنسان أن يكون في المقدمة، وأن يكسب تقدير الآخرين وإعجابهم بأخلاقه ومكانته ومواقفه وأفعاله وأفكاره وآرائه، بل وحتى بعبادته وطاعته.. وإنَّ إظهار الفضائل والمزايا أمام الآخرين والافتخارَ بها، لهو دليل على إنكار المصدر الحقيقي لتلك الفضائل ونسبتها إلى النفس البشرية، ويمكن القول: إن مثل هذا الشخص قد اغتصب -عمدًا أو جهلًا- ما هو حقّ لله تعالى.

إن الباحثين عن التقدير والتصفيق، يحاولون التعبير عن أنفسهم بطرقٍ مختلِفةٍ، ويتوهّمون عظمة أنفسهم، ويستخدمون كل الوسائل لإظهار أنفسهم والإعلان عنها، ويُطوِّعون اللقاءات للحديث عن أنفسهم في كلّ فرصة.. وعندما يتحدثون أو يكتبون؛ فإنهم يبحثون عن مدخل للحديث عن أنفسهم ويجدونه بطريقة ما، ويلفتون الانتباه إلى مزاياهم الخاصّة إن لم يكن ذلك بشكلٍ مباشِرٍ فمن خلال التلميحات والإشارات، فإن كانوا سيرسمون لوحةً، انشغلوا بفكرة: “لأرسمنّ لوحةً، ليرى الناس كيف يكون الرسم!”، وإن كتبوا مقالًا أيضًا، انشغلوا بفكرة: “إنه عملٌ رائع، ويجب الاطلاع عليه وقراءته والإعجاب به”، حتى إنهم لا يتقبّلون من ينتقد المقال سلبًا، ويحاولون حتى أثناء كتابة الاسم المبارك والمتعال للذّات الإلهية، أن يضعوا علامة تشير إلى أنفسهم، وإذا كانوا سيصعدون المنبر ويتحدّثون عن الله، يكون جلُّ اهتمامهم أن يُظهروا للحاضرين كيف تحدّثوا عنه بشكلٍ جيّد، حتى إن صياحهم وعلوَّ نبرةِ صوتهم وضربَهم على المنبر بأيديهم يُعزى إلى رغبتهم في التعبير عن أنفسهم.. وبالإضافة إلى التعبير عن أنفسهم شفهيًّا وكتابيًّا، يمكنهم أيضًا من خلال أنماط حياتهم، والسيارات التي يستخدمونها، والمنازل التي يعيشون فيها، والمتاع الذي يستخدمونه.. وإذ يفعلون ذلك لا يغفلون عن العثور على ستارٍ لكبرهم وريائهم، فيتصنّعون التواضع أحيانًا، وأحيانًا أخرى يحاولون إخفاء أمراضهم الداخلية بترديدهم عبارة: “أستغفر الله”!

يريد المرضى الذين يعانون من هذا المرض النفسي أن يتحدّث الآخرون عنهم، تمامًا مثلما هم يتحدّثون دائمًا عن أنفسهم بكلامهم ومواقفهم وسلوكيّاتهم وأنماط حياتهم، هذه النفوس المريضة التي لا تكتفي للتعبير عن نفسها بنفسها، ترغب دائمًا في أن يكون بجانبها أناسٌ بمثابة أبواق لها، ويتحدثون عنها باستمرار، بل إنهم يؤسّسون مؤسّسات لذلك طالما كانت ظروفهم تسمح.. وإذا لم يُذكَروا في اللقاءات والخطابات أو في المقالات المكتوبة أو في الكتب والمؤلَّفات فلا أهمية لأيٍّ من هذه الأعمال بالنسبة لهم.

إن المصابين بهذه العلّة هم مساكين حسودون وحقودون، إنهم ينزعجون للغاية عندما يجري الحديث عن فضائل غيرهم، وحتى وإن اجتمعوا مع المشارب والشخصيات الأخرى، وتبادلوا عبارات التقدير؛ فإنهم يحفرون لهم الحفر سرًّا، ويبذلون قصارى جهدهم للإطاحة بهم، وينشغل هؤلاء الأشخاص دائمًا بعيوب الآخرين وأخطائهم تعبيرًا عن عظمة أنفسهم.. إنهم يحفرون الحفر فيما حولهم باستمرار؛ حتى يُرَوا في مقام رفيع.. كلّ هذه أمورٌ تؤدّي بالإنسان إلى الخسران، وتسوقه إلى المهالك والمخاطر، ويمكنكم أن تعثروا عند هذه النوعية من الأشخاص على الرذائل ومساوئ الأخلاق كلها.

والحال أن كل ما يفتخر به الإنسان ويستخدمه في سياق الحديث عن نفسه هو من عند الله، وسواء أكان الشخص يعمل في مهنةٍ، أو صاحب علم وحكمة، أو يقتني متاعًا وممتلكات، أو يمتلك مهارات مختلفة، فكلّ هذه الأشياء تتحقّق نتيجة استخدام القدرات التي منحها الله للإنسان وتهيئته تعالى السبيل له، ناهيك عن أن مدى استخدام هذه الأشياء والاستفادة منها بشكلٍ مناسبٍ أمرٌ غير مستثنى من المساءلة. أجل، إن عَزْوَ الإنسان المواهبَ الآتية من الله إلى نفسه متناسيًا إياه سبحانه وتعالى، وتعبيره عن نفسه بواسطتها اغتصابٌ للحقّ.

وواجب الإنسان في هذه الحالة هو أن يستغلّ كل المواهب والقدرات التي منحها له ربه في الحديث عن الله لا عن نفسه، يجب أن ينبعث من صوته وكلامه ونظراته ومواقفه المعاني المتعلقة بالله القدير دائمًا، وأن تتدفّق من كلماته معرفة الله ومحبته تعالى، ينبغي لمن يستمعون إليه أن تقوى علاقتهم بالله، ويزداد شوقهم وحبُّهم له، وتُثار حماستهم، يجب أن يكون كل حديثه مناجاة وتوحيدًا وتضرّعًا.

إن تخلُّصَ الإنسان من آفة الحديث عن النفس مرهونٌ بأن يغرس في طبيعته الأخلاق الإسلامية بشكلٍ عام، والتواضعَ والنزاهة بشكلٍ خاصّ، وبعبارة أخرى غالبًا ما نكرّرها: “تصفيره نفسه” أي جعله نفسه صفرًا، وهذا مستوى يمكن تحقيقه من خلال تربية للنفس طويلة المدى، وحتى ولو لم يستطع الإنسان أن يجعل التواضع والاستقامة جزءًا من طبيعته، فيجب عليه أن يُجبر نفسه في هذا الصدد.. وكما أن الحديث عن النفس فعلٌ إرادي، فإن منع هذا يعتمد أيضًا على الإرادة، فالأشياء الإرادية يمكن منعها بالإرادة أيضًا، وهذه الأشياء تصبح جزءًا من طبيعة الإنسان بعد فترةٍ من الزمن من خلال التمرين عليها، ولكن يجب على المرء استخدام إرادته باستمرارٍ في هذا الاتجاه إلى أن تحين تلك اللحظة.

وعلى المؤمن الحقّ أن يدفن في الأرض كلَّ موقفٍ يمكن اعتباره “حديثًا عن النفس”، ويضع عليه حجارةً ثقيلةً حتى لا يتمرّد من جديد، ويمكن القول: إن هذا هو هدف التصوّف في الأساس؛ فقد كانت الزوايا والتكايا تقدِّمُ مثل هذه التربية الرائعة.. وما هدف الابتلاءات والرياضات والسير والسلوك الروحاني إلّا التزين بالأخلاق الحميدة عبر التخلص من المواقف التي تفوح منها رائحة النفس والأنانية، وتعرُّفُ الناس على الله تعالى تعرُّفًا جيّدًا للغاية عن طريق اتباع أدلة وشواهد معرفة الله، ثمّ انفتاحُهُم على محبة الله.. ومن ثَمَّ يدركون أن كلَّ شيءٍ منه تعالى، ويدركون عظمته عز وجل وصغرَهم أمامه تعالى.

ومن المؤسف أن الناس في يومنا الحاضر لا يتلقّون مثل هذه التربية الروحية، كما لم يتسنّ إخضاع النفوس لتزكية حقيقية، وتعذَّرَ تطهير القلوب؛ لذلك تأتي الأنانيات في المقدمة، ويبحث الكثيرون عن فرصةٍ للحديث عن أنفسهم وسحب الكلام إلى أنفسهم، حتى إن هذا صار طبيعةً لدى البعض، ومنْ لا يستطيعون كبح جماح أنفسهم بإلجامها وإسراجها وجعلها خاضعةً مطيعةً يتحدّثون دائمًا عنها.. ولأن الحبل أُطلق لها على غاربه، فقد صار بإمكانها أن تثور وتتمرّد بسهولةٍ وتتحرّك كما يحلو لها، وأصبح الكثيرون مطيةً لنفوسهم، ينسحقون تحتها.

وخاصة إذا كانت البيئة التي نشأ فيها الإنسان مواتيةً لذلك؛ أي إذا رأى منْ في هذه البيئة أنفسهم “أحفاد عِرق يصنع الأبطال”، وكانوا ينسجون باستمرارٍ ملاحم بطولية للأمة التي ينتمون إليها وينظرون إلى غيرهم باحتقار؛ فهذا يعني أن آفة الحديث عن النفس ستنتقل إلى الجميع في مثل هذه البيئة، وسيتأثر الناس بهذا الجوّ السلبي حتى وإن لم يدركوا ذلك، بل إن كون المرء منتميًا إلى مذهبٍ أو جماعةٍ أو مؤسّسةٍ أو مهنةٍ أو جامعةٍ ما في دائرة ضيقة يمكن أن يجعله هو وَمَن معه من الناس يرون أنفسهم مختلفين ومتفوقين، ويُضخِّم أنانيتهم، ومن ثم يتحدّثون عن تفوّقهم ومزاياهم في كلّ فرصةٍ، وأحيانًا يتعاظم هذا الفخر والأنانية لدرجة أن أفراد دولةٍ بأكملها، أو أمّةٍ أو مجتمع يمكن أن يصابوا بجنون العظمة، بيد أنه لا أحد يفطن إلى خطورة ما هم فيه؛ إذ يكون الجميع مبتلين بالمرض نفسه.

إن رؤية المرء نفسه متفوّقًا على الآخرين، وتصديرَه نفسه في كل فرصةٍ يشير في الواقع إلى مرض في النفس، إذ يمكن للنفس أيضًا أن تمرض مثل الجسد تمامًا.. ولسوء الحظ، فإن فئة كبيرة من الناس اليوم مبتلون بالأمراض النفسية، وعلاجُ الأمراض النفسية أصعب مقارنة بالأمراض البدنية، ويتطلّب وقتًا أطول وجهدًا أكبر، وكما تلزم مراجعة المتخصصين النفسيين من أجل علاج هؤلاء، تجب أيضًا مراجعة المرشدين الكاملين الذين يعرفون الطبيعة البشرية جيدًا ويجيدون توجيهها، ومع أن الأشخاص المبتلين بالمرض نفسه قد لا يستطيعون رؤية المشكلة الموجودة لدى بعضهم البعض؛ فإن المؤمنين أصحاب الفراسة الذين ينظرون بنور الله قد يمكنهم أن يلاحظوا التصنع والتكلف والرياء والسمعة الكامنة في مواقفهم وسلوكياتهم.

والواقع أن كل إنسان خُلق قابلًا لأن تتطوّر فيه عواطف مثل الرياء والسمعة والكبرياء والفخر والحديث عن الذات.. وهذا امتحان له من ناحية، ومن ناحية أخرى فالأحاسيس التي هي مصدرٌ لهذه المشاعر منفتحةٌ على الخير والشر، والمطلوب من الإنسان أن ينتبه دائمًا للمشاعر السيئة التي قد تتكوّن بداخله، وأن يكون قادرًا على أن يقمع بإرادته ما أصابه منها، وأن يوجِّه إلى الخير كلَّ شيءٍ مفطور في طبيعته، ومن لا يستطيع أن يعطي إرادته حقّها، ويصفر نفسه بإخضاع روحه لعملية تطهير جادةٍ؛ فقد باء بالخسران.

 

أبو ذر الغفاري رضي الله عنه

Herkul | | العربية

سؤال: كيف يجب أن نفهم حادثةَ إرسالِ سيدنا عثمان بن عفان سيدَنا أبَا ذرٍّ الغفاري رضي الله عنهما إلى المكان المسمى “الربذة” وإخضاعه إياه للإقامة الجبرية هناك، وما الدروس المستفادة من هذا؟

الجواب: الاسم الحقيقي لهذا الصحابي الجليل، والذي يشتهر في الغالب بكنيته “أبي ذر”: هو جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ، من قبيلة غِفار.. حين سمع ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته جاء إلى مكة فآمن به، وهو مِن السابقين الأوّلين ممّن أسلموا بمكّة، حتى إن هناك روايات تذكر أنه كان رابع أو خامس من أسلموا، وقد تعرّض للضرب من المشركين إثر إعلانه إسلامه عند الكعبة، ونجا من القتل بفضل تدخُّلِ سيدنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، إلا أنه ذهب مجدّدًا إلى المكان نفسه في اليوم التالي وأعلن إسلامه؛ فأصابه مثل ما أصابه في اليوم السابق.

 وبسبب ذلك فقد أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قبيلته “غفار” ليبلغهم الإسلام، وأمره ألا يعود إلى مكة مرة ثانية ما لم يطلب منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وبعد ذهابه استطاعَ أن يُدخِلَ نصفَ قبيلته في الإسلام بفضل تبليغه إياهم وتطبيقه ما تعلّمه.

 وقد جاء سيدنا أبو ذر رضي الله عنه إلى المدينة المنورة بعد غزوة “أحد” أو “الخندق”، وانضم إلى أهل الصُّفة، وظل هناك حتى تلك اللحظة التي ارتقت فيها روح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بارئها.

ولَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، وَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كُنْ أَبَا ذَرٍّ”، فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ[1].

فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبَتِهِ، وَسُيِّرَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه إِلَى “الرَّبَذَةَ”، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى امْرَأَتَهُ وَغُلَامَهُ إِذَا مُتُّ فَاغْسِلَانِي وَكَفِّنَانِي، ثُمَّ احْمَلَانِي فَضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّونَ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا بِهِ كَذَلِكَ فَاطَّلَعَ رَكْبٌ، فَمَا عَلِمُوا بِهِ حَتَّى كَادَتْ رَكَائِبُهُمْ تَطَأُ سَرِيرَهُ، فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ فَاسْتَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْكِي، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ”، فَنَزَلَ فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجَنَّهُ[2].

وعند البحث في كيفية معرفة النبي لما سيحدُثُ لأبي ذرٍّ رغم أن ذلك كان في علم الغيب؛ سنجد أن معرفَتَه جاءت من أحدِ طريقين؛ الأول: أنها معجزةٌ من معجزاته صلى الله عليه وسلم وقد أخبره بها الوحي، والثاني: عرف ذلك بما وهبه ربه من فراسة تؤهّله لقراءة لغة الحوادث.. وهو ما يُسمّى بـ”تأويل الأحاديث” على حدّ التعبير القرآني.

ويعدُّ البعضُ “تأويل الأحاديث” تفسيرًا للأحلام فقط، لكن الحقيقة أن مجاله أوسع بكثير؛ فاستنباط معانٍ مختلفة من الأحداث التي تقع في حياتنا اليومية هو أيضًا نوعٌ من تأويل الأحاديث، والأحداث التي تقع في الحقيقة تحدث عندما تظهر الإشارات الخاصة بعالم ما وراء المادة -والتي نسميها عالم المثال- إلى الوجود كما نراه بالعين المجردة، لذلك فإن تأويل الأحاديث يرتبط بإدراك عالم المثال وعالم الشهادة، أي بإدراك تلك العلاقة التي بين العالم الميتافيزيقي والعالم المادي، ومعرفة معاني الإشارات المثالية وفهم هذه المعاني وتفسيرها أمرٌ لا يتسنّى للجميع فعله.

هناك العديد من التأويلات التي طرحها نبينا صلى الله عليه وسلم انطلاقًا من ملَكة تأويل الأحاديث؛ فقد قرأ الأحداث التي وقعت من حوله قراءةً جيّدةً، واستنبط منها معاني مختلفة، حتى إنه يمكن النظر من هذه الزاوية إلى قضيّة تغييره أسماء بعض الصحابة.. وباعتبار تحقُّق ما قاله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد أخبر على سبيل الإعجاز عن حال أبي ذرٍّ رضي الله عنه في المستقبل بناءً على ما استنبطه من موقفه عندما أبطأه بعيره عن بقية الجيش، وبناء على أحواله وتصرّفاته، ومن ثم فإنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن الموقف العام الذي ستكون عليه هذه الشخصية في المستقبل.

ولقد سمى القرآن الصحابة بـ”السابقين الأولين”، وخصّهم بمكانةٍ مميّزة.. لذلك يجب أن نكون حذرين للغاية عند الحديث عن الصحابة الكرام، وأن نضع مكانتهم العالية نصب أعيننا عندما نُقَيِّمُ مواقفهم، وبالإضافة إلى هذه المكانة الاستثنائية التي يتمتّع بها الصحابة بشكلٍ عام؛ فإن سيدنا أبا ذر هو أحد الصحابة البارزين بالنظر إلى حياته الشخصية وزهده وورعه، ولقد قدّم الإسلامَ دائمًا، وأعلى همتَه باستمرار؛ لدرجة أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال في أحد أحاديثه: “أَبُو ذَرٍّ يَمْشِي فِي الأَرْضِ بِزُهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام[3].

عاش أبو ذر حياته في زهدٍ وتقوى كاملين، لم يهتمّ إطلاقًا بالدنيا ولا بمتاعها، فهو يرى أنه لا يجوز للمرء أن يطلب الدنيا إلا في أمرين اثنين؛ أولهما: توفير الرزق الحلال لأهله، أما ثانيهما: فهو الإنفاق في سبيل الله من أجل الآخرة.. لذلك فقد اعتبر أن كلَّ النقود والأموال التي تُدَّخر زيادة عن حاجة الإنسان “كنزٌ” سيُحاسَبُ الإنسان عليه، وحذّر الأثرياء من الأموال والثروات التي تكدّس طمعًا في الدنيا.

إنه يتمتّع بشخصيّة لا تضنّ على أحدٍ بنصحٍ، وتصدَحُ وتجهر في كلِّ مكانٍ بالحقائق التي ترى أنها صحيحة، ولا سيما في الفترة التي مكث فيها بالشام؛ فقد انزعج كثيرًا من امتلاك المسلمين الثروات وعيشهم في راحةٍ ودَعة، وبدأ يعبّر عن انزعاجه هذا في كلّ مكان، وعلى الرغم من أن كلماته هذه قُوبلت بالترحيب من بعض الأشخاص، إلا أنها أزعجت أيضًا عددًا كبيرًا من الناس.

وقد نال معاوية رضي الله عنه والي الشام آنذاك نصيبه هو الآخر من انتقادات أبي ذرٍّ وتحذيراته؛ إذ وجه أبو ذر رضي الله عنه تحذيراتٍ شديدةً إلى معاوية لأنه حابى أقرباءَه وقرَّبَهم ولم يراعِ حقوق الناس على السواء، وعاش في رفاهية.. حتى إنه لم يستطع أن يتمالك نفسه ذات مرّةٍ فصفعَه.. فما كان من معاوية بعد هذه الاعتراضات القاسية، إلا أن اشتكاه أوّلًا إلى كبار الصحابة، وعندما لم يحصل على أية نتيجةٍ تُذكَرُ رفع الأمر برسالةٍ إلى سيدنا عثمان الخليفة في ذلك الوقت.. ويمكن القول: رغم أن معاوية كان يتّخذُ أحيانًا قرارات قاسية جدًّا باسم الدولة فقد تصرَّف بتسامحٍ شديدٍ إزاء الاعتراضات والاستجوابات الموجّهة ضدّه، ولو أنكم تصرَّفْتم مثل هذا التصرف اليوم، ليس إزاء حاكم، وإنما إزاء حارسه أو خادمه، أو مدير مكتبه، لطردوكم، وتعدّوا عليكم.

أراد عثمان، الذي أُطلع على الوضع، أن يبقى “أبو ذرٍّ الغفاري” في المدينة المنورة، لكنه واصل انتقاداته نفسها هناك أيضًا؛ إذ كان يريد من الجميع أن يعيشوا حياة الزهد مثله، ويقوموا بإنفاق الأموال الزائدة عن حاجاتهم الأساسية، وكان دائمًا ما يتلو على أصحاب الأموال الآيات القرآنية التالية: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/34-35).

لقد تسبَّبت كلمات سيدنا أبي ذر هذه انزعاجًا وتبرُّمًا في المجتمع، وبناءً على الشكاوى الواردة، أرسل سيدنا عثمان أبا ذر إلى “الربذة”، وأمر له ببعض الأنعام وخادِمَين، وخصّص له راتبًا يكفيه، وطلب منه العيش هناك، كما سمح له بالمجيء إلى المدينة المنوّرة لتلبية احتياجاته.. وقد ورد في بعض الروايات أن أبا ذر ذهب إلى “الربذة” بمحض إرادته؛ حيث أمضى فيها آخر عامين من حياته، وخلال هذه الفترة، جاءه المعارضون للحكم والإدارة، وعرضوا عليه التمرّد على الخليفة؛ فرفض أيَّما رفضٍ وأوصاهم بالسمع والطاعة للخليفة.

إن أبا ذر يعيش حياته بحساسيّة فائقة، ولا يهتمّ بمتاع الدنيا، ويحبّ الحقّ للغاية، وهو في الوقت نفسه يطيع أوامر ولي الأمر عند الضرورة؛ لهذا السبب بقي في “الربذة” حتى مات، وعاش وحيدًا ومات وحيدًا ودُفن وحيدًا، كما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن المحتمل أن هذه الكلمات التي وجّهها النبي صلى الله عليه وسلم إليه، كان لها تأثير في ألا يخالف أمر الخليفة.

إن سيدنا أبا ذر الغفاري رضي الله عنه قد التزم بدقة بأوامر الدين، وتمتّع بسجايا مختلفة، وأعلى الهمّة في حياته الدينية، واستحقر الدنيا، وأقام حياته على الزهد والتقوى، وحافظ على منهجه هذا حتى وفاته، ومن ثم كان صحابيًّا عظيمًا حظي بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم..

ومن المؤسف أننا فقدْنا مفهوم الزهد والتقوى والورع بهذا القدر، وإنني شخصيًّا لم أقابل حتى الآن مسلمًا مثل أبي ذر، ولم أعرف أحدًا تمسّك بالزهد والورع بالمعنى الذي فهمه، واستوعبه واصطبغ به.. للأسف، لم ترَ هاتان العينان شخصًا عاش حياته على غرار المحاسبي، وإبراهيم بن أدهم، وفضيل بن عياض، يستطيع أن يرد الدنيا ومتاعها وثرواتها بظهر يده، وبكل سهولة!

 إن الزهد والورع مطلوبان في قلب المرء وفي حياته الشخصية على حدٍّ سواء؛ فكما أن الزاهد بالمعنى الحقيقي لا يحزن على ما فقده من متاع الدنيا، فإنه لا يفرح بما كسبه منه أيضًا، إنه يبني حياته كلها على هذا المفهوم، وإذا كان ثمة إنسان يأكل مرتين أو ثلاثًا في اليوم، ولديه كثير من الملابس، ويعيش في منزلٍ مريحٍ وينام على فراشٍ وثيرٍ؛ فإن حديثه عن الزهد قد لا يكون واقعيًّا، لهذا السبب فإن إظهار الزهد بالمعنى الحقيقي للكلمة أمرٌ شديد الصعوبة، على الرغم من وجود العديد من “المتزهدين” اليوم هنا وهناك.

أما البعد الآخر للمسألة، فإنه مع التسليم بامتلاك سيدنا أبي ذر لكل هذه الفضائل، فإن مكان سيدنا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين وارثي النبوة من الدرجة الأولى مختلِف ومتميّز.

كان الخلفاء الراشدون يدركون جيّدًا حقائق الحياة الاجتماعية، وأن هذه الحقائق قد يكون لها بعض المشاكل الخاصة بها، ومن أجل موازنة القضية، كانوا يتعاملون مع دائرة الحلال على قدر سعتها، ولا يضيقونها.. وإلى جانب اعتمادهم الحد الأقصى من الزهد والتقوى أساسًا وتصميمهم حيواتهم الشخصية وفقًا لذلك؛ فإنهم لم يكونوا يمنعون الناس من الاستفادة من الدنيا واستخدام الرخص المشروعة، شريطةَ أن تظلَّ في الإطار الذي يسمح به الدين، ولو أنهم حاولوا ممارسة أعمالهم وفقًا لفهم أبي ذر للتقوى وفكرته العالية عن الزهد؛ لنفَّروا الناسَ وأشعروهم بحتميّة الحياة الدينية الصعبة التي لا يستطيعون الوفاء بها؛ لأن هذا الأفق في غاية السموِّ والارتفاع، وهو سبيلٌ لا يتسنّى للجميع السير فيه، وعبءٌ لا يمكن للجميع تحمّله.

عند تعريفِ الإنسانية بالإسلام الدين المبين يجب تسليطُ الضوء على أحكامه الموضوعية، ذلك أنه إذا كان المرء يؤدي المسؤوليات المالية المترتبة عليه من زكاةٍ وصدقات وغيرها؛ فلا يحقّ لأحدٍ التدخّل في ممتلكاته وأمواله، ولقد عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من أحاديثه أحكام الدين الموضوعية كالصلاة والصوم والزكاة والحج شرطًا للإيمان والدخول في ذمة الله ورسوله، فلا يمكنكم التدخل في حياة مَن دخل في ذمة الله ورسوله باتباعه أوامر الدين ونواهيه الأساسية.

 علاوة على ذلك، فإن تعميمَ فهمٍ للتقوى والزهد مثل فهمِ أبي ذرٍّ على الجميع قد يُضعِفُ القوة المادية والاقتصادية؛ لأن مثل هذا الفهم ربما يمنع الكثيرين من السعي والاجتهاد، ويقوّض عزمهم على العمل، ويسوقهم إلى الكسل.

قد يلتزم بعض الناس بأقصى درجات الزهد والتقوى بالنظر إلى حياتهم الشخصية، ويردُّون الدنيا بظهر أيديهم، ويوصون الآخرين بنمط الحياة هذا الذي تبنّوه لأنفسه، غير أنه لا ينبغي لهم أن يفرضوا نمطَ هذه الحياة الزاهدة التي يعيشونها على غيرهم، ولا أن يطعنوا أو يذمّوا الذين لا يشبهونهم ولم يسيروا على منوالهم.. والواقع أن الخلفاء الراشدين أيضًا عاشوا زاهدين جدًّا، وقد كان سيدنا عمر يأكل ويشرب ما تأكله أو تشربه الطبقة الفقيرة من الناس، لقد شكَّل حياته وفقًا لذلك، غير أنهم لم يضعوا حدًّا لأيِّ شخصٍ بشأن كسبه المال، ولم يجبروا أحدًا على العيش مثلهم، وقد شهدت عصورُهم كثيرًا من الأغنياء وملّاك الثروات الهائلة.

وفي النهاية فإنني إذ أطرح هذه التقييمات أجتهد وأرجو ألا أكون قد استخدمْتُ تعبيرًا يسيء إلى تلك الشخصية الغِفارية العظيمة؛ فإنني أكنّ له احترامًا عميقًا لحساسيّته وموقفه الديني، إنه مسلمٌ مثاليٌّ وإنسانٌ كاملٌ، بالنظر إلى حياته الشخصية.

وفي عصرنا هذا الذي نُسي فيه الزهد والتقوى واستحقار الدنيا؛ أدعو الله أن يقدّر لجيلنا تنشئة كثيرين من أمثال أبي ذرّ، وأسألُه أن يُشرِّف جيلَنا بأعلى شمائل الزُّهد، وأكملِ فضائل التقوى، وأعلى قدرٍ من الإخلاص والخدمة الدائمة.

 

[1] الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 3/52.

[2] المصدر السابق: 3/52.

[3] سنن الترمذي، المناقب، 35.

المداومة على أداء الواجب

Herkul | | العربية

يطيب لنا كلُّ شيء طالما كان الله معنا، لذا علينا أن نبتهل ونتضرع دائمًا في دعائنا قائلين: “اللهم لا تتركنا بدونك”، وأن نجعل هذا وردَنا.. فليس من الممكن لإنسان أن يعيش في طمأنينةٍ وسلامٍ بدونه سبحانه، مثل هذا الإنسان يقضي حياته في اضطراباتٍ وضغوطٍ نفسيّةٍ، ويعيش آلامًا أشدّ من ألم جهنم.. في حين أن المرء الذي يؤمن بالله ويعيش مغمورًا بشعور معيّته يصير في رياض الجنان والبساتين حتى وإن كان حبيسًا في الزنزانات، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (سورة الرَّعْدِ: 13/28).

وعندما نذكر الذات الإلهية فإنّ كلّ ما سواه تعالى يُعَدُّ ثانويًّا لا قيمة له، بل إن وصفَه بالثانوي مقارنةً بجلال جناب الله كثيرٌ عليه، فالدنيا وما يتعلّق بها من أشياء لا تساوي أيّة قيمةٍ إلى جانب رضا الله تعالى.. لذلك كان طول الأمل في الدنيا والتشوُّف إلى أمورٍ عظيمةٍ فيها، والحرصُ عليها والطمعُ فيها أمرًا لا قيمة له.. والحكمةُ الحقيقية هي القدرةُ على عيشِ حياةٍ قانعةٍ، والقدرةُ على نيل رضا الله، والرضا عنه والقناعة بما أحسن وتفضَّل به، وإن تراءت لنا الدنيا بكلّ جمالها الفتّان، وأُبَّهتها المحيِّرة، وتيسّرت لنا القدرة على تملُّكها، فيجب علينا أوّلًا أن ننظر: أفي ذلك رضا الله أم لا؟ فإن لم يكن فيه رضا الله فواجبٌ علينا أن نرفضها بكلِّ سهولةٍ بظهر أيدينا، ونُنحّيها جانبًا.

إننا -وبكل أسف- فقدْنا هذه الاعتبارات السامية مع مرور الزمان، فالخلفاء الراشدون بعد أن حلّقوا وارتقوا إلى أفق أرواحهم بدأْنا نحن نفقد مكتسباتنا وعمقَنا المعنويّ في علاقتنا بالله تعالى، وخبتْ أضواء عالمنا الفكري شيئًا فشيئًا حتى اليوم، وأغوَتْنا السلطنة والأبّهة أحيانًا.. ولا سيما أننا بدأنا بعد القرن الخامس نعيش حالةَ ركودٍ خطيرة في اتخاذ موقفٍ صارم إزاء الدنيا، والتوجّه إلى الله تعالى، وقد حدث نوعٌ من النشاط في فترات معينة، واستنار أفقنا، وبينما كان ظلامٌ خفيفٌ يخيّم أحيانًا، ثم يشعّ النور وتتفتّح العيون على الحقيقة؛ إذ بنا على ما نحن عليه اليوم.

لقد بدأنا نعيش حقبةً مضطربةً عصيبةً منذ قرنين من الزمان حتى اليوم؛ فقد ابتعدنا تمامًا عن جميع قيمنا، وعن جذورنا المعنوية والروحية، ولذلك صرْنا بعد فترة من الوقت يتامى القيم، والأسوأُ من ذلك أننا لم نستطع بذل مجهودٍ حقيقيّ يؤدّي بنا إلى استعادة تلك القيم مرة أخرى.

ثمة أناس كثيرون في يومنا الحاضر يبدون مسلمين؛ يرتادون المساجد ويصلّون، لكنهم يجعلون الدنيا هدفهم الأساسي، ويعيشون حياة قوامها الدنيا، حتى إنهم ينتقدون مَن يطلب الآخرة، وينشد رضا الله، والتضحية، ويقولون: “لقد علَّقْتَ قلبك بأشياء بعيدة جدًّا، وتجاهلْتَ الحياة في هذه الدنيا”.. وبمعنى آخر: إنهم ينطقون بلسان الشيطان، ويعبّرون عن رغبات النفس، ويتحدّثون مثل الملحدين.

نعيش اليوم انحرافًا خطيرًا للغاية، ورغم كلِّ هذه السلبيات فليس من المستحيل استعادة القيم المفقودة.. غير أنه لا بدّ من حدوث انتفاضةٍ قويّةٍ، فإن تعقدوا العزم في هذا السبيل، وتبثّوا بذور الانبعاث من جديد؛ يُحْيِ الله جميع القيم التي فقدتموها حتى اليوم، ويجب أن يكون هذا هو واجبنا الأصلي، وألا يثنينا أيُّ شيءٍ عن هذا الطريق الذي نسير فيه.

لا داعي للذعر من قوّة الظالمين وتسلُّطهم وجبروتهم، ففي أيّ عصرٍ خُلّد الظالمون حتى يخلد ويصمد من يتسلّطون علينا اليوم؟! إنهم يومًا ما سيفنون بعون الله تعالى وعنايته وسيتساقطون كما تتساقط أوراق الخريف.. إن تعتمدوا على الله، وتجدّدوا عهدكم وميثاقكم معه في كلّ لحظةٍ لن تُغلبوا ولن تُهزموا، ولن يستطيع أحدٌ أن يطرحكم أرضًا.

فإن وقفنا عند ما فعلَه أو قاله فلان أو علان، وصرفْنا قوَّتنا وطاقتنا الفكرية على هذا فلن نستطع أن نكِّون طرقًا بديلة من أجل انبعاثٍ جديد، ولا أن نسير قدمًا.. ومهما فعله الآخرون فعلينا أن نهتمّ بعملِنا وشأننا الخاصّ، وألا ننشغل بما لا يعنينا، وألا ننفق وقتنا على ذلك.. يجب علينا أن نسعى إلى استخدام الإمكانات التي وهبنا الله إياها استخدامًا مفيدًا وبشكل مثمر، وأن نُضاعف جهودنا وأنشطتنا ضعفَين، بل وثلاثة أضعافٍ من خلال التجارب السابقة، والاستفادة من مختلف الأفكار المطروحة بمشاعر صادقة وخيرة؛ فنبحث عن وسائل مضاعفة الواحد إلى عشرة، والعشرة إلى مائة، والمائة إلى ألف؛ فالقدرة على دخول قلب إنسان بالنسبة لنا، وصبُّ إلهامات أرواحنا فيه هي أقيم عملٍ في الدنيا.

لقد قال مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم: “فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ!” ثم ذكر صفتهم فقال: “الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي”[1]، أي: يُصلحون القلوب والأرواح والمشاعر والأفكار، ويصححونها، إنهم يفعلون ذلك دون أن يأبهوا بما يقوله الآخرون من احتقارٍ أو غِلظةٍ أو إساءةٍ أو محاولات عرقلة، بل يعدّونها من خصائص الطريق الذي يسيرون فيه.

 إننا إن نكبحْ جماح مسيرتنا، ونتوقف في مواجهة السلبيات التي نواجهها، ونبطِئ المسير؛ يستحلْ علينا تحقيق الغاية المثالية التي عزمنا عليها، وإن ننشغل أكثر من اللازم بما يقوله أولئك الذين يعتدون ويفترون ويُهينون؛ نضيّع وقتًا عظيمًا لا ينبغي التفريط به، لا سيما وأنه لدينا الكثير من العمل يتعيّن علينا القيام به، وليست لدينا ولو حتى ثانية واحدة نضيّعها.. وبما أن الأمر هكذا فإن إضاعتَنا وقتَنا هنا وهناك إثمٌ أعظم بكثير من الإسراف في الأشياء التي نأكلها ونشربها؛ فيجب ألا نستهلك أوقاتنا وأنفاسنا المعدودة فيما لا يعني شيئًا بالنسبة لإيماننا وعرفاننا وعشقنا وشوقنا، وعلينا أن نُعمل كلّ خليّةٍ من خلايانا العصبية في الأشياء الإيجابية، ونستخدمها في سبيل غايتنا المثالية.

وعودًا على ذي بدء نقول: إن قضيتنا واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي معرفةُ الله تعالى ومحبته، ثم تعريف العالم أجمع به وتحبيبه فيه.. وبعبارة أخرى: إنها فتح آفاق الناس وعيونهم، والعمل على أن تتلاقى القلوب مع الله تعالى عبر إزالة العراقيل والحواجز التي بينها وبين الله تعالى، وما من عملٍ أهمّ وأقدس من هذا العمل، فإدراك شخصٍ واحدٍ الهدايةَ على أيدينا، وانفتاحُ بصيرته على الحقّ والحقيقة، ونبضُ قلبه بالإيمان بالله؛ خيرٌ لنا من حمر النعم، وأقيمُ عندنا مما طلعت عليه الشمس.. ففتحُ قلبٍ أعظم من فتح “إسطنبول”، وإن كنا نؤمن بأن هذا هو عملنا وهدفنا وجب علينا أن نُعمل كلّ ملَكاتنا العقلية ونوظّفها في هذا السبيل، وألا ننشغل بالقضايا التي تظلّ ثانويةً بجانب هذا، وألا نضيّع الوقت أبدًا، لأن الانشغال بصغائر الأمور بينما هناك ما هو أعظم منها هو من شأن صغار الناس.

إن كنا نعتقد بأن القضية التي نخاطر من أجلها، والأعمال التي نبذل الوقت والجهد في سبيلها؛ موافقةً لرضا الله ونافعةً للإنسانية وجب علينا أن نحاول الصمود في مكاننا والثباتَ في سَيرِنا دون أن نغيّر الطريق والاتجاه في مواجهة الصفعات القادمة من اليمين واليسار.

 إذا أصابكم التردّد حول والأعمال التي تضطلعون بها وتساءلتم؛ هل هي مناسبة للغاية أو لا؛ فعليكم أن تتشاوروا، وتراجعوا الفطرة السليمة والعقل المشترك، وتعيدوا النظر في الطريق الذي تسيرون فيه، وتتحقّقوا مما إذا كان ثمّة خطأٌ في الأمر لا؟ عليكم أن تتأكّدوا مما إذا كانت المشاريع التي نفّذتموها، والمؤسسات التي أسّستموها، والأنشطة التي أقمتموها توافق محكمات الدين، وتلبّي احتياجات الإنسانية أم لا؟ بل عليكم أن تنظروا في الأمور التي يتّهمكم بها أولئك الذين يهاجمونكم ظلمًا وعدوانًا، فإن كنتم بعد مراجعة هذه الأشياء واختبارها والتحقّق منها بإنصافٍ تعتقدون أن الطريق الذي تسيرون فيه مستقيمٌ وحقٌّ، وأن الأشياء التي يفعلها من يبغون إثناءكم عن الطريق ظلمٌ وطغيانٌ، وأن الخدمات التي قدّمتموها تعِدُ البشرية بخيراتٍ عظيمة؛ فيجب عليكم حينئذ الحفاظُ على موقفكم بثباتٍ، والرسوخُ في مكانكم بقوّةٍ وشموخٍ، ومواصلةُ الخدمات التي تضطلعون بها من خلال مضاعفتها.. وإنكم إذ تسعون لتقوية موقفِكم في هذه النقطة فعليكم ألا تقفوا مكتوفي الأيدي، ولا تهملوا مَن انخدعوا وضُلّلوا، بل تقومون بتعريف أنفسكم لهم تعريفًا صحيحًا، وبيانِ طبيعة الأعمال التي تقومون بها، وإصلاحِ الأذهان التي أُفسدت.

[1] سنن الترمذي، الإيمان، 13.

الوعي بالتاريخ

Herkul | | العربية

سؤال: كيف يمكن إكسابُ أجيالِ الشبابِ الوعيَ بالتاريخ دون استحضارِ خصوماتٍ وقعَت في الماضي؟

الجواب: لا يمكن بناء مستقبلٍ بدون ماضٍ؛ لأن الماضي لأيّة أمّةٍ بمثابة الجذر والأساس، فلا يمكن بناء المستقبل إلا عليه، بل ولا يمكنه أن يتفرّع ويتشعّب إلا بالاعتماد عليه، ولهذا قال يحيى كمال بكلماته الموجزة: “أنا مستقبل جذوره ضاربة في الماضي”.. إن ما قاله يحيى كمال ذو مغزًى عميق؛ لأنه ينبغي للأجيال التي ترغب في بناء مستقبلٍ راسخٍ أن تحافظ على اتصالها بجذورها.

إن ما يُكَوِّنُ شخصيَّتنا هو قِيَمُنا وجذورُنا الروحية والمعنويّة، وعندما استخدمناها مجتمِعةً واتَّكأنا عليها ارتفعنا كناطحات السحاب، وصرنا عنصرَ توازنٍ في ميزان الدول، وسَرَتْ كلمتنا على العالم، وصرْنا وسيلةً لأن تعيش البسيطة حقبةً من السلام بدءًا من الجزر الأيرلندية إلى فرنسا، ومن هناك إلى المحيط الهندي.. لدينا ماضٍ نفتخر به، وجذورٌ قويّة نقف عليها كنصبٍ تذكاري، ولا يمكننا أن نتجاهل هذا.

نعم، لا يمكننا بناء مستقبلٍ من خلال إنكار الماضي والإعراض عنه؛ لأن بذور بوتقة قيمنا ثاويةٌ في الماضي، ومَن بَذَرَ تلك البذور في قلوبنا هم الأنبياء العظام عليهم السلام، وسلطان الأنبياء ومفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ومِن بعدهم الخلفاءُ الراشدون، والصحابة الكرام والتابعون الفخام، والمجتهدون العظام، والمجددون الكرام… وإن جذورَنا لتمتدّ فتصل إلى هؤلاء العظماء، وتجاهلُنا لهم يُعرّضنا لنوعٍ من افتقاد الأصالة، وعندما ننقطع عنهم، نستحيل أشجارًا بلا جذورٍ، أو أوراقًا تساقطت عن أغصانها، وحملَتها الرياح فلا تدري أين ومتى وكيف ستسقط.. إذا أردنا الثبات والصمود في مكاننا حتى في مواجهة أعتى العواصف، ونشر نسمات البعث فيما حولنا؛ فيجب أن نتمسّك بهذه الجذور الراسخة ونعضّ عليها بالنواجذ.

لا يمكن للمجتمعات التي بعُدت عن جذورها وفقدت ماضيها أن تستمرّ في طريقها بشكلٍ مستقرٍّ وحازم؛ ولأنهم لا يستطيعون السير على أرضية ثابتة، فإنهم يترنّحون هنا وهناك، ويأفلون واحدًا تلو الآخر.. هذه المجتمعات غير المستقرّة تشبه تمامًا الأفراد الذين لا يستطيعون تحديد مكانهم واتجاههم؛ فينتقلون من حالةٍ مزاجيّةٍ إلى أخرى حسب ظروف اليوم وملابساته، وما يقولون إنه صحيحٌ اليوم يقولون عنه غدًا إنه خطأ؛ فيدافعون اليوم عن فلسفةٍ أو أيديولوجيةٍ معيّنةٍ، وغدًا عن فلسفةٍ أو أيديولوجيةٍ أخرى؛ إذ يفتقرون إلى الأسس الثابتة والمبادئ الأساسية التي يمكنهم أن يحيكوا الوقت عليها كالنسيج.. إذا كان مقدرًا لنسيج روح الأمة أن يُحبك، فلا يمكن لهذا أن يتحقّق إلا بناءً على مجموعةٍ من المبادئ الثابتة، وإذا كنا نريد أن نقيم صرح روحنا مرة أخرى، فإن ذلك يعتمد على الالتفاف حول قيمنا الذاتية التي تشكّل شخصيّتنا.

والمصادر الرئيسية لتراثنا الثقافي هي؛ أولًا: الأدلة الشرعية الأصلية -الكتاب والسنة والإجماع والقياس- ثم الأدلة الشرعية الفرعية مثل: الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع التي هي تعتمد على مصادر الاجتهاد المخلِص والصادق للسلف الصالح، والمبادئ العلمية مثل الكلام والتصوف.

بالطبع، لدينا ثروات أخرى تشكّل ماضينا وثقافتنا وقيمنا: وهي المكتسبات المتحقّقة من نتاج العقل، والمُكتشفة بفضل سعة الصدر، والمبتكرة من خلال التجربة، والمحصّلة بإمكانات العلم؛ وتقاليدنا وعاداتنا وأعرافنا الموروثة عن أسلافنا وأجدادنا، وقد فُسّرت هذه المكتسبات وفقًا للزمن من ناحية، كما أُخضعت لمصفاة “أمهات” و”محكمات” الكتب التي يمكن اعتبارها المبادئ الأساسية من ناحية أخرى، ونُقّح منها ما خالف القرآن والسنة، وما لم يتفق مع روح العصر.

وعندما نتحدّث عن جذورنا الروحية والمعنويّة، وعن الوعي بالتاريخ، ونوصي بالحفاظ على الارتباط بالماضي؛ فإننا نقصد المحافظة على كلّ ذلك، وعلى القيم الأساسية للثقافة والحضارة التي تشكّلت بناءً عليه، ونستخدمه أساسًا وقاعدةً في بناء حاضرنا ومستقبلنا، وبالتالي فإن الأفراد والمجتمعات التي تتبنّى الوعي بالتاريخ بهذا المعنى، وتفهم في الوقت نفسه العصر الذي تعيش فيه تَعِدُ بالمستقبل.. إنهم مثل الأشجار العظيمة الضاربة جذورها في أعماق الأرض، الناشرة أغصانها في عنان السماء؛ فهي لا تتأثر بالعواصف أو التسونامي لأن جذورها قوية، بل إن أعنف الأعاصير لا يمكنها أن تقتلعها من جذورها. ولا يمكن للقرون المتعاقبة أن تضرّ بشجرةٍ راسخةٍ على هذا النحو، ولا يمكن لتغيُّر الزمان وتحوّل القرون أن يجعلها تجفّ.. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/24-25).

أما بالنسبة للشعوب والمجتمعات التي انقطعت عن ماضيها فهي كالأشجار التي لا جذور لها؛ إذ لا يمكنها الصمود في مكانها؛ فيُظلِمون مستقبلهم أيضًا مثلما يضيّعون حاضرهم، يعيشون كلَّ شيءٍ وفقًا لليوم فحسب، وبالتالي يمكن اعتبارهم أشخاصًا بلا مستقبلٍ بمعنًى ما؛ لأنه لا مستقبل للحركات التي لا تُبنى على ماضٍ سليم.

عداوات الماضي

من الأهميّة بمكانٍ -أثناء إكساب الأجيال الشابة الوعيَ بالتاريخ- عدم فتح جراحات الماضي وصراعاته، وسواء اعتبرنا أنفسنا على صوابٍ أو على خطإٍ، فينبغي ألَّا ننقل سلبيات الماضي إلى الحاضر، كيلا نفتح الطريق أمام عداوات جديدة.. لقد اندلعت حروبٌ عظمى في الماضي لأسبابٍ ودوافع مختلفةٍ، ووقعت أحداثٌ اجتماعيّة كبيرةٌ أدّت إلى مآسٍ عظيمة، وأثيرت الحشود نفسيًّا في بعض الأماكن، ونُشرت الضغائن والكراهيات في بعض المناطق، وجُعلت الاختلافات سببًا للقتال هنا وهناك، ومن ثم ظهرت صراعات عديدة، ممّا أدى إلى انتشار المظالم وأعمال القمع والإدانات.

واجبنا اليوم ليس تكوين عداوات جديدة عبر نَكْءِ تلك الجراح التي كانت في الماضي، بل علينا ألا نحوّل الأحداث السلبية التي وقعت في الماضي إلى أسبابٍ لصراعاتٍ جديدة.. قد يهدّد البعض حياتنا وعفّتنا وممتلكاتنا، ويغزو وطننا، أو يطعننا من الخلف؛ ولكن لا فائدة من ربط أخطاء أناسِ اليوم ببعض الأخطاء التي ارتكبها أسلافهم.. على العكس من ذلك، فإن مثل هذه الاتهامات وعزو الجرائم يثير مشاعر الكراهية والاستياء لدى الناس، ويدفعهم إلى العداء أكثر فأكثر.. علينا أن ندفن العداوات التاريخية مع أصحابها وزمانها الغابرين، ونضع عليها صخورًا ضخمةً فلا تخرجنَّ، ونحول دون استعادة العداوات والأحقاد والخصومات من جديد.

الحقيقةُ أنه ليس من السهل نسيان بعض الأحداث التي وقعت في التاريخ ولا التغاضي عنها، من الطبيعي أن نتألّم وتنفطر قلوبنا عندما نفكّر في بعض الأحداث المؤسفة، ولا نتمالك أنفسنا من التحقيق في بعض الشرور والخيانات؛ فنشعر بغضبٍ تجاه مرتكبي هذه الجرائم، ونقول: لماذا فعلوا ذلك؟! ولماذا فعلوا هذا؟! ولكن بدلًا من الانشغال بذلك، وإضرامِ نيران الأحقاد التاريخية، وإثارةِ العالم، واستفزازِه، وخلقِ جبهات عدائية جديدة؛ يجب علينا أن نتعلّم من التجارب السابقة، ونفهمَ الدرس، ونقوم بدورنا في عالم اليوم، فلا نسمح بتكرار المأساة مرّةً أخرى.

نعم، لا ينبغي الخلط بين امتلاك وعي تاريخي وبين تحويل الأحداث الماضية إلى أسباب لصراعات جديدة، فعلى الرغم من أهمية امتلاك الوعيِ بالتاريخ كي نستطيع استجماع أنفسِنا والوقوف على جذورنا الروحيّة والمعنوية؛ إلا أن مراعاة كَون الأحداث والعِبَرِ -التي سنأخذها من الماضي إلى الحاضر- مفيدةً لنا وللآخرين؛ تمثّل أحد أركان هذا الطريق.

من ناحية أخرى، لا يمكننا أن نعرّض سلامة الطريق للخطر بمواقفنا وكلماتنا وأفكارنا، فلن يكون من الحكمة أبدًا تحويل الأشخاص الذين نقابلهم على الطرق التي نسير فيها إلى وحوش، فنجعلهم يهاجموننا؛ لأنه لم يثبُت حتى الآن أن أفادت الأحقاد والأضغان والغضب والغيظ البشريةَ بأيّ شيءٍ.

نحن نريد السلام في عالم المستقبل لا الحرب، ونتحرّك في هذا الاتجاه، لذا علينا أن نتعامل ونتعايش بشكلٍ جيّد مع الجميع، وبدلًا من خلق أعداء جدد، يجب أن نسعى بطريقة ما إلى تكوين صداقات حتى مع أولئك الذين هم على خلافٍ معنا، وأن نفتح صدرنا للجميع، وأن يكون لدينا ضميرٌ رحبٌ يكفل لكلِّ مَن دخل إليه أن يجد له مكانًا مناسبًا فيه.. علينا أن نفعل كلّ ما يلزم لتحفيز هذا الشعور لدى الناس؛ فلا يمكن إقامة عالم يسوده السلام في وقتٍ تمارِسُ فيه البشرية فظائعَ مختلفةً بواسطة أسلحةٍ مرعِبةٍ؛ فإن تعذّر ترسيخُ قيمٍ مثل الحبّ والتسامح والأخوّة والسلام، فيمكن لهذه الكرة الأرضية الجميلة التي تحيا عليها البشرية أن تتدمّر من تلقاء نفسها، وتُعجّل قيامتها بيديها.

إننا لا ندري هل سيمكننا الله سبحانه وتعالى من تحقيق كل هذا أم لا، والواقع أن البحث في هذا الأمر ليس من شأننا، إننا مكلّفون ومأمورون بأن نوفّي موقعنا حقّه، وأن نكون أمناء حقًّا على الأمانة التي تحمّلْناها ما حيينا، فنوصل هذه الأمانة إلى حيث نستطيع، ثم نسلّمها إلى الأجيال القادمة من وراءنا، وبما أن كلَّ شخصٍ يقدّم أشياء طيبة في حدود رحابة أفق نفسه؛ فإننا نفعل الشيء نفسه؛ فنحاول أن نزيل العقبات التي تعترض طريق البشرية كي تعيش في أمن وسلام، ونقلّلَ المشاكل والمصائب، ونتوكّل على الله ربّنا بعد أن نفعل كلّ ما في وسعنا، ونلجأ إلى عنايته، ونظلّ نرقب الإجراءات السبحانية للمولى المتعالي وحالُنا يقول: “لنرَ مولاي ما يفعل … ما يفعله هو الأجمل!”.

الهجرة القسريّة والجهاد

Herkul | | العربية

لقد أكد القرآن الكريم في كثير من آياته على مسألة الهجرة، فأَمَرَ بالهجرة، ومَدَح مَن يهاجر مِن المؤمنين؛ وذلك لما لها من دورٍ كبيرٍ في انتشار دعوة الإسلام وازدهارها في كلِّ أرجاء العالم؛ ففي ظلّها يتواصل المهاجرون في ديار الهجرة مع أناس مختلفين، ويلعبون دورًا فعّالًا في الخدمات المهمة.

ولقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم مدركين لأمر القرآن الكريم بالهجرة؛ فامتطوا صهوة جيادهم وبِغالهم وإبلهم، وهاجروا إلى ديارٍ بعيدةٍ، وكأنهم كانوا يتنافسون من أجل رفع لواء دينهم المبارك وثقافتهم النفيسة وفكرهم الديني حيثما حلّوا وارتحلوا.

 ثم جاء من بعدهم العديد من الصالحين والمرشدين، فحملوا خيامهم على رواحلهم، وطافوا بالبلاد، وأدّوا وظيفة الإرشاد.. لم تمنعهم من تبليغ قيمهم الذاتية مخاطرُ الطريق أو مشقّةُ السفر الطويل، وبفضل هذا الجهد والسعي استطاعوا أن ينشروا الإسلام في بقاع جغرافية واسعة خلال حقبةٍ زمنية قصيرة.

لم يتوقّف الصحابة الكرام ولا الذين اتبعوهم من الصالحين عن الهجرة، بل كانوا في حركةٍ دائبةٍ؛ لأنّهم كانوا على يقين بأن صمودَهم وثباتَهم مرهونان بسعيهم وتحرّكهم، شأنهم في هذا الأمر شأن الأشياء التي لا تسقط بفعل قوّة الطرد المركزي، فإذا ما توقّفوا سقطوا، وإذا سقطوا داسَتْهم الأقدام وسُحقوا، تمامًا كالحالة المزرية للعالم الإسلامي اليوم، فلا بدّ إذًا من التحرّك للحيلولة دون السقوط.

ولقد هاجر عشّاقُ الخدمةِ اليوم إلى مختلف أرجاء العالم محمّلين بنفس المشاعر والأفكار، فأفادوا الناس واستفادوا هم أيضًا من خير ما وجدوه لديهم، كما أنجزوا الكثير من الخدمات التي لاقت قبولًا كبيرًا لدى الناس، وتعرفوا على الكثير من أصحاب الأفكار المختلفة، وتلاحموا معهم، وأسّسوا جسور الصداقة فيما بينهم.. وهذا كله يُسمّى بالهجرة الاختيارية.

الحُسّاد الظالمون

لكن مع الأسف ظهر الحُسّاد الذين لم يستسيغوا انفتاحَ رجال الخدمة على أرجاء العالم، وتقديرَ الناس لفعالياتهم ومشاريعهم.. وإنني عندما أصفهم بالحسّاد فإنني أعي وأقصد ما أقول، وأشير إلى ما يحمله هؤلاء الظالمون من حسدٍ كبيرٍ وحقدٍ دفينٍ، فلقد بذلوا كلّ ما في وسعهم لعرقلة هذا الانفتاح، وما زالوا يبذلون.. لقد أزعجهم أن يُبلّغ متطوّعو الخدمةِ إلى الناس قيمَهم الثقافية، ويعلّموهم لغتهم الأصلية، وينجحوا في الاندماج والتلاحم مع المجتمعات التي يعيشون فيها؛ فضخُّوا الأموالَ الطائلة، وأطلقوا الافتراءات الكاذبة، ولجؤوا إلى كلّ الوسائل التي بأيديهم لمنع الخدمات المبذولة، فشوّهوا صورة متطوّعي الخدمة باتهاماتهم الكاذبة وافتراءاتهم التي لا دليل عليها، ومارسوا ضدهم ما لا يخطر على البال من الظلم والاضطهاد، فمن ذا الذي يزعجه إبرازُ القيم الدينية ونشرُ أفكار الأمّة غير الشيطان وأتباعه المعاصرين!

وعند النظر إلى ما فعله هؤلاء الحسّاد يبدو لنا الأمر وكأنهم يقولون بلسان حالهم: “لماذا رعيتم الطلاب بمراكزكم التعليمية؟ لماذا كنتم سببًا في الكثير من الخدمات وإطلاق العديد من الحملات على مستوى العالم مثل ذبح الأضاحي وتوزيعها؟ لِمَاذا شَنَنْتم حربًا على الجهل بمؤسّساتكم التعليمية التي أقمتموها في كل أنحاء العالم؟ لماذا أقمتم أولمبياد اللغة ولفتّم أنظار الناس؟ لماذا؟ لماذا؟.. باختصار: لماذا تقومون بما لم نقم به وتثيرون شعور الحسد فينا وتدفعوننا إلى الخيانة؟ كنّا نعيش في هدوءٍ وراحةٍ حتى قمتم بخدماتكم تلك فسبقت خدماتنا، وسُحِقنا؛ من أجل ذلك اعتبرنا الأمر مسألةَ شرفٍ وكرامةٍ، فلن نرحمكم على سوء صنيعكم هذا، وسنقضّ مضجعَكم بحملاتنا واضطهاداتنا، وسنطاردكم مطاردةَ الساحرات.

أجل، هكذا كانت مشاعرهم وأفكارهم، وفي النهاية أدانوا تقديم المنح الدراسية، وجمع الأضاحي، ومساعدة المحتاجين، وبدؤوا في حملاتهم المنظّمة التي تشبه مطاردة الساحرات، فأغلقوا المئات بل والآلاف من مؤسّسات الخدمة، ووضعوا مَن لهم صلة بالخدمة من قريب أو بعيدٍ تحت الرقابة، وسجّلوا لهم ملفًّا أمنيًّا، واجتهدوا في سحقهم والقضاء عليهم، وأوصدوا أبواب مؤسّسات الخدمة التي تقدّم خدماتها لجميع طوائف الشعب، وملؤوا السجون بآلاف الأبرياء، وحرموهم حتى من حقوق المواطنة الأساسيّة، وتلاعبوا بشرفهم وكرامتهم؛ فمهّد الله لهؤلاء المظلومين سبيل الهجرة القسريّة، ونثَرَهُم كالبذور في كلّ أنحاء العالم.

الهجرة القسرية

لا ريب أن ما يفعله الذين يحاولون التصدّي لعمل الخير ظلمٌ كبيرٌ وفتنةٌ عظيمة، لكنّ المسألة لها جانبٌ يتعلّق بالقدر، فيمكن أن نقول هنا على سبيل محاسبة النفس: “من المحتمل أننا لم نحسن استغلال الهجرة الاختيارية، أو أننا لم نستوفِ الخدمة حقّها؛ فأرغمَنا اللهُ على الهجرة بيد الظالمين، وكأنه يقول لنا: سأضطرّكم إلى الهجرة كرهًا بأن أسلّط عليكم بعضًا من الظالمين في بلدكم”.. وهذا هو معنى الهجرة القسريّة.

لقد فتح الله تعالى لكم بالهجرة القسرية طريقًا، ونثركم في العالم بذورًا، وإنّي مفعَمٌ بالأمل بأن تزدهر هذه البذور في المستقبل القريب إن شاء الله، وأن يندمج رجالُ الخدمة من المعلّمين والتجّار والحرفيّين وأصحاب المهن الأخرى مع الناس في ديار الهجرة خلال زمنٍ يسيرٍ بفضلٍ من الله وعنايته، وأن يقوم البعض منهم باستثماراتٍ يتولّون من خلالها تمويل الخدمات المبذولة، وأن يفتح الآخرون مجال خدمات جديدة، وأن يحملوا خدماتهم إلى كلّ العالم.. لا تشكّوا في ذلك أبدًا! فوعدُ الله قاطعٌ في هذا الشأن، فقد أكّد الحقّ تعالى على الأجر الدنيوي والأخروي الذي يترتّب على الهجرة في الكثير من الآيات، وحثَّ المؤمنين عليها.

ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/100)، يعني ما أكثر الإمكانات التي ستتاح لكم! والفرص التي تُهيّأ لكم إذا هاجرتم! أي إن الله تعالى لن يتخلّى عن الذين هاجروا من أجل نثر البذور السماوية ورعايتها حتى تنمو ويشتدّ عودها وتؤتي أُكُلها، وسيرزقهم من حيث لا يعلمون، ويسعدهم بفضله وكرمه.

فإذا كان ربنا سبحانه وتعالى قد فرَّقَنا قسرًا في جميع أنحاء العالم فله حكمةٌ في ذلك، فعلينا أن نجتهد لفهم هذه الحكمة، ونستوفي الهجرة حقّها، ونصل إلى الآخرين بمؤسّساتنا التي نفتحها وفعالياتنا التي ننظّمها، ونبثّ إلهامات أرواحنا في صدورهم، ونقيم صرح الروح والمعنى أينما حللنا أو ارتحلنا، ونرفع الراية المحمدية هناك، ونتبوّأ المكانة اللائقة بنا كمجتمعٍ عالميّ بين المجتمعات، ولا نقصد بذلك الانغماس في الدنيا، بل التعرّف على العالم، والقدرة على التحدّث بين الأمم عن مصير الإنسانية في العالم.

وفي تتمة الآية يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/100)؛ فيعِد الذين خرجوا من ديارهم بنِيّة الهجرة ووافتهم المنيّة في الطريق قبل أن يصلوا إلى وجهتهم؛ بالأجر الجزيل على نياتهم الحسنة وأهدافهم النبيلة.

وفي آيةٍ أخرى يبين ربنا سبحانه وتعالى هذا الأجر الجزيل الذي ينتظر المهاجرين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/41)، فالآية تصف حال المؤمنين الذين لم يتمكّنوا من العيش في وطنهم بسبب الظلم والاضطهاد والقمع الذي تعرّضوا له، ولم يجدوا حلًّا سوى الهجرة؛ وتبشِّرهم بالنعيم الدنيوي والأخروي الذي ينتظرهم؛ وذلك أنّ الله تعالى سيمنّ عليهم بما لا يتوقّعون من نِعَمٍ وأفضال في البلاد التي هاجروا إليها، أما بالنسبة للجزاء الأخروي فسيكون أسمى وأعلى بكثيرٍ من جزائهم الدنيوي، وعلى هيئةٍ تفوق التصور والخيال.

الهجرة والجهاد

في آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/110)، ففي هذه الآية والآية السابقة يؤكّد ربنا تبارك وتعالى على هجرة أولئك الأبطال الذين تركوا أوطانهم بعد ما تعرّضوا له من فتنة وبلاء وظلم، وأيًّا كان الاسم الذي يُطلقه الآخرون على هذه الهجرة، وسواء قالوا إنهم هربوا، أو نزحوا، أو لجؤوا، أو أيّ شيء آخر؛ فالقرآن الكريم يصف ما فعلوه بالهجرة، ويؤكّد على الأجر الذي ينتظر هؤلاء المهاجرين.

ومن النقاط الأخرى التي تسترعي الانتباه في هذه الآية ورود ذكر الجهاد بعد الهجرة مباشرةً، وتوسّط حرف العطف “ثم” بين الجهاد والهجرة، وهذا يعني أنهم بعدما هاجروا كان أول ما قاموا به أن أسّسوا لهم أرضيةً صلبةً، وفعلوا كلّ ما يلزم لتهيئة هذه الأرضية، ثم انطلقوا في الجهاد والكفاح من أجل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، أي إنهم وضعوا إستراتيجيات لإزالة أيّ عائقٍ بين الناس وربّ الناس سبحانه وتعالى، وربطِ القلوبِ بربها جل وعلا، ثم جاء التأكيد فيما بعد على الصبر؛ لأن الأمر صعبٌ عسيرٌ يتطلّب الصبر والمثابرة، ففي هذا الطريق يواجه الإنسانُ العديدَ من الصعوبات والمحن والمشقات، وهذه كلها لا يمكن التغلّب عليها إلا بالصبر.

وفي الحديث يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يُضفي قيمةً للهجرة هو النية، فيقول: “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ[1].. فالذي يمنح الهجرةَ قيمةً تفوق كلّ القيم هو نيّة الإنسان وهدفُه وعمقُ تفكيره.. وكأن الآية تقول: إنما تكتمل الهجرة بالجهاد، هكذا كان فهم الصحابة رضوان الله عليهم للهجرة!

أجل، ما من إنسانٍ يتعرّض للضغط والتضييق عليه في وطنه، وتُصادر ممتلكاته؛ فيضطر للعيش في بلاد أخرى بعيدًا عن بلده متحمّلًا عذابات الشوق والحنين إلى وطنه؛ إلا وسينال ثواب هذه المشاقّ والمحن التي عاناها.. فإن أحسن بعد ذلك تمثيلَ قيمِهِ السامية في بلاد الهجرة، وعرّف الآخرين بإلهامات روحه، وحاول الوصول بالإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم إلى الإنسانية الحقّة؛ فسينال أجرًا آخر على فعله هذا أيضًا..

بناءً على ذلك فلا ينبغي لمن سلك هذا الطريق الذي يترتّب عليه هذا الثواب الجزيل أن يشكو من الضغط الذي يتعرّض له، أو يتململَ من الظلم الذي يلحقه، أو يتضجّر من الحسد الذي يُضمَر له.. علينا أن نلهجَ دائمًا بهذا الدعاء: “اللهم لا تُبعدنا عن صراطك المستقيم، وثبّت أقدامنا، ووفّقنا إلى خدمة ديننا وغايتنا المثلى، فإن كتبتَ علينا الهجرة طوعًا أو قسرًا فهيّئ لنا القيام بالخدمة في دار الهجرة على أفضل وجه”.

استمرار الهجرة

قد يؤدّي بقاءُ الإنسان في مكانٍ ما مدّة طويلة، واختلاطُه بالآخرين إلى ظهور بعض المشاكل بعد فترةٍ معيّنةٍ، وحتى ولو داوم هذا الإنسان على تغذيته المعنوية وشحنه الروحي فلن يحولَ ذلك من ظهور بعض المشاكل التي تضرّ بمفهوم الأخوّة، وحينئذٍ تنشأ بعض الخلافات بيننا، وننشغل بأنفسنا وغيرنا عن خدماتنا، وتثور الفتن فيما بيننا، وإن لم يحدث ذلك وقعْنا ضحيّةً لإلفنا وتعوُّدِنا، وفقَدْنا نشاطنا وحيويّتنا، وأضحت خدماتنا لا ترضينا.. وقد يشعر مخاطبونا بالضجر والملل منا ومن كلامنا.. لهذا السبب يجب ألا نكفّ عن الهجرة والحركة والخدمة، وعلى رجال الخدمة أن ينفتحوا على كل العالم، ويتعرّفوا على أناسٍ جددٍ، ويكتشفوا مجالاتٍ جديدةً للخدمة.

ولو حدث تباطؤٌ في الهجرة أو لم تحصل تطورات على المستوى المطلوب أو حدث ركودٌ في الخدمات المبذولة؛ فمن الممكن أن ينشأ بين الناس بعد فترةٍ ما شيءٌ من النزاع والخلاف، وتبدأ الغيبة تسري حتى بين المتميّزين بأخلاقهم وصفاتهم العالية.. وقد شاهدنا أمثلةً كثيرةً على ذلك على مدار التاريخ، فإن كنتم تريدون التخلّص من هذه السلبيّات فالسبيل الوحيد إلى ذلك هو عدم التوقّف عن الحركة والهجرة في سبيل الله، والمسارعة إلى تحصيل مرضاة الله تعالى في ديار الهجرة.

فلا ينبغي أن ننظر إلى أنفسنا -نحن رجال الخدمة- على أننا صخرة لا يمكن إزاحتها من أيّ مكان، ولا يجب أن نعوِّد أنفسنا على البقاء في مكانٍ واحدٍ بشكلٍ دائمٍ، لا بدّ أن نكون رحَّالة متنقّلين، لا نكفّ عن السير والحركة، ولدينا عزمٌ ومثابرة على استيفاء حقّ الطريق الذي نسير فيه.

[1] صحيح البخاري، بدء الوحي، 1؛ صحيح مسلم، الإمارة، 155.

سيما السجود

Herkul | | العربية

سؤال: يقول الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ (سورة الفَتْحِ: 48/29)، فما الرسائل التي تبعث بها هذه الآية للمؤمنين؟

الجواب: نصادف عبارات مشابهة لهذه الآية الكريمة في السنة النبوية المطهرة، إذ يبيّن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم كيف ستتمثل أعمالنا الدنيوية في الآخرة، ففي حديث شريف يخبرنا صلى الله عليه وسلم كيف سيعرف أمته يوم المحشر، يقول صلى الله عليه وسلم: “لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا، مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ”[1] فالوضوء في الدنيا سيتمثّل بشكلٍ مختلفٍ تمامًا في الآخرة، وبسبب تعدد مرات الوضوء في اليوم ستتجمل أعضاء الأمة المحمدية، وتصبح في صورةٍ مبهِرةٍ؛ بمعنى أن الوضوء سيكون علامةً فارقةً للأمة المحمدية تميزها عن الأمم الأخرى، ويكون وسيلة لاكتسابها النورانية، لكننا لن ندركَ حقيقة الأمر وطبيعته إلا عندما نشاهده في الآخرة إن شاء الله تعالى.

وما أجمل كلام بديع الزمان سعيد النورسي في هذا السياق، يقول: “إن النتيجة الأُخروية للثمار الطيبة المأكولة في هذه الدنيا في إطار دائرة الحلال والمكلّلة بمشاعر الشكر، هي تلك الأطعمة والثمار الطيبة اللائقة بالجنة الخالدة… حتى إن الفاكهة التي تأكلها في الدنيا ثم تقول عقب تناولها: “الحمد لله”، تتجسّم في الجنة وتقدّم إليك ثمرة طيبة من طيبات الجنة؛ أي إنك تأكل هنا في الدنيا ثمرةً ما، وعندما تحمد الله عليها تنبت لك في الجنّة ثمرةٌ لا نعلم كنهَها، المهم هو أن يرى العبد النعم الإلهية واللطائف الرحمانية في هذه النعمة ويقابلها بمشاعر الشكر والعرفان”[2].

أجل، إن كلَّ عملٍ نعمله في الدنيا أو فعلٍ نقوم به سيتمثل أمامنا في الآخرة على هيئةٍ مخصوصةٍ به، وما نتكبّده من معاناة ومشقّة في الدنيا سيكون سببًا في أن نعيش حياةً راضيةً مفعَمةً بالفرح والراحة، فبعض الأعمال الصالحة التي نقوم بها ستتمثّل لنا قصرًا من قصور الجنة، والبعض الآخر سيتمثّل لنا نهرًا من أنهار الجنة، فضلًا عن ذلك فإن البيوت والأنهار والثمار ستتمثل في الجنة في صورةٍ مختلفةٍ وجميلةٍ لدرجةٍ لا يمكن مقارنتها بأمثالها في الدنيا، ومن ثَمّ فمن المتعذّر وصف اللذة التي نشعر بها عند الأكل من ثمار الجنة، أو الشرب من أنهارها.

ويجب أن ننوّه بأن ماهيتنا في الجنة لن تكون على نفس شاكلتها في الدنيا، سيُنْشِئُها الله تعالى في الآخرة نشأة آخرة، والنِّعم أيضًا التي سنجدها هناك ستكون في ماهيّةٍ مختلِفَةٍ تمامًا عمّا هي عليه في الدنيا؛ بمعنى أن الأعمال في الدنيا ستتمثّل على هيئةٍ مخصوصةٍ في الآخرة، ولكن لا ندرك تفاصيل هذا الأمر المتعلِّق بعالم الآخرة؛ ومن ثم ليس من الصواب إصدار حكمٍ قطعيٍّ في هذه المسألة، فالحكمة تقتضي أن نحيل هذا الأمر كله إلى الله تعالى.

انطلاقًا من ذلك يمكن القول بعد التأمّل في الآية الكريمة الواردة في السؤال: إن الوجوه والجباه الساجدة في حضرة مولاها في الدنيا ستكتسب ماهيةً مختلِفةً في الآخرة، ويغشاها التألُّق والبهاء، ومن يرى أصحاب هذه الوجوه السماوية المتألّقة يغبطهم على حالهم، وقد بشرنا القرآن الكريم بهذا النعيم الأخروي فقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/106)، وقال أيضًا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ (سورة القِيامَةِ: 75/22).

وقد فسّر بعضُ المفسرين قوله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ (سورة الفَتْحِ: 48/29) بحسب الدنيا، وذكروا أن الوجوه الساجدة ستكون معروفة في الدنيا بفضل التألّق واللمعان اللذين يعلوان وجوه المؤمنين المصلين، فسجدات المؤمنين تنعكس على وجوههم على نحوٍ غير معروف، كما أن المصلين الذين يقفون في حضرة ربهم يُحدثون تأثيرًا مختلفًا في الآخرين؛ فهم القوم إذا نظرتَ إليهم ذكرتَ الله.

والواقع أن وجه الإنسان يفيدنا في التعرّف على الإنسان بشخصيّته الحقيقية، من هذا الجانب يمكن تناول انعكاس السيرة على الصورة، ونتبين أخلاق الإنسان واستقامته ونزاهته من خلال وجهه، ومن هنا ظهر ما يُسمَّى بعلم القيافة.. ولقد حاول المشتغلون بهذا العلم استنباط بعض المعاني الخاصّة بشخصية الإنسان اعتمادًا على بنيته الفسيولوجية والتشريحية، وجاؤوا بأفكار مذهلة حول الوجه خاصة، وبما أن هذه الأفكار ذاتية فلا ينبغي التعامل معها على أنها حقيقةٌ مطلقة يمكن تطبيقها على كل الأفراد، كما لا يمكن تجاهل هذه الأفكار التي طرحها أرباب القلب تمامًا؛ فمثلًا آراؤهم المتعلقة بالوجه جديرةٌ بالبحث والاهتمام، فالوجه يشبه بمعنًى ما مرآةَ الإنسانِ أو واجهة عرض له، وفي الوقت ذاته هو أبرزُ أعضاء الإنسان وأقيمُها، ففيه تتجلّى رحمانيةُ الله ومن ورائها رحيميّتُه، وهو أفضل الأعضاء التي تبرز خلْقَ الإنسانِ في أحسن تقويم، فكأنه يعكس ماهية الإنسان، ولكننا لم نكتشف بعدُ معناه بشكلٍ كاملٍ.

وقد فسّر البعض الآية بظاهر اللفظ، واعتقدوا أن الممدوحين هنا هم من لديهم ندوبٌ في جباههم بسبب كثرة سجودهم (زبيبة السجود)، وحسبوا أنه لا بد من ظهورها في الجبهة حتى يتسنى الظفر ببشرى الآية.. والحقيقةُ أن أثر السجود قد يظهر تلقائيًّا على جبهة المصلين الساجدين، لكن ليس من الصحيح اللجوء إلى التكلّف والتصنّع من أجل إظهار هذا الأثر، كما يجب ألا يُرهق الإنسانُ نفسَه ويسعى في سبيل إبراز هذه العلامة التي قد تسوقُه أحيانًا إلى الغرور والكبر، فالنفس ماكرةٌ خادعةٌ فاتنةٌ، ربما تجعل أثر السجود مدعاة للظهور والخيلاء، قد يحاول الإنسان أن يُشعر الآخرين بأنه كثير الصلاة والسجود، فمن الأفضل أن نتّخذ من البداية إجراءات احترازية أمام وضعٍ قد يكون ضدّنا لاحقًا، فلا نمكّن النفس من ذلك، ولا نفتح لها منفذًا تدخل منه، وإلا استغلّت ضعفَنا على حين غرّة، وضرَبَتْنا من حيث لا نعلم، إن الإنسان بطبيعته مُعرّضٌ للافتتان في أيّ لحظةٍ بسبب ما لديه من ضعفٍ وأمراضٍ داخليّة مثل: الغرور، والعجب، والفخر، وإظهار النفس، وحبّ التميّز، فعليه أن يتوخّى الحيطة والحذر في مثل هذه الأمور، فمن ناحية يُكثر من صلاته وسجوده، ومن ناحيةٍ أخرى يحول دون ظهور هذا الأثر على الجبهة من خلال السجود على مواضعَ ليّنةٍ بعض الشيء إذا لزم الأمر.

المهارة الحقيقية هي في كثرة العبادة وليس في إظهارها، وهذا الوضع يسري على كل العبادات، فعلى المؤمن أن يكثر من صومه، ولكن لا يسعى إلى إظهاره أمام الآخرين، عليه أن يكثر من الصدقة، ولكن دونما أن يُشعر بها أحدًا؛ إذ لا بد أن يظلّ هذا سرًّا بين العبد وربّه، عليه أن يُخفيه حتى لا تعلمَ شمالُه ما تنفق يمينُه.. أما محاولة الناس إظهارَ عباداتِهم وتقديمها على أنها شيءٌ عظيم فهو من باب إساءة الأدب مع الله عز وجل؛ لأننا مهما توجّهنا إلى الله بالعبادة فلا نستطيع أن نستوفي عبوديَّتنا حقّها، فلماذا إذًا نضخّم ما نفعله ونحاول أن نعظّمه في عيون الآخرين؟! ألا يكفي  أن يرى الله؟! أوَبعدَ رؤية الله نهتمّ بأن يرانا الآخرون؟!

فمن المفيد النظر من هذا الجانب إلى مسألة “أثر السجود” المذكورة في الآية، فليس المقصود بالآية زبيبةَ السجود ذات اللون الغامق التي تظهر على الجبهة بسبب كثرة السجود، فما أهمية أن يظهر هذا الأثر في جبهة الإنسان ما دام الله يرى صلاتنا ويعلم منا سجداتنا؟! وما دام الله تعالى مطّلعًا على حالنا فلِمَ لا نكتفي بعلمه ورؤيته؟! إن هذا يعني أن الإنسان يحتاج إلى علم الآخرين ورؤيتهم ولا يقنع بعلم الله ورؤيته، علمًا بأن الله تعالى قد أكّد في العديد من الآيات على هذه المسألة فقال: ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/6)، وقال: ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/79)، وقال: ﴿وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/70)، ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/81).. أليس من التناقض الكبير أن يسعى الانسانُ إلى إظهار نفسه عن طريق الآثار والعلامات والمواقف والتصرفات والتنحنح… إلخ، وفي نفس الوقت يدّعي أن الله حسيبه؟!

إن المعنى الأساسي الذي يتحتّم علينا أن نفهمه من الآية الكريمة هو قدْر السجود عند الله عز وجل، ففي الحديث يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ”[3]؛ لأن العبد بفضل السجود يقاوم الكبر والغطرسة الكامنين في ماهيته، وبذلك يستوعب ويدرك أن العظيم الحقيقي هو الله تعالى، فيعلن ويعترف بصغر نفسه أمام خالقها، إنه يكتسب قيمة تتجاوز جميع القيم حينما يخرّ على الأرض ويضع جبهته على الموضع الذي تدوسه الأقدام معلنًا بذلك عن محوه وتواضعه، وأنه لا شيء أمام الأزلي السرمدي سبحانه وتعالى، فيربي نفسه ويزكيها، ويتذكّر عجزه وضعفَه أمام ربه سبحانه.

[1] صحيح مسلم، الطهارة، 36.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الثانية والثلاثون، ص 755.

[3] صحيح مسلم، الصلاة، 215.

الدين المعاملة

Herkul | | العربية

يقرِن القرآنُ الكريم في العديد من آياته بين الإيمان والعمل الصالح، وفي هذه الآيات يرد ذكر العمل بعد الإيمان مباشرة، وهذا يعني أن الإسلام النظري لا يكفي وحده، وإنما لا بدّ من التصاقِهِ بالإسلام العملي.. أي يتشبّث المؤمن بأركان الإيمان قولًا وعملًا، ويتبع سبيل المرشدين.. ومرشدُنا في هذه المسألة كما في كلّ المسائل هو مفخرةُ الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعده صحابتُه الأصفياء وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون.. وفي هذا الجانب يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ[1].

ولا جرم أن توجيهَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنظارَنا في مسألة العمل إلى سنة الخلفاء الراشدين من بعد سنتِه السنية، وأمرَه بالتمسّك والاعتصام بنهجهم له دلالةٌ ومغزًى كبير؛ وذلك لأن منهج الخلفاء الراشدين هو منهج الأنبياء حقًّا، فالفهمُ الصحيح للدين، ومعايشةُ الدين على نحوٍ مستقيم، وتحويلُ الإسلام النظري إلى إسلامٍ عمليّ: أي جَعلُ الدين روحًا للحياة؛ كل هذا منوطٌ بعدم الانحراف عن هذا المنهج.. فإذا أردنا تحويل الإسلام التقليدي إلى إسلامٍ تحقيقي فعلينا بهذا المسار.

ومن أبرز خصال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أن أفعالَهم أكثر من أقوالهم بعشرة أو بعشرين ضعفًا.. والحقّ أن مسلمي اليوم الذين يكتفون بالشكليّة والسطحية؛ في أمسّ الحاجة إلى هذا النموذج الإسلامي الذي وضعه هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، وكما ذكرنا آنفًا فإن هدفَنا الأساسي هو تحويلُ الإسلامِ النظري الذي ورثناه عن آبائنا وأمهاتنا وبيئاتنا إلى إسلامٍ عملي، والانسلاخ ُمن الإيمان التقليدي الذي ورثناه عن البيئة الثقافية التي نشأنا فيها، والانتقالُ إلى الإيمان التحقيقي.

العلاقة بين الإيمان والعمل

ثمّة صلةٌ قويّة بين الإيمان والعمل، فكما أن الإيمان الراسخ يتطلّب عملًا، فإن العمل يغذّي الإيمان ويقوّيه، فالمؤمن بالله وكتبه ورسله صدقًا وعدلًا يأتمر بالأوامر، وينتهي عن النواهي، وهذا من شأنه أن يقوّي إيمانه ويقربه إلى التحقيق، ويُبعده عن التقليد، وهو هدفٌ بالغ الأهمية بالنسبة للمؤمن.

 إننا لا ندري هل سينتفع المرء من الإيمان التقليدي في القبر، وحياة البرزخ، والمحشر، والصراط أم لا؟! من الممكن القول انطلاقًا من سعة رحمة الله إن المرء سيدخل الجنة أيضًا بإيمانه التقليدي، هذا إذا فكرنا في الأمر بالنسبة للآخرين، أما عندما نفكر في أنفسنا فلا يجب أن نقطع بذلك، بل علينا أن ندعم إيماننا بالعمل، وأن نجعله جزءًا من طبيعتنا، وأن نصل به إلى مرتبة التحقيق.

إن المؤمن باعتبار أصل الكلمة هو مَن يؤمن بالله ويعتمد عليه، كما أنه في الوقت ذاته الممثِّلُ للأمن والأمان، ولكن المهم ليس الأسماء، بل استيفاء حقّ هذه الأسماء.. فهل جعلنا الإيمانَ حقًّا جزءًا من طبيعتنا؟ وهل نحن حقًّا ممثِّلون للأمن والأمان والاستقامة والعدالة على وجه البسيطة؟ لا داعي للثرثرة والادعاءات الكبيرة، فأعمالُنا هي التي ستكشف عن ماهيتنا، وعن مدى إيماننا بربنا، وعن قدْرِ صِلتنا معه سبحانه وتعالى.. فإذا كانت جميعُ أفعالِنا وسلوكياتنا، بل وردودُ أفعالنا ودوافعُنا الداخلية تدور حول الإحسان والخير؛ فهذا يعني أننا مؤمنون حقًّا.

هل يقتصر العمل الصالح على العبادات؟

من المعلوم أن القرآن الكريم يركز على العبادات مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلهذه العبادات دَورٌ مهمّ في حياة المسلم، ولكن ليس من الصحيح اعتبار العمل الصالح مجرَّدَ عبادات فقط، فنطاقُ العمل الصالح أوسعُ بكثير، فهو يشتمل على كل السلوكيات الفردية والأسرية والتجارية والاجتماعية والسياسية، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يراعي في تصرفاته حدودَ الحلال والحرام، والموازين التي وضعها الدين، والمبادئ الأخلاقية، وأن يبتعد فراسخ عن السلوكيات التي حظرها الدين صراحةً، وألا يسمح لنفسه بالاقتراب من الشبهات.. فمثلًا لا يكتفي بألا يأخذ الرشوة، بل يتجنّب كلّ السلوكيات التي تشي بالرشوة، كما عليه أن ينجز أعماله مراعيًا العدلَ والإنصاف، وألا يهضم حقّ أحدٍ ولو بمقدار ذرّة.

والكتب الفقهية التي تحتوي على الأحكام الخاصة بأعمال المسلمين تقسِّم الأعمالَ في الأساس إلى قسمين: العبادات، والمعاملات.. فالمعاملاتُ هي كلُّ فعلٍ خارج عن العبادات، لا سيما العلاقات والمعاملات بين الناس.. ولقد جاء في الأثر: “الدِّينُ الْمُعَامَلَة”، فالمؤمن الحقيقي يتّضح بمعاملاته ومراعاته لمسألة الحلال والحرام، فإن لم تجد الكلمات التي تنساب من الأفواه ما يقابلها في الحياة العملية، وإن لم تتوطّد الأفكار بالأعمال وظلّت مجرّد نظريّة فلا قيمة لها..

قد يخرج البعض ويتكلّم كيف يمكن أن نكون مثل الصحابة، وقد يدعي أنه يسير على نهج الخلفاء الراشدين، ويَعِظُ الناسَ ويعِدهم بوعودٍ كبيرة، ولكن يا تُرى هل تتّفق أفعاله مع أقواله؟! وهل يتوخّى الدقّة العالية في معاملاته؟! وهل يتحرّى بقدر الكفاية مسألةَ الحرام والحلال؟! فإن كان الجواب بالإثبات فهو حريٌّ بأن يُصغى إليه، أما إذا كان الجواب بالنفي فهو إذًا كذّابٌ غشّاش ليس إلا.. ومع الأسف نقابل كثيرًا من هذه النماذج الأخيرة في أيامنا، ولو أنّك طوّفتَ بخيالك حول العالم، وتتبّعتَ هذا بفِراستك؛ فستجد نماذج كثيرة من هؤلاء حولك.

ولقد صوّر الشاعر “عاشق رُخْصَتي” هذا المنظر الذي نعيشه بقوله:

لقد أصبحنا في عصر ٍ
لا يُعرف فيه الشجاع ولا النبيل
الكلّ يبكي على ليلاه
ولا يُعرف الدواء ولا العليل

وأنا أقول بعد إجراء بعض التغييرات الطفيفة على هذين البيتين:

لقد أصبحنا في عصر
لا يُعرف فيه المؤمن من المنافق
الكلّ يبكي على ليلاه
ولا يُعرف الحبيب مِنَ الغريب

إننا نعيش في عهدٍ تبدو فيه أوضاع العالم معقدة للغاية.. فقد راجت الأكاذيب، وحيكت المؤامرات، وانتشرت الافتراءات، وللأسف يصدقها الكثير من المؤمنين السذّج، ولكن لا بد أن يأتي يوم تُكشف فيه الحقائق، ويقضي الله فيه بحكمه.

ما يقع على عاتقنا

ليفعل كلُّ شخصٍ ما بدا له، فما يقع على عاتق المؤمنين المخلِصين هو تحويلُ إيمانهم النظري إلى إيمان عملي، والحفاظُ على المنهج الذي رسمه الإسلام لهم في عباداتهم ومعاملاتهم، والكشفُ عما تتطلّبه هوياتهم في كلّ موضع.. عليهم أن يتجنّبوا كلَّ فعلٍ أو تصرُّف يمسّ عفّتَهم وشرفَهم، ومن جانب آخر عليهم أن يتحلّوا بالمروءة واللطف والاتزان والإنصاف والعدل لأقصى درجة في معاملاتهم مع الآخرين، ويجب ألا يقصروا هذه الخصال النبيلة على الناس فقط، بل لا بد أن يحتضنوا الكائنات كلّها بشفقتهم ورحمتهم، فإن نصيبَ الإنسان من الإيمان على قدر شفقته بالمخلوقات، لهذا السبب يعتبر المؤمنُ الحقيقيّ اقتلاعَ ورقةٍ من شجرةٍ قبل أوانها، وعدمَ الالتفاتِ إلى النمل أثناء السير؛ نوعًا من الجرم.. فإذا استطاع المؤمنون الحفاظ َعلى هذا المستوى فتحت لهم الإنسانيةُ صدرها، وتقبّلتهم، ومدَّتْ لهم يدَ العناية والرعاية، فدَعُوا المحرومين من الشفقة والرحمة يتخبّطون في غيظهم وحقدهم وكرههم.

إن المؤمنين الحقيقيّين الذين وصلوا إلى الإيمان التحقيقي وتوّجوا إيمانهم بالعمل الصالح؛ مهما كانت حساسيّتهم ودقّتهم في تنفيذ أوامر الدين والتعامل بشفقة مع المخلوقات، ومهما فعلوا من أعمال صالحة؛ فإنهم يعرفون كيف ينسحبون تواضعًا، بل وكيف يخفون أنفسهم.. إنهم لا يسعون إلى التميّز أو التقدير لإنجازاتهم؛ لأن المؤمنين بالله حقًّا يكفيهم أن الله يرى ويعلم كلّ شيء، فالشيء الوحيد الذي يهتمّون به ويقلقون بشأنه هو ما إذا كانت أعمالهم متوافقة مع إرادة الله أم لا، فطالما أن الله راضٍ عن أعمالهم فلا يهمّهم أن يعلم الآخرون بما فعلوه أم لا، أو أن يتوجهوا إليهم بالتقدير أم لا.

[1] سنن الترمذي، العلم، 16؛ سنن أبي داود، السنة، 5.

جنتنا المفقودة: شعور العبودية

Herkul | | العربية

من أكبر المشاكل التي يعاني منها المؤمنون اليوم عدمُ قدرتهم على أن يجعلوا الأفكار الجميلة التي يردّدونها والكلمات الطيبة التي يتفوّهون بها جزءًا من طبيعتهم، ناهيك عن عدم استطاعتهم أن يبلغوا أفق الإخلاص والإحسان في أعمالهم، إننا لم نستطع أن ننسلخ من الإيمان التقليدي ألبتة، وبالتالي لم نستطع أن نوطّد صلتنا مع الله تعالى، ولا أن نسلِّم مخلصين لأوامر دينه، ولا أن تقشعرّ قلوبنا وتفيض أعيننا من الدمع عند ذكره، وفي الغالب لا نشعر بعاطفةٍ تعادل حنين الأم الرؤوم لفلذة كبدها الذي تنتظره في لهفةٍ واشتياق.

قد لا يستطيع الإنسان في بداية الأمر إنشاءَ علاقة وطيدة مثل هذا مع الله سبحانه وتعالى، وقد لا يملك هذا القدر من الشعور، ومع ذلك لا بد أن يطمح على الأقل إلى مثل هذا الشعور والإحساس، وأن يحدد أهدافه جيدًا، ويوحِّد مطالبه؛ لأن مَن لم يوحّد مطالبَه وقبلَتَه يستحيلُ عليه قطعًا الوصول إليه سبحانه وتعالى.

ليتنا استطعنا أن نذيب أنانيّتنا في حوضٍ كبيرٍ كما يذوب السكّر ويتلاشى في الشاي! أو كما يقول الصوفية: “ليتنا استطعنا أن ننسلخ من “أنا”، ونرسو في ميناء “نحن”، ثم نجتاز “نحن”، ونرتقي إلى أفق “هو”!”، ليتنا تلاشينا تمامًا ذاتًا وأنانيةً! إذًا لَكُنّا وصلْنا إلى أفقٍ مختلفٍ تمامًا، وخِلْنا الوجود كله حبيبًا وفيًّا، وقلنا كما يقول الشاعر “نيازي مصري”:

ظننتُ أنه لم يبق في العالم حبيب
فلما تخلّيتُ عن نفسي رأيتُ كلَّ شيءٍ حبيبًا

يجب أن نعلم أنه طالما ظلت أنفسُنا وأنانيتُنا حجابًا للحقيقة! بمعنى أنه طالما ظللنا نقول: أنا، أنا… فلن نفوز بالوصال مع الله سبحانه وتعالى. وما أجمل قول الشاعر الصوفي:

أنى تتجلّى لعبدٍ يقول ها أنا ذا
فلن أراك ظاهرًا حتى أكون غائبًا

ومن ثم علينا أن نتضرّع إلى ربنا سبحانه وتعالى في أدعيتنا قائلين: اللهم إن تجليك منوطٌ بغيابي، فلا تحرمني منك يا إلهي بإظهار نفسي وأنانيتي.

يجب أن يكون تقديرنا للشيء تبعًا للقيمة التي يحملها هذا الشيء، فالأشياء التي نقوم بها بمقتضى بشريّتنا، علينا أن نستنفذها ضمن الدائرة المشروعة، وعند فعل ذلك يجب أن نراعي حقوق أنفسنا وعائلتنا ومحيطنا الاجتماعي، ولكل هذا إطارٌ وحدودٌ بحسب الحاجة والضرورة، أما بالنسبة لمعرفة الله ومحبته والتوجّه إليه بالعبودية؛ فليس لها إطارٌ أو حدودٌ، ففي هذه المسألة يجب أن نتطلّع إلى الذرى دائمًا، وأن نرنو بأبصارنا إلى أعلى فأعلى قائلين: هل من مزيد؟!

 ينبغي أن نطمح إلى معرفة الله بأن نرفع أيدينا قائلين: اللهم عرّفنا بذاتك، وألوهيتك، وربوبيتك، وجاهك، ومنزلتك، وأسمائك السبحانية، وصفاتك القدسية كما عرّفتَ عبادَك المقربين من الأنبياء والمرسلين”.. وعلينا عند فعل ذلك أن نسأل الله أن يُشعِرَنا بمحونا وعجزنا أمامه حتى لا يُداخلنا العجبُ والغرور.. فمن ناحية يجب أن نطمح إلى أعلى الكمالات، ومن ناحية أخرى أن نتحرّك مدرِكين عجْزَنا عن الوقوف والاستواء بدون فضل الله وعنايته عز وجل.

ومهما تعمّقْنا في العبودية يجب أن نعي أننا لم ولن نستطيع أن نؤدّي حقّ عبوديّتنا لربّنا جلّ وعلا، وحتى في اللحظات التي نستغرق فيها في العبودية علينا أن نقول بصدقٍ وإخلاصٍ: “ما عبدناك حقّ عبادتك يا معبود!”، علينا أن نتجنّب كلّ أنواع الادعاءات، ولا نطمح إلى المقامات الكبيرة، وأن نعتبر العبودية له هي أسمى المقامات، وأن نتمسّك بفكرة أن نكون بين الناس فردًا من الناس، فلا نجري وراء مقامات مثل الغوثية والقطبية والمهدية، يجب أن نعلم أن المعرفة الحقيقية هي أن نتجمّل بالتواضع والحياء ونكران الذات ونحن نحلّق في سماء العبودية.

ولا يمثّل هذا الموقف تناقضًا بالنسبة للإنسان، كما أنه ليس شعورًا بالدونية، إنما هو نتيجة طبيعية للتعامل وفقًا لمقتضى الحال.. هذا هو الموقف الذي يجب أن نتبنّاه في عبوديتنا لله رب العالمين، لكن إن تمثَّلْنا الموقف نفسه مع الناس وخاصّة مع المتكبّرين والمستبدّين؛ فقد أهنَّا أنفسنا، واستولى علينا ما يُسمى بالشعور بالعقدة الدونية.

إن إظهار التواضع وإنكار الذات أمام الله يرفعنا أيّما رفعة، ويوصلنا في النهاية إلى منزلةٍ نتقدم بها حتى على الملائكة وهم عباد الله المكرمون.. فلقد ارتقى مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بعبوديته إلى المعراج، وتقدم على الملائكة ومن بينهم جبريل وميكائيل بتواضعه لربّه جل وعلا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قال من باب التحدث بالنعمة: “مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ وَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ[1]، ولكن كما جاء في حديث الشفاعة كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدّث عن مقامه ومنزلته عند ربه يقول: “وَلَا فَخْرَ”، وهو وإن لم يصرح بهذا اللفظ فقد كان قلبه ينبض به دائمًا.

وفي هذا الشأن يمثّل المقربون الذين يتبوؤون منزلةً كبيرةً عند الله عز وجل القدوة لنا؛ فلقد كانوا يتطلّعون دائمًا إلى معرفة الله، ويحاسبون أنفسهم محاسبةً قاسيةً في هذا السبيل، وينسبون كلَّ ما يملكونه لله عز وجل، لم ينسبوا شيئًا إلى أنفسهم في نجاحاتهم، بل ولم يدَّعوا الأفضلية على أحد.

فما الذي يدّعيه الإنسان لنفسه؟! وهو الذي خُلِق من ماء مهين وسيصل به الحال في النهاية إلى أن يكون عظامًا نخرة كما ورد في القرآن الكريم! أليس كلّ ما نملكه منه سبحانه وتعالى؟! ومهما كان قدر عبوديتنا له، ومهما بلغنا من المقامات فهذا لا يعني أننا وفّينا بواجبنا ومسؤوليتنا تجاهه سبحانه وتعالى، إننا عاجزون عن شكره على نِعَمه كما ينبغي، أو التعرف عليه بحقّ، أو أن نتوجّه إليه بالعبودية الحقة.. وهكذا فإن السبيل إلى الوصول إلى العبودية الحقة هو القدرة على إدراك عجزنا هذا، وعندما ندرك ذلك نكون قد توّجْنا عبوديتَنا.

هذه هي جنتنا المفقودة بالنسبة للكثيرين منا، فيجب أن نعمل على الوصول إليها، وأن نحلِّق مرة أخرى بمعرفة الله، ومحبة الله، والشوق إلى الله، وأن نرتفع أعلى وأعلى، وندفع بظهور أيادينا كلَّ ما سوى ذلك، فإن لم تكن الصلة قويّةً بين قلوبنا وبين الله ورسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم فستظلّ الكلمات التي تنساب من أفواهنا مجرد ادعاء.. قد يكرمنا الله فنكون كلَّ شيءٍ، ولكن يجب أن ننظر إلى أنفسنا على أننا لا شيء.. وعلى هذا يتوقف انبعاث المسلمين من جديد بعد أن أصبحوا مجتمعًا نصف ميت، يسير بلا بوصلة، ولا يعي ما يفعل.

[1] سنن الترمذي، المناقب، 17.

مفهوم العطلة عند المؤمن

Herkul | | العربية

يخرج الناسُ في يومنا الحاضر لقضاء العطلة في أوقاتٍ معيَّنةٍ من العام؛ بغية أن يتخلّصوا من رتابة العمل، وينعموا بالراحة والمتعة كما يحلو لهم، فيهجرون بيوتهم في أشهر الصيف خاصّةً، ويبتعدون عن أماكن عملهم، ويتوجّهون المصايف والمنتجعات السياحية، وبينما يفعل البعض هذا ضمن دائرة الشرع يغرق الآخرون في الغفلة ويرتكبون المعاصي والموبقات؛ حيث تلهيهم أماكن العطلة والأنشطة التي تُمارس فيها عن دينهم وتُبعدهم عن ربهم، فالبعض يستغلُّ عطلته في تهدئة روحه وإعادة شحن طاقته، بينما البعض الآخر لا تزيده العطلة إلا تعبًا وإرهاقًا.

والعطلة في أحد معانيها تعني الاستسلام للخمول والكسل، بيد أننا نستخدمها اليوم بمعنى أخصّ، فماذا تعني العطلة بالنسبة للمسلم؟ وكيف للمسلم أن يقضي هذه الشريحة من الوقت؟

شأن المؤمن أن يكون في حركةٍ دائبة، فإذا فرغ من عملٍ نصب إلى عمل آخر، فهو يستريح حين يتعب من عمله، وحين يستريح يشتغل بعملٍ آخر، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة ألا يستولي الكسل والخمول والتوقف والركود على حياة المسلم، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ (سورة الشَّرْحِ: 94/7-8). وعلى ذلك فإن المؤمن يجد راحته في تبديله لعمله، وانتقاله من عملٍ إلى آخر، وأيًّا كان العمل الدنيوي الذي يشتغل به لا ينسى ربَّه، ولا يبتعدُ عنه، فإذا ما ضاقت نفسه من الأعمال الدنيوية التقط أنفاسه وشغل نفسه بالصلاة والدعاء وقراءة الأوراد والأذكار.

أجل، الإنسان بمقتضى فطرته يملّ ويسأم من عمل الشيء نفسه دائمًا، فإذا ما أصابه الملل من العمل الذي يقوم به انتقل إلى عمل آخر، وتخلص من ملله وضجره بالاشتغال بأمرٍ آخر، فمثلًا حين يرهقه عملٌ ذهني أو فكري ينتقل إلى نشاط بدني، وإذا أتعبه العمل البدني اتجه هذه المرة إلى شيء ينشّط قلبه وروحه، وبذلك يكون قد أدى كلَّ ما تتطلّبه بنيتُه المادية والمعنوية، وأقبل على أيّ عملٍ يعمله بعشقٍ وشوقٍ ونشوةٍ، بلا سأمٍ ولا ضجر.

هذا هو معنى الراحة والاسترواح بالنسبة للمؤمن، فراحته في الوثوب من عملٍ إلى آخر على الدوام، ولا مكان في حياته للدعة والخمول، وهذا يعني أن يعيش المسلمُ الحياةَ بكل جوانبها المختلفة، وأن يزيح عن نفسه التعب في عملٍ ما بالاشتغال بعملٍ آخر، فإذا استوعبنا هذا الملمح اللطيف والسرّ الكبير في هذا الأمر الموجّه -في الآية الكريمة- إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استطعنا أن نستثمر حياتنا كلها بشكلٍ أكثر بركةً وفاعلية وإنتاجية.

أجل، قد يتعب الإنسانُ من العمل الذي يقوم به، ويصيبه الضجرُ والملل من الاشتغال بالشيء نفسه دائمًا، ويشعر بالحاجة إلى الراحة والاسترواح والخروج إلى العطلة، لكن المسلم لا يقضي وقته سدًى حتى أثناء العطلة، ولا يستغرق في المتعة بلا قيد أو اعتدال، فاستراحته لا تمنعه من الاشتغال بأعمال أخرى في مجالات مختلفة، بمعنى أنه في حركة وعمل حتى في وقت راحته. 

فمثلًا مخيّمات القراءة التي ينظّمها الإنسانُ مع أصدقائه لها الكثير من المنافع الذهنية والقلبية والروحية، كما أنها فرصةٌ للراحة والاستجمام، ويا حبّذا لو أقيمت مثل هذه المخيمات في الأرياف واستَنْشَق الإنسانُ الهواءَ النقيَّ الذي تتّسم به الأرياف، وابتعد عن مشاغله الدنيوية، وانزوى في مكانٍ هادئ يروّح فيه عن نفسه، ويتخلّص فيه من تعبه؛ عندها سيأخذ قسطًا من الراحة وسيلبِّي حاجتَه إلى العطلة، ويتغذّى معنويًّا.

ولو أُتيحت الفرصة يمكن أن تُقام هذه البرامج بين الأسر، ويُشجّع الأطفال على الاشتراك فيها، ويمكن للذين يشعرون بالملل والضيق من بيوتهم وأعمالهم واشتغالهم بنفس الشيء طوال الوقت أن يجدوا راحتهم في القيام بالأنشطة المتنوعة في هذا الجوّ المتميّز، وإلى جانب الأنشطة الترفيهية يمكن مثلًا تعليم تلاوة القرآن، ومطالعة الكتب، وقراءة الأذكار والأوراد، وتنظيم البرامج النافعة.

لقد ازدادت المشاغل والأعمال واشتدت ضغوطات الحياة في عصرنا إلى أن أصبح الناس لا يستطيعون أن يخصّصوا وقتًا كافيًا للقراءة والعبادة والغذاء الروحي، وربما تكون أوقاتُ العطلة فرصةً للقيام بمثل هذه الأعمال التي لم تحن الفرصة للقيام بها في أيام العمل، فبفضل الأنشطة المختلفة ننعم بالراحة ونستثمر وقتنا بشكلٍ جيّد، فضلًا عن ذلك فإن مثل هذه الأنشطة تُبعدنا عن الجوّ الخانق المملّ للحياة اليومية، وتخلّصنا من الإلف والتعوّد، وتتيح لنا الفرصة لنعيش حياتنا بشكل أكثر حيويّة وفاعليّة.

قد يمكن للإنسان أن يقرأ وحده الكتب، ويشغل نفسه بالدعاء، وقراءة الأوراد والأذكار، ولكن إذا اجتمع عددٌ من الناس في مكانٍ ما تحملهم على ذلك النوايا الحسنة والمقاصدُ العالية، وكان مدارُ حديثهم حول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فسيتشكّل من خلال هذا التجمّع عالمٌ خاصّ بهم، ويتهيّأ جوٌّ مختلف لهم، ويتوطّد التآزر والتفاعل فيما بينهم.. كما أن تنفُّسَ هذا الجوِّ يخلق تأثيرًا مختلِفًا في عالم الإنسان القلبيّ والروحيّ والعاطفي، حيث ينفتح في هذا الجوّ على عوالم أخرى، وينفعل بمشاعر مختلفة، ويشعر وكأنه يسير في أروقة الجنة، ويخرج من هنالك وقد استراح ذهنيًّا وبدنيًّا، وتنشّطَ روحيًّا، وبهذه الطاقة التي استمدّها من هذا الجو يحافظ على حيويته لفترة طويلة من الوقت.

أجل، لا مجال للكسل والخمول في حياة المؤمن، فلقد كان السعي والجدُّ والاجتهاد والحركة الدائبة من المقوّمات التي رفعت المسلمين في العصور الأولى للإسلام إلى الذرى، أما ما أهلكَنَا فهو الولع بالراحة، والحرص على متعة النفس، والركون إلى الدعة والخمول، ومتى ما تخلّى العالم الإسلامي عن السعي والاجتهاد وبدأ يستسلم للنوم والراحة أصبح لعبةً في أيدي الطغاة والمستبدين.

الجميع يخرج للعطلة كما يحلو له، ويطوِّر من نظام حياته وفق ذلك، ويجدّ ويكدح طوال العام من أجل قضاء عطلة جميلة فقط.. هذا ما يفكر فيه الجميع.. أما المؤمن فلا يفعل شيئًا لمجرّد أن الآخرين يقومون به، فلديه مقوّماتٌ خاصّةٌ بحياته، ومن ثم لا يركن إلى الدعة والخمول، لا في وقت العمل ولا في وقت العطلة، لا سيما الذين نذروا أنفسهم لخدمة الدين وجعلوا فلسفتهم في الحياة العيشَ من أجل إحياء الآخرين، عليهم أن يعيشوا ضمن الدائرة التي حددت إطارها المصادرُ الرئيسة في تراثهم الثقافي، وأن يكون لديهم إرادة وتصميم على العمل على نحو لا يسمح بتسرّب الكسل والخمول إلى حياتهم، فإن شعروا بالحاجة إلى الراحة بمقتضى طبيعتهم البشرية قاموا بعطلتهم وهم يحافظون على معالمهم الذاتية.

 

الانهزام أمام نقاط الضعف

Herkul | | العربية

تكمن في طبيعة الإنسان آلياتٌ مهمّة تتعلّق بالجانب الروحي لممثّل الإرادة والإحساس والشعور واللطيفة الربانية والسر والخفي والأخفى؛ كما توجد أيضًا آليّاتٌ سلبيّة تتعلّق بالنفس يمكن للشيطان أن ينفذ منها، يمكن أن تسمّى هذه أيضًا نقاط الضعف البشرية.. ولقد تناول بديع الزمان سعيد النورسي أبرز هذه الآليات السلبية ونقاط الضعف في رسالته “الهجمات الست”[1]، وحذرنا منها؛ وهي “حبُّ الجاه والشهرة” و”الخوفُ” و”الطمعُ” و”العنصريةُ” و”الأنانيةُ” و”حبّ الدعة والراحة”، ولا جرم أن نقاط الضعف لا تقتصر على هذه فقط، فمن الممكن ذكر العديد من النقاط المتعلّقة بهذا الشأن.

قد تختلف هذه الميول ونقاط الضعف التي تتعلّق بالنفس من شخصٍ لآخر، بمعنى أن ابتلاء كلّ شخصٍ يختلف عن الآخر، فمثلًا قد يُبتلى البعضُ بحبّ المنصب، وحتى يحافظ على هذا المنصب ويستفيد من قوته؛ يرتكب الكثير من الجرائم والآثام.

ومع هذا فهناك أناس لا يعانون من هذه المشكلة ولا يرومون إلى تقلّد المناصب والمقامات، وحتى وإن عُرضت عليهم بعض المناصب مثل الإدارة أو الإدارة العامّة أو عضوية البرلمان أو الوزارة ؛ يُعرضون عنها ولا يلتفتون إليها، لكن قد يكون لديهم ضعفٌ أمام المال والثروة، وفي سبيلهما يجثون ويخضعون، ويسلكون كلّ الطرق المشروعة وغير المشروعة، ويملؤون جيوبهم وخزائنهم دون تحرٍّ للحلال والحرام، وينتهكون حقوق الآخرين، ويتنازلون حتى عن أسمى قيمهم.

وهناك آخرون لا يتغلّب عليهم حبُّ المنصب ولا حبُّ المال، ولكنهم يستسلمون لأهوائهم ورغباتهم الجسمانية، ويخضعون للحيوانية الكامنة في ذواتهم، ولقد ذهب أناسٌ كثيرون حتى اليوم ضحيّةً لهذا الضعف، وما أكثر العائلات التي تشتّتَتْ والمجتمعات التي تعفّنت من الداخل بسبب هذا الضعف!

وقد يقع الكثيرون أيضًا في أيامنا في أَسر الشهوة، وبالتالي يصبحون عرضةً لاستغلال الآخرين من شياطين الإنس والجن الذين يستغلون هذا السلاح في تقييد حركة العديد من القامات السامقة وإرغامهم على فعل ما يريدون، فإذا ما اقترفت هذه القامات ذنبًا ناشئًا عن هذا الضعف سارعوا مضطرين إلى أن يأخذوا على أنفسهم العهود والمواثيق حتى لا يفتضح أمرهم؛ ولهذا لا يقدرون على التصدي للظلم والقهر، بل لا ينبسون ببنت شفةٍ، وعند ذلك يُفسح المجال أمام الذين قيدوا ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم مستفيدين من هذا الضعف؛ لتقديم مسرحياتهم اللعينة ومؤامراتهم الخبيثة براحةٍ واطمئنان.

وهناك أناس لا يغلبهم أيٌّ من نقاط الضعف المذكورة آنفًا، فلا يركنون إلى متاع الدنيا، ولا يركضون وراء المنصب، ولا يتعلقون بالحياة البوهيمية، ولكن أكبر ضعفهم هو الخوف، وبسببه لا يُظهِرون أدنى مقاومةٍ أمام أيّ تهديدٍ أو خطرٍ بسيطٍ، بل يخضعون على الفور، ويفعلون كلَّ ما يُفرَض عليهم خوفًا من أن يقعوا ضحيةً لفاعلٍ مجهول، أو تضيع ما في أيديهم من الفرص المتاحة لهم، ورغم أن أصحاب النوايا السيئة قد عجزوا عن تقييدهم بالمال فإنهم بسبب ما يستشعرونه من خوف لديهم يجعلونهم عديمي التأثير والفاعلية، بل ويسلسلون أيديهم وأرجلهم، ويستخدمونهم كالخدم والعبيد.

ومن نقاط الضعف البشري المهمة أيضًا الجشع والطمع والشره، وكم أفلس أناسٌ بسبب هذا الضعف الناشئ عن توهّم الخلود، وطول الأمل! وهو ما أشار إليه مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بقوله: “لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِن مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّراب”[2].

ومن نقاط الضعف الأخرى التي تُعتبر اختبارًا للإنسان حبُّ الشهرة، ولقد انزلقت أقدامُ كثيرٍ من الناس بسبب رغبتهم في أن يُشار إليهم بالبنان، وأن يكونوا محلَّ تقديرٍ واهتمام من الآخرين، وحرصهم على أن يتركوا ذكرًا جميلًا وراءهم، وقد يقوَى هذا الشعور لدى البعض ويشتد، فيرغبون في أن تدوم شهرتهم حتى بعد وفاتهم وليس في حياتهم فقط، فيرغبون مثلًا في أن تشارك الجموعُ الحاشدة في تشييع جنازتهم، وأن يُدفنوا داخل مقابر مقببة ومنمقة ومزخرفة، بل ويعتنون عناية خاصة بما يُكتب على شواهد قبورهم بعد وفاتهم، ولا أدري بمَ ينتفع الميت من هذا الأمر، فمنكرٌ ونكير لا يلتفتان لهذه الأمور! أجل، إن حبَّ الشهرة قد أذلّ كثيرًا من الناس حتى اليوم، وجعلهم يرتكبون الكثير والكثير من الآثام.

والذين راحوا ضحية هذه النوعية من نقاط الضعف لم ينصفوا إنسانيتهم، بل انهزموا أمام حيوانيتهم، وأصاب الشللُ والقصور خصائصَهم البشرية، فهذه النوعية من نقاط الضعف تنخر في جسد الإنسان مثل السوس في الشجر، وتمنعه من أن يعبر عن نفسه بقوة وشجاعة، أو أن يصدح بالحق والحقيقة، ولهذا يتحوّل إلى شيطان أخرس أمام الظلم والجور، ولقد كُتب على الكثير من البائسين أن يعيشوا مثل المفلوج الذي عجزت يداه عن الحركة في هذه الدنيا البائسة التي انطفأ نورها وأظلم نهارها وتجمد ربيعها، وهذا هو سبب تحوّل الدنيا إلى عالمٍ من الظلم والقهر والاضطهاد، ويرجع ذلك إلى نقاط ضعفنا وثغراتنا وأخطائنا وعيوبنا.

والواقع أن خَلق الإنسان بفطرة مهيأةٍ لمثل هذه المشاعر ليس شرًّا مطلقًا، فثمّة مواضعُ يجب أن تُصْرَف فيها هذه المشاعر، وَجِهاتٌ لا بد أن تُصَرَّف عنها، ولذا أُدرِجت في ماهية الإنسان، لكنها تحوّلت إلى نقاطِ ضعفٍ بسبب صرفها في الاتجاه الخاطئ.. فلو أن العبد تمسّك بأركان الدين الأساسية التي هي منبع الهداية، ودخل في كنف ربه بالتقوى، وتمتّع بالدقة والحساسية في اجتناب المحرمات وأداء الفروض؛ فسيستقرّ كلُّ شيءٍ في مكانه الصحيح، ويتفادى العبدُ نقاط الضعف هذه وما يلحقها من أضرار، ويصبح إيمانه وتقواه بمنزلة الدرع الذي يقيه الذنوب والآثام، بل وينال ثواب العبادة بمجاهدته نقاط ضعفه هذه.

أجل، علينا أن نتوخّى الحيطة والحذر دائمًا ونحن نتعامل مع صنوف الابتلاء التي ذكرناها آنفًا أو التي لم يسعنا المجال لذكرها. ومن ثَمَّ يجب أن نفحص -باستمرارٍ- الأسوار التي تقينا حيل الشيطان ودسائسه وهمزاته ووساوسه، ونرمّمها على الدوام؛ حتى نسدّ الشقوق والثغرات، ولا نسمح للشيطان بالدخول من أي منفذٍ كان، علينا ألا نسمح بتغلغل شياطين الإنس والجن بيننا، وتسلُّلهم إلى عالمنا القلبي والروحي، وتحريكهم لأنفسنا الأمارة بالسوء، يجب أن نعطي الإرادة حقّها عند التصدّي لرغباتنا وأهوائنا، وأن نقاوم الذنوب والآثام بشجاعةٍ وقوّة، لا ينبغي أن نكون عبيدًا للإمكانات المادّية، والمقامات والمناصب، والصيت والشهرة، والجسمانية والشهوة… يجب ألا نتعلق بنعيم الدنيا الزائل، بل نرنو بأبصارنا إلى النعيم الأبدي، ولْنعلمْ أن الملذّات والأذواق المشروعة تكفي لمتعتنا وإشباع رغبتنا، فلا داعي ولا موجب لمباشرة الحرام.

وهذا من شأنه أن يقي الإنسانَ من الوقوع في دركات الحيوانية، ويجعله يحلّق في سماء الكمالات الإنسانية، وهذه هي أركان الطريق المؤدي إلى أفق الإنسان الكامل.

 

[1] هو القسم السادس من المكتوب التاسع والعشرين من كتاب “المكتوبات” للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي.

[2] صحيح مسلم، الزكاة، 117.

الترابط

Herkul | | العربية

ركز بديع الزمان سعيد النورسي على ضرورة أن تقوم العلاقة بين الذين وهبوا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن على التفاني الذي يعرّفه بقوله: “أن يفنى كلٌّ في الآخر؛ أي أن ينسى كلُّ أحد مزاجَه الشخصي ومشاعرَه النفسية الخاصة، ويعيش فكرًا مع مزايا إخوانه وفضائلهم”[1]. ونقول بشيء من الإيضاح: التفاني هو أن ندرك حاجةَ بعضنا للبعض الآخر، وأن نفرح بإنجازات إخواننا، وأن نؤثرهم على أنفسنا عند اللزوم، ولا ريب أن مثل هذا الأفق يشكّل مستوًى متقدِّمًا للغاية في الأخوّة الدينية التي أمر بها الإسلام، ومن يعملون بهذه الروح تترسخ بينهم وبين إخوانهم وحدةٌ كاملة نتيجة تشابكهم وترابطهم القوي فيما بينهم.. فمَثَلُهم كمَثل الحجارة التي تشكّل القبة الواحدة، يتشابكون ويتلاحمون، ويحمي بعضُهم بعضًا من السقوط.

ويلفت القرآن الكريم أنظارنا إلى مسألة الترابط فيقول: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (سورة الصَّفِّ: 61/4). وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول معبّرًا عن هذا المعنى: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا”[2].

أجل، إن القوة تنشأ عن مثل هذا الترابط القوي، فالذين يعملون معًا ويتعاونون فيما بينهم يحرزون نجاحات تتجاوز قواهم وقدراتهم الشخصية، أما الذين يعملون بمفردهم معتمدين على إمكاناتهم الذاتية دون اعتبار للآخرين؛ فإنهم وإن حقّقوا نجاحًا جزئيًّا فلن يُكتب لهذه النجاحات الديمومةُ والتأثيرُ على نطاق واسع، لكن إذا أضافوا قابلياتهم إلى قابليات الآخرين، ووحّدوا مواهبهم وقدراتهم مع مواهب الآخرين وقدراتهم، وتوجّهوا إلى هدفٍ واحدٍ؛ فسيقهرون الصعاب، ويعبرون الجبال الشامخات التي كان يُظَنّ أنها لا تُقهر.. والتاريخ حافل بأمثلة كثيرة على ذلك.

وإن مثل هذا الترابط من شأنه أن يعزّز قوّتنا المعنوية، ويمكّننا من السير إلى المستقبل دون تعثُّرٍ أو تبعثرٍ، ويشكّل قوة جذبٍ للآخرين، ويجعل من غلافنا الجوي مركزًا للجاذبية، ولا شك أن الذين يجتمعون حول فكر وشعورٍ واحدٍ، ويترابطون فيما بينهم؛ يجذبون انتباه الآخرين، وخاصّة أولئك الذين يتحرّكون وفقًا للمزاج الجماهيري.

الأهم من هذا كلّه أن مثل هذا الترابط يجلب المحبة الإلهية، وبالتالي العناية الإلهية، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ”[3]، فإذا كان الله قيّد عنايته وإعانته بترابطنا وتماسكنا على سبيل الشرط العادي، ثم فشلنا في تحقيق هذا الترابط؛ فهذا يعني أننا سنُحرَم من هذه المعونة. أما إذا ترابطنا فستشملنا العناية الإلهية، ومن شملتهم عناية الله لا يضرهم أحد، بل إنهم بفضل هذه العناية سيسيرون نحو هدفهم دون توقف أو تردد رغم كل المساعي التي تهدف لإعاقتهم.

وثمة جانب آخر للمسألة، وهو أن الأمة المحمدية لا تجتمع على ضلالة، كما صرحت بذلك بعضُ الأحاديث الشريفة، وهذا هو السبب في جعل الإجماع أحدَ مصادر التشريع الإسلامي، وتكمن الفكرة نفسها وراء تقرير القرآن بأن الشورى هي أبرز صفات المجتمع المؤمن؛ لأن معدل الخطإ بالنسبة للذين يتشاورون ويتذاكرون بعض القضايا هو احتمالٌ بعيدٌ جدًّا مقارنةً بمعدّل خطإ الشخص الواحد، فالحقيقة إنما تبزغ من تصادم الأفكار وتنوّعها، فأحيانًا يستفيد مئات الأشخاص من رأي شخصٍ واحدٍ، حيث إن كلَّ فردٍ من أعضاء مجلس الشورى يدلي بدلوه ويُسهِم بتجربته في الموضوع المطروح.

وقد تكون الإصابة في اتخاذ القرارات لطفًا خاصًّا من الله تعالى لهؤلاء الذين يعملون في إطار الوعي الجمعي نتيجة ترابطهم فيما بينهم وتشابكهم كأحجار البنيان المرصوص؛ بمعنى أن الذين يوحّدون جهودهم ويتعاونون فيما بينهم يظفرون بعنايةٍ وتوجّهٍ خاصٍّ من الله تعالى؛ حيث يوفقهم الله، ويقيهم السقوط في الضلالة والأخطاء الكبيرة.

أما الذين يتصرّفون بمفردهم فهم أكثر عرضةً للخطإ، ولا يتغيّر الوضع حتى لو كانوا دهاةً عباقرةً؛ لأن الإنسان مهما كان عالِمًا ذكيًّا فعِلمُه وفكرُه قاصران لأنهما صادران عن فردٍ واحدٍ لا يستطيع أن يدرك كلّ الأحداث والتفاصيل في آنٍ واحدٍ، فضلًا عن أن الأفراد قد يخضعون في قراراتهم واختياراتهم لأهوائهم ورغباتهم، وعلى ذلك فيجب أن نثق بالنتائج التي توصّل إليها الذين حصروا همتهم حول غاية سامية في ضوء الشورى، لا الخطط التي وضعها أحد أصحاب القدرات الكبيرة منفردين.

لقد بدأنا موضوعنا بالحديث عن التفاني والترابط والأخوة، وكل هذه أوصافٌ مهمّة وضوابط ضرورية للوصول إلى النجاح في الخدمات المبذولة، لكن تشكيل مثل هذا الترابط، وتكوين مثل هذه الأخوّة الصادقة، وحفظ روح الوحدة التي تتشكّل فيما بعد؛ يستلزم جهودًا مضنيةً، من أجل ذلك لا بدّ من خضوع الأفراد لتدريب جاد، وإن لم يُتوخَّ الحذر فربما تدخل مشاعر الحسد والغيرة في العمل بمرور الوقت، وتتعارض الأنانيات، وتنشأ النزاعات والصراعات، فترى الذين يرنون بأبصارهم نحو مقامات ومناصب معينة تحدوهم الرغبة في الظهور والشهرة والتعبير عن الذات، بل ويحاولون التأثير في الناس من خلال لفت أنظارهم إلى نجاحاتهم، وكما ينشأ هذا كثيرًا بين أهل الدنيا فكذلك قد يحدث بين أرباب الخدمة الإيمانية والقرآنية، وهذا أكثر ما أخشاه.

ينبغي للمؤمن أن يصرّ على دفن مزاياه وفضائله في تراب الخفاء، وأن يقدِّر ويبارك أصغرَ الخدمات التي تصدر عن الآخرين، وإذا كان لا بدّ من وضعِ أحدٍ في مكانٍ تستهويه نفسه فعليه أن يقدّم غيره وليس نفسه، وأن يؤثِر أخوانه على نفسه دائمًا في المقامات المادية والمعنوية.

فمن أجل أن نقي أنفسنا من الحسد، وما ينشأ عنه من حقدٍ وغلٍّ وعداءٍ فلا ينبغي إثارة عرق الحسد لدى الناس، ولا نحاول إبراز فضائلنا ومزايانا؛ فإنكم عندما تقولون: “لقد قلت هذا، وكتبتُ ذاك، وفعلت ذلك” فإنكم تحرّكون مشاعر الحسد في أعماق قلوب الآخرين؛ لأن إظهار النفس ولو بقدر ضئيل يُشعر الآخرين بالانزعاج وعدم الارتياح، وهذه هي إحدى نقاط الضعف الشديدة لدى الإنسان الذي يرغب دومًا في إبراز نفسه، وينزعج من إبراز الآخرين لأنفسهم، وقليل ما هم الذين لا ينزعجون من ذلك، ويتمكنون من قمع مشاعر الغيرة لديهم.

ولكن إذا كان علينا تقدير الناس، ولفت الأنظار إلى نجاحاتهم، والتصفيق لهم، وتشجيعهم على عمل المزيد من أعمال الخير؛ فعلينا أيضًا ألا نكلّفهم فوق ما يطيقون؛ بأن نزكّيهم أمام الله، أو نمدحهم بما يُغريهم ويُطغيهم، فإذا تكلمنا لا نبالغ فيما نقول، ولا نمدح أحدًا بما ليس فيه، ولا نقدِّره بقدرٍ فوق قدره، وأن نعمل على أن يكون كلامُنا مطابقًا للواقع، فإن تحرّكنا ضدّ هذه المعايير التي وضعها دينُنا فسننال صفعةً تنافي مقصدنا.

فالاستقامة هي من أهم آليات الأخلاق والحياة الإسلامية؛ وتعني تجنب الإفراط والتفريط، والابتعاد عن كلّ أنواع الغلو، وإظهار الأهمية اللازمة لكل شيءٍ، وبهذا المعنى يضع أربابُ الصراط المستقيم كلَّ شيء في نصابه، فيتجنبون المبالغات ومدح الناس على النحو الذي لا يطيقون، ويرون الجماليات المبذولة، ويقدرون قدر أصحابها دون الإخلال بالموازين المذكورة آنفًا؛ لأن الحديث عن الخدمات التي بذلها الآخرون، والثناء على أصحابها، والشعور بالامتنان لهم، والدعاء لهم؛ هو مقتضى الاعتراف بالجميل لهم، فالاعتراف بالجميل يشجِّع الناس ويحفزهم أكثر على فعل الخير، كل هذه مقاييس مهمّة لدرْءِ الحسد، والحفاظ على الأخوّة.

لنفترض أن لنا إخوةً يعملون في مكانٍ ما في سبيل إعلاء كلمة الله، وقاموا بأعمال عظيمةٍ ترسم البسمة على وجوهنا جميعًا، فلا بد أن نجد وسيلةً نتكلّم من خلالها عن مزاياهم حتى لا نحوجهم إلى الحديث عن أنفسهم؛ فلربما كانت تراود أحدَهم رغبةٌ في الحديث عن نفسه وأعماله، أو نوى هذا وخطّط له من قبل، فإن تداركْنا الأمر، ولفتْنا الأنظارَ إلى أعماله فلن ندع له شيئًا يتحدّث عنه.

عندما كان بديع الزمان سعيد النورسي يعدّد دساتير الإخلاص ركز على مبدإ: “الافتخار بمزايا إخواننا وشكرنا لهم”. أجل، إذا كان لا بد من إبراز مزيّةٍ أو الافتخار بها فلا بدّ أن تكون مزايا إخواننا، وليست مزايانا نحن، وبدلًا من الحديث عن أنفسنا نتحدّث عن إخواننا، وإذا كان لا بدّ من تفضيل أحدٍ فليكن إخواننا وليس أنفسنا، فمثلُ هذا الأمر يحول دون الحسد، ويقينا الكبر والغرور، ويرسِّخ روح الأخوّة فيما بيننا.

فإن لم ننتبه لذلك فلن نستطيع التغلّب على الحسد والغرور والشقاق والخلاف، ولن نحافظ على الوحدة والاتحاد فيما بيننا، ولن نعمل في وئامٍ ووفاقٍ؛ وهذا كله يحطّ من ثوابنا، ويحبط من أعمالنا، ويجعلنا نسير ونسير، ولكن دون أن نحرز تقدُّمًا فعليًّا.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون، ص 224.

[2] صحيح البخاري، الصلاة، 88، المظالم 5؛ صحيح مسلم، البر، 65.

[3] سنن الترمذي، الفتن، 7.

السطحيّةُ وركودُ الهمم

Herkul | | العربية

يرى “أحمد حلمي فِيلِيبَه لِي (Filibeli Ahmet Hilmi)” -وهو من المفكّرين البارزين في أواخر العهد العثماني- أن ثمَّةَ عائقين يحولان دون تقدُّم المسلمين؛ أوّلهما: ركود الهمم، والآخر: هو الاكتفاء بالمعرفة السطحية.. ووفقًا لقناعتي القاصرة: فإن اختزال تخلّف العالم الإسلامي في هذين السببين تضييقٌ للمسألة، ومع ذلك فهذان العاملان يضطلعان بدورٍ كبيرٍ في عصرنا الحاضر.

وركودُ الهمم يعني باختصارٍ: الرضا بالوضع القائم، وعدم بذل الجهد للمضيّ قدمًا.. ولقد تطرّق بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله إلى هذه المسألة، وبيّن أن الاكتفاء بالموجود نوعٌ من دنوّ الهمة، فإذا ما ارتضت الأمة بالركود والانحطاط في اقتصادها وثقافتها وحضارتها وحياتها العلمية والبحثية؛ فهذا يعني أنها قد استسلمت للتفسّخ والاضمحلال؛ لأن ركود الهمم ينشأ عن الكسل والبطالة، والمجتمعُ الراكدُ الثابت في مكانه لا مجال فيه للتطوّر والتقدّم، ولا مناص من تحلُّله وتفسُّخه مع مرور الوقت.

والمجتمعاتُ التي يستولي عليها ركودُ الهمم لا تستطيع مواكبة العصر الذي تعيش فيه، وحتى لو كانت على وعيٍ بعصرها زمنيًّا فإنها تظلُّ دائمًا متخلّفة من حيث العقلية عن معاصريها، والذين لا يستطيعون فهم العصر الذي يعيشون فيه يتعذّر عليهم التحكّم في الزمان، وبالتالي لا يمثّلون أيّ نفعٍ للناس في زمانهم لأن عقولهم ما زالت حبيسةً متخلّفةً في العصور القديمة، فما زالوا يستخدمون الأدوات والوسائل القديمة التي عفا عليها الزمن لأنهم لم يستطيعوا تجديد أنفسهم بما يتناسب مع مقتضيات العصر، وهؤلاء وإن اعتقدوا أنهم سيصلون إلى مكانة ما بهذه الطريقة فإنهم في الواقع على خطإٍ كبيرٍ.

أما المشكلة الأخرى التي كشف عنها “أحمد حلمي فيليبه لي” فهي السطحية.. والسطحيّةُ عكس التعمّق؛ وتعني الاكتفاء بالمعلومات السهلة البسيطة المتاحة، وإهمال القراءة العميقة، وعدم إجراء أبحاث متعمقة؛ وهذا كلُّه من المشاكل التي يعاني منها المسلمون حاليًّا، ومع الأسف هذا هو واقعُنا البائس، فلا يمكن لمن ينظر إلى الأحداث بنظرة سطحية، ومن يقرأ بسطحية، ومن يقنع بالأفكار السطحية؛ أن يطرح أفكارًا عظيمةً أو مشاريعَ متعدّدة الجوانب، فحتى الآن لم يستطع أصحاب النظرة السطحيّة للكون أن يصلوا إلى الله تعالى الذي يتجلّى بأسمائه وصفاته في كلّ الذرّات، والذين حاولوا فهم الإسلام بنظرة سطحية توصلوا -للأسف- إلى استنتاجاتٍ خاطئةٍ حوله، والذين نظروا إلى مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بسطحيّةٍ لم يستطيعوا أن يتعرّفوا عليه بقامته وقدره العاليَين، والذين قرؤوا القرآن المعجز البيان بسطحيّةٍ قد عجزوا عن اكتشاف جواهره، بل ورأوه عبارةً عن مجموعةٍ من الأساطير. أجل، إن النظرة السطحية لا يمكن أن ترتقي بالإنسان إلى أيّ مكانة.

فرغم شيوع المعرفة وسهولة الوصول إلى المعلومات في عصرنا الحاضر فإننا نلاحظ أن السطحيّة قد ازدادت بشكلٍ أكبر، فقد بات مصدر المعرفة بالنسبة للكثيرين اليوم عناوين الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي، ففيهما يبحث الناس عن المعلومات التي يحتاجونها، ويسعون إلى أن يتعرّفوا على كلِّ شيءٍ من خلالهما، ولكن هذه المصادر يصعبُ عليها أن تمنحَ معلومةً أكيدةً موثوقة، أضف إلى ذلك كمّيّة التلوّث المعرفي في هذه المصادر، ففيها مقالات وأخبار وفيديوهات هدفها توجيهُ أنظار الناس إلى جانبٍ معيّن أحيانًا، وخداعُهم أحيانًا أخرى، حتى ينشغلوا بالمنشورات والجدالات اليوميّة العقيمة.. وفي هذه المصادر تُعدّ السيناريوهات، وتُصوَّر الأفلام، وتُبثّ الأخبار المثيرة، بحيث يتهافت عليها الناس، وينجرفون وراءها، ويبتعدون عن عوالمهم الذاتية، وعندها لا يستطيعون مواجهة مشاكل العالم الذي يعيشون فيه، وبالتالي لا يتمكّنون من وضع حلولٍ عمليّةٍ مفيدة لها.

الاستفادة من مستجدّات العصر

إننا لا نستطيع فهم “الكتاب المسطور” ولا “الكتاب المنظور” بأبعادهما العميقة لعجزنا عن التخلّص من السطحيّة؛ علمًا بأن هذين الكتابين قد خضعا في عصور الإسلام الأولى إلى التحليل والتدقيق، وتمّ التوصل من خلالهما إلى حقائق عديدة، فلو نظرنا إلى المؤلّفات التي حُرِّرت في القرون الخمسة الأولى للهجرة لأدركنا مدى انتعاش الحركة العلمية والفكرية في تلك الفترة؛ فقد نشأ فيها علماء كثيرون، وحرِّرت مؤلَّفاتٌ خالدة، ولكن مع الأسف تلاشت هذه الحيوية واختفى هذا التعمّق مع مرور الوقت، وحلّ محلّهما التقليد والسطحيّة. ومما يؤسَفُ له أن عصر التنوير الذي انتعشَ في مدارس الغرب مؤخّرًا لم يطرق أبواب مدارسنا في الفترة الأخيرة، فكُرِّرت المؤلفات المحرَّرة منذ قرون، ولم تُضَف إليها معلومات جديدة، ولم تُمهّد السبل للابتكارات الجديدة والتطوّرات الحديثة.

والحقُّ أن كلَّ مؤلَّفٍ من هذه المؤلَّفات كان رائعةً فنّيّةً في حدّ ذاته، وكلُّ كاتبٍ من أولئك الجهابذة الغابرين كان علّامةً في تخصّصه، إلّا أنّهم قد حرّروا مؤلّفاتهم بتأثيرٍ من حياتهم العلمية والثقافية، وبما يتماشى مع ظروف عصرهم وتطوّراته، في حين حدثت تغيُّراتٌ كبيرةٌ وثوراتٌ عظيمةٌ فيما بعد، فكان يلزم متابعة هذه التغيّرات عن قربٍ، وكان لا بدّ للعقليّة العِلميّة الإسلامية من إجراء عملياتٍ تجديديّةٍ تتناسب مع شروط العصر، ولكن حدثَ ركودٌ كبيرٌ في الفترات اللاحقة، وتعذّر علينا أن نتابع التغيّرات والتطوّرات في الغرب، فلم تُحلَّل عوالمُ الوجود والأحداثِ لا في ضوء القرآن والسنّة، ولا من خلال المعلومات الحديثة التي تمّ الوصول إليها، فلو تجاهلْنا كلَّ هذه الحقائق في أيامنا ولم نتفوّقْ على المؤلفات المكتوبة منذ قرون فلن نستطيع التخلُّص من ركود الهمم والسطحية.

كان كلٌّ من الإمام الغزالي، وفخر الدين الرازي، والقاضي البيضاوي، والإمام التفتازاني، والإمام الجرجاني، وغيرهم من العلماء؛ قامةً عاليةً، قدّموا مؤلفات رائعة تعلّمنا وسنتعلّم منها الكثير والكثير، ولكن لا يمكننا اعتبار أفكارهم بمثابة نصوص القرآن والسنة، ولا يمكننا مساواتها بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، أو أخذُها وتلقّيها عنهم دون قيدٍ أو شرطٍ، فإذا ما نحّينا جانبًا الأحكامَ الثابتة غير المتغيّرة التي نصّوا عليها في مؤلفاتهم فلا يمكننا أن نتجاهل أيضًا أنهم قدّموا آراءً تخضع لتأثير الفترة التي عاشوا فيها، إننا لا نستطيع معالجةَ النوازل اعتمادًا على مؤلّفات العلماء السابقين وأفكارِهم وتأويلاتهم الماضية فقط، ودون الأخذ بمستجدّات العصر.. يجب أن نفهم الماضي وما حُرِّر فيه من مؤلَّفات، وأن نستفيد منها بشكلٍ صحيح، لكن لا يجب أن نُلزِم أنفسنا بها ونحبسَ عقولنا بين دفّتيها.. إن ما ذكرناه لا يستوعبه أصحابُ النظرة السطحية، فهم يُرجِعون كلَّ مسألةٍ يعالجونها إلى الماضي لأنهم لم يتخلَّصوا من التقليد رغم تغيُّر الزمان وتقدم الإنسانية في العلوم والفنون، ولذلك لا يزال التخلُّف في أن يكون قدرَنا ومصيرَنا.

في العهد الأخير للدولة العثمانية نشأ العديد من المفكّرين والعلماء المحقّقين أمثال: أحمد نعيم، وحمدي يازِرْ، وإسماعيل فَنّي، وفريد كام، وبالطبع بديع الزمان سعيد النورسي.. فهؤلاء العلماء تمردوا على الركود والسطحية والتقليد، وحاولوا فتح أعين المسلمين وتوسيع آفاقهم، بل كان هناك مَن ينتمي إلى مذاهب فكرية مختلفة أمثال “بشير فؤاد” و”جلال نوري”، ومع ذلك قاموا بجهود تجديدية مهمّة، لقد كان هؤلاء العلماء مفكّرين ومنفتحين على أعماق فكرية مختلفة بالنسبة لعصرهم.

ورغم أن رجال الدولة العثمانية قاموا بأعمال كبيرة وأبرزوا نجاحات باهرة في المجالين الإداري والعسكري فلم يتسنّ لهم -مع الأسف- إظهار نفس الحيوية والنشاط في الساحة العلمية والفكرية، لا سيّما وأنه قد حدث ركودٌ خطيرٌ في الحياة العلمية، فلم نعد نرى هذا العشقَ المفرِطَ للعلمِ والحقيقةِ والبحثِ والدراسةِ في الدولة العثمانية كما كان الحال في القرون الأولى للإسلام.. ومع ذلك فقد نثرت الدولةُ العثمانية -بتأثيرٍ من مكتَسَبات الماضي- ما في جعبَتِها من جواهر، وأنبتت ما في أرضِها من ثمارٍ يانعةٍ كان منها هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم آنفًا، لقد بذل هؤلاء جهدًا كبيرًا لتمزيق حُجُب الغفلة وأستار الأُلفةِ، وإنهاء حالة الجمود في الساحة العلمية والفكرية، والانتقال من التقليد إلى الإبداع والتحقيق، وإثارة الحماس لدى الناس من جديد، ومع ذلك لم تحدث صحوة جماعية في الحياة العلمية والفكرية، واستمرّ هذا الوضع حتى عصرنا الحالي.

والآن دعونا نتناول هذه المسألة من بعض الجوانب:

الحلول المستدامة

يمكن القول إن النفور من القراءةِ والبحثِ مرضٌ اجتماعي، وهو من أكبر العوامل في تأخير هذه الصحوة، كما أن مدى فهمنا لما نقرؤه هو مسألةٌ جديرة بالنقاش أيضًا، فكم منا يقرأ ويُخضِع ما يقرؤه للنقاش والنقد والتحليل، ويعقد المقارنات، ويحلل ويجمع المعلومات التي حصّلها! والأصعبُ من ذلك أن عدمَ القراءة وعدمَ التعلُّم وعدمَ الفهم بات لا يحرّك فينا الشعور بالانزعاج! لقد أصبحنا نقنع بالمعلومات السطحية أو التي تأتينا عن طريق السماع من هنا أو هناك، وكما قلتُ في البداية: لا ينبغي أن ننسى وسائل الإعلام وشبكات الاتصال الرقمية التي تسبّبت في هذه المشكلة والتي تستحوذ على الجميع اليوم.

قد تبدو هذه السطحيّة عاديّةً إلى حدٍّ ما بالنسبة للناس العاديّين، ولكن المؤسف أن المشتغلين بالعلم حتى لم يتخلّصوا أيضًا من هذه السطحية، فمثلًا لماذا لا يعرف الشخص الذي يعمل في مجال علم الاجتماع كلَّ ما هو ضروريٌّ لمعرفته حول هذا الموضوع؟! لماذا لا يقوم الشخص المتخصّص في الاقتصاد بتدريب نفسه جيّدًا في هذا المجال؟! ولماذا لا يفتح العلماء المتخصّصون في العلوم الإسلامية كالحديث والفقه والكلام آفاقًا جديدة للإنسانية؟!

طالما لم ينشأ مثقفون حقيقيّون يوجّهون المجتمع فلن يتحقّق أيُّ تطوُّرٍ جادّ.. فهذا الوضع يصبّ في مصلحة القادة المستبدّين الذين يريدون إدارة المجتمع كالقطيع، فهؤلاء لا يريدون للمجتمع أن يتعلّم ولا أن يكون مثقّفًا؛ لأنهم يعتقدون أن “رعيَ” و”قيادةَ” المجتمع الجاهل هو الأيسر بالنسبة لهم.. إنهم يريدون مجتمعًا يوافقهم الرأي، ويفكّر على النحوِ الذي يرغبون، ولا يستطيعُ ولا يفكّرُ في تجاوزِ الحدود التي وضعوها لهم، فهم يخشون المعارضة والنقد والاعتراض، وينزعجون من وجود أشخاصٍ يسيرون على الطريق الذي يعتقدون صحته، ويدافعون عن الحقيقة، ويتمرّدون على القهر والظلم؛ لأنهم يخافون من عجزهم عن قيادة مجتمع بهذا المستوى وإدارتِه وتوجيههِ في الاتجاه الذي يرغبون فيه.. ولنتذكّر دائمًا أن هؤلاء الإداريين المستبدّين يضطلعون بدورٍ مهمٍّ أيضًا في تخلّف المسلمين اليوم.

وإزاء ذلك فإنّ المهمّة التي تلقي بظلالها على عاتقنا هي إعلانُ الحربِ على كل أنواع الجهلِ والتعصّبِ والتقليدِ والسطحيّةِ وركودِ الهمم؛ وكذا استغلالُ كلّ الإمكانات التي بحوزتنا للقضاء عليها، ومن الضروري أن نبذل قصارى جهدنا لإثارةِ حماسِ الناس وعشقِهم للقراءة والبحث والتفكير من جديد، ولا ننسَ أن الجغرافيا التي نعيش فيها تحتاج إلى أنشطةٍ تأهيليّةٍ وإصلاحيّةٍ مستدامةٍ، وليس إلى إسعافاتٍ أوّلية مؤقّتة أو حلول تضميديّة أو مسكّنات قصيرة المدى، قد ننجحُ في إنعاش الناس إلى حدٍّ ما إذا جعلناهم يتنفسّون من خلال أسطوانات الأكسجين، ولكن هذا حلٌّ مؤقّتٌ قصير المدى، ولا بدّ للمشاكل المزمنة أن تظهرَ مرة أخرى طالما لم يُطبّق العلاج المطلوب.. وبالمثل تمامًا فثمّة حاجةٌ ماسّة إلى تبديد هذا الجوِّ المظلِم المملّ الخانق الذي نعيش فيه.

ومن يستطيعون تحقيق ذلك يكونون قد قدّموا فوائد جمّةً ومُسْتَدَامَةً للإنسانية، وتركوا من ورائهم ذكرى جميلةً، وهذا يتوقّف على مدى التعرّف الجيّد على العصر، والتشخيص الجيد للمشكلات والنوازل، ووضعِ الخطط السليمة لمعالجتها، ثم بذل الجهد والعمل الجادّ في هذا الاتجاه، لا بد من أن ننشئ قواعد متينة، ثمَّ نبني عليها مباني قوية؛ جديرةً بمواجهة العواصف المدمّرة ومقاومة الأمواج المتلاطمة.

 

أجر الصبر

Herkul | | العربية

“عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”[1]، كما أن حسناته وعباداته وطاعاته تكسبه أجرًا وثوابًا، فإنّ صبره ومثابرته في مواجهة المصاعب والمتاعب تُكسِبه أجرًا وثوابًا أيضًا، فعلى المؤمن إن أصابه مكروهٌ، أو نزلت به مصيبةٌ أو بليّةٌ تكدّره وتقضّ مضجعه أن يفكّر كيف يضخّ ثوابًا جديدًا في حوض أجره ومثوبته، وأن يسعى إلى الحصول على مرضاة الله. يقول الشاعر التركي “ضياء باشا”:

محكومٌ على كلِّ حيٍّ في هذا العالم تذوُّقُ الآلام
أروني إنسانًا عاش مرتاحًا بلا ابتلاءٍ أو أسقام

فما شَهِدَ التاريخ إنسانًا عاش دون ابتلاء، وكلٌّ يأتيه ابتلاؤه -قليلًا أو كثيرًا- حسب مستواه، ففي الحديث: “إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ”[2]، فأحيانًا يعيش الإنسان في وفرةٍ ورغدٍ من العيش، وأحيانًا أخرى يتعرّض للشدائد والمشقّات.. وأحيانًا يسير على الطريق المستقيم في راحةٍ واطمئنان، وأحيانًا أخرى يضطرّ إلى أن يتجاوز الطرق الوعرة والمنحدَرات وأن يعبر بحارَ القيح والصديد التي تعترض سبيله.. وأحيانًا يواصل رحلته في ثقةٍ وأمان، وأحيانًا أخرى يعترض طريقَه الأعداءُ.. الحياة هكذا دواليك، ولا بدّ للإنسان أن يمضي في سبيله وهو على وعيٍ بكلّ هذا.

 فواجبُنا هو الصبرُ في مواجهة الصعوبات التي تعترضنا على طول الطريق، ومواصلةُ السير دون اكتراثٍ لهذه الصعوبات والمشقّات، فقد يواجه الإنسانُ خلال رحلته أحداثًا مفاجئةً تصدمه، فعليه حينها ألا يهتزّ أو يهلع، وليحذرْ من الانزلاق في مسبّة القدر؛ لأن مفخرة الإنسانية صلوات ربي وسلامه عليه يقول: “إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى”[3]، وهذا يعني أن الصبر الذي يحظى بالقبول عند الله هو الصبرُ في أولى لحظاتِ وقوع المصيبة، حيثُ المشاعر في ذروة فورانها، ولم تُعرَفْ بعدُ أسبابُ الحادثة والحِكْمَةُ منها، فهنا تكمن الصعوبة؛ لأن الإنسان يمكن أن يقنع نفسه بالصبر بعد تأويله للحادث ومراجعته وتقييمه للأجر الذي سيناله نتيجة صبره، هذا أيضًا صبرٌ، ولكنه بالتأكيد لن يعادل الصبر الذي يكون عند الصدمة الأولى.

إن الصبر الذي عرّفه النبي صلى الله عليه وسلم يعود على الإنسان بثوابٍ يفوقُ ثوابَ أعظم العبادات، ويرقى به مرة واحدة إلى أعلى الكمالات وكأنه صاروخٌ انطلق لتوّه من منصّة الانطلاق، وبهذا الصبر أيضًا يجد المرءُ نفسَه في مصافِّ الملائكة الكرام، وبهذا الصبر أيضًا يرتقي الإنسان إلى أوج الكمالات الإنسانية.. وإنّ آهات المبتلين وزفرات أنفاسِ الصابرين لهي أرجى عند الله من أصدق الأدعية وأخلص أشكال التوسّل والتضرّع. يقول الشيخ “محمد لطفي أفندي”:

هل ثمة دواء أعظم من البلاء؟!
هل هناك سبب آخر للثواب والغفران؟!
هل توجد قيمة تُعادِل قيمةَ البلاء؟!
المبتلون يحبهم الرحمن

ومن ثَمّ يقع على عاتقنا أن نتوجّه إليه سبحانه متوسّلين متضرّعين أن يدفع عنا البلاء والمصائب التي نزلت بنا، وأن نعتبر كلَّ كارثةٍ تصيبنا -على الصعيد الفرديّ أو الأسريّ أو الاجتماعيّ- فرصةً للاقتراب من الله عز وجل، وأيًّا كان البلاءُ الذي نزل بنا فعلينا أن نعتبره إحسانًا بمختلف طول الموجات يرسله الله تعالى لحثِّ عباده على التوجّه إليه، فمرادُ الله تعالى من هذه البلايا أن يصل بنا إلى التوحيد الحقيقي، فنقوم الليل من أجله، ونذرف الدموع في حضرته.. إنه سبحانه يريد أن يرانا ونحن نتوجّه إليه بأنّاتنا وآهاتنا، ونتضرّع إليه سبحانه وتعالى بأدعيتنا وخشوعنا.. ولذلك من الضروري أن نحوِّل البلايا والمصائب إلى فرصةٍ للاقتراب من الله بدلًا من التذمّر منها.

ويمكن أن نفكّر على العكس من ذلك: قد تبدو بعض المكاسب الدنيوية التي نتحصّل عليها حلوةً خضرة بالنسبة إلينا، فمثلًا قد نطرب بتصفيق الناس وتقديرهم، ونستغلّ سيكولوجية الجماهير ونجرّهم وراءنا.. وقد نكون أصحاب مقامٍ وسُلطةٍ نتحكّم بهما في القوّة السياسيّة والاقتصاديّة، وننشئ من خلالهما سلطنتنا، لكن يجب أن نعلم جيّدًا أن كلّ هذا لا يَزِن عند الله جناح بعوضةٍ، فهذه كلُّها قد تكون فخاخًا وحيلًا شيطانيّة، فلو لم تستغلّوا الإمكانات والفرص المتاحة لكم في سبيل إقامة صرح روحكم فليس لكم من عملكم إلا المشقّة والتعب، وكلُّ شيءٍ لا يخدم غايتكم السامية عبثٌ وخداع.

ما هي غايتنا السامية؟ ما هي غاية حياتنا التي ينبغي ألا تغيب عن بالنا لحظةً واحدةً؟ أليست هي إعلاء كلمة الله؟! أليس تحبيبُ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس هو الغاية التي ألقت بنا في الطرقات وشكّلَت سعينا نهارًا وآهاتنا ليلًا؟! أليست هي تحفيز القلوب على الوصال به سبحانه وتعالى عن طريق كسر الحواجز وإزالة العقبات بين الله والعباد؟! أجل، لا قيمة عند الله للسلطنات الدنيويّة ولا تعدل عنده جناح بعوضة، أما الخدمات الصغيرة التي تؤدَّى في سبيل إعلاء كلمة الله فإنها تفوقُ الجبالَ وزنًا عند الله سبحانه وتعالى.

فإن سلكتم هذا الطريق، وحصرتكم همّتكم على تحقيق هذه الغاية، وبذلتم وسعكم في هذا السبيل؛ فلن تعوقكم التعرّجات، ولن تضلّكم المنعطفات، ولن تنخدعوا بمكر الشيطان ودسائسه، ولن تغرّكم أنفسكم، ولن تستسلموا لأنانيّتكم، ولن تنهزموا أمام رغباتكم ونزواتكم، فإذا كانت حياتكم قائمةً على الغايات والمثل العليا فستكون عاقبتكم على ما حَيِيْتُمْ عليه، ثم تستقبلكم الملائكة بالتحية والترحاب قائلةً: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين).. فهل تفضّلون الدنيا وزينتَها وأبّهَتها أم احتفاءَ الملائكة ومباهاتها بكم؟! وهل تفضلون أن تسيروا في طريقٍ ينتهي بكم إلى قبرٍ مظلِمٍ أم في طريقٍ ينتهي بكم إلى أجواء مليئةٍ بالبهجة والسرور؟! هل تريدون أن تتبعوا خطوات الشيطان أم هديَ الحبيب صلى الله عليه وسلّم؟! يجب على الإنسان أن يحسن الاختيار منذ البداية، فينتخب الطريق الصحيح الذي يسير فيه، فإذا ما اختار طريقه أولًا فلن يكون هناك داعٍ للخوف والقلقِ من أيِّ شيءٍ.

ومعلوم لدى الجميع أن الأعداء يشعرون بعدم الارتياح لسير الناس في سبيل الله، ويبذلون قصارى جهدهم لردعهم عن الطريق الذي يسيرون فيه ويضعون لهم العصيَّ في العجلات، ويرونهم حقيقين بكلّ أذًى واضطهادٍ، ويسعون ما استطاعوا إلى الإساءة إليهم.. فما انقرضَ الظالمونَ يومًا، وكما تقول العبارة المشهورة: “إن لكل موسى فرعونًا”، فكم من فرعونٍ ونمرودٍ وقفَ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكم اضطرّ السلفُ الصالح إلى مكافحة المفسدين والظالمين! وإذا ما نظرنا إلى تضرُّعات المجدّدين العظام فيما بعد -وهم في حالة الاضطرار- فسندرك كم كان هؤلاء أيضًا يعيشون في كربٍ دائمٍ!

إن الوفاء بحقِّ دائرة الأسباب هو ما يقتضيه احترامنا لأوامر الله التكوينيّة، لكن السائرين في طريق الأنبياء لا بدّ أن يتعرَّضوا لما تعرَّضَ له أنبياؤهم من ظلمٍ وطغيانٍ، فواجبُنا بعدَ بَذْلِ الجهد أن نتحلّى بالصبر الجميل إزاء هذا كلّه. يقول الشاعر “إبراهيم تنوري”:

ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ!
وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ!
فكلاهما للروح صفاء
فما أحلى لطفه! وما أعذب قهره!

وثَمَّة حكمةٌ جميلةٌ تقول: “الصبرُ هو المفتاح السرّي للوصول إلى الخلاص وتحقيق المأمول”، فمن ظفرَ بهذا المفتاح نجح في فتح العديد من الأبواب بإذن الله.

الخلاصة: قد يكون هناك غُولٌ يتربّص بنا في كل زاوية، وقد تنهال علينا المصائب والبلايا من كلِّ ناحية، وما يجدرُ بالمؤمن في هذه الحالةِ هو أن يتحلّى بالصبرِ ورباطةِ الجأش والثقة، ويتحمّل الشدائد والمشقّات، وألّا يسمح للذعر بالتسلّلِ إلى قلبه ولا ينكص على عقبيه.. وعلى الجانب الآخر فقد تُظْهِرُ الدنيا مفاتنَها وحلاوتها وخضرَتها؛ فالجديرُ بالمؤمن أن يصبرَ أيضًا على مفاتنها وألّا يتعلّق بلذائذها المؤقّتةِ الزائلة، وأن يواصل سعيه في سبيل إقامة صرح روحه.. فلا بأس في حياةِ الفقر والعَوَزِ، ولا بأسَ في الرحيل عن هذه الدنيا الفانية بلا مالٍ أو مُلْكٍ، أو أن تعترض حياتَنا الشدائدُ والصعابُ، المهمُّ هو أن نخرجَ منها غانمين فائزين.

[1] صحيح مسلم، الزهد والرقائق، 64.

[2] مسند الإمام أحمد، 45/10.

[3] صحيح البخاري، الجنائز، 32، 43؛ صحيح مسلم، الجنائز، 14، 15.

استغلال الظلم والطغيان لصالحنا

Herkul | | العربية

استثمار الظلم والاضطهاد

سؤال: يشيع الظلم والاضطهاد في معظم أرجاء العالم الإسلامي، فماذا يعني كل هذا بالنسبة لنا؟ وما الذي يجب القيام به إزاء المشهد الحالي؟

الجواب: لا جدال في شيوع الظلم والاضطهاد والاستبداد والتحكم والتسلط والقمع في شتى أرجاء العالم الإسلامي اليوم ولو بمستويات مختلفة، وليس هذا بجديد، بل هي مشكلة قائمة منذ قرنين أو ثلاثة، ويمكن القول إن العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن وهو يرزح تحت نير الاحتلال، ربما انتهى الغزو المعلَن أو ما يُسمى بالاستعمار، ولكن تلاه غزو خفي وهذا أخطر وأشدّ منه بكثير، فالقوات الاستعمارية لم تدع المسلمين وشأنهم؛ ذلك أنهم فتحوا المدارس، ونفذوا مشاريع مختلفة، وربوا من خلالها أشخاصًا يرونهم قادرين على تمثيل أفكارهم الخاصة، وأبرزوهم وقدموهم على أنهم النخبة المثقفة في تلك الدول، وقلدوهم أكثر المناصب حيويةً في الإدارة والاقتصاد والبيروقراطية والإعلام… إلخ، وعهدوا إليهم بالوظائف الحساسة والمواقع الإستراتيجية، إلى أن جعلوا على رأس هذه الدول رجالَهم الموثوقين لديهم في شتى أرجاء العالم، وتحكموا في مقدرات هذه البلاد من خلالهم.

لقد سبق وأن طرحت رأيي حول مصطلح العالم الإسلامي في مناسبات مختلفة، فالرأي عندي أنه لا يوجد الآن ما يُسمَّى بالعالم الإسلامي؛ فعند النظر إلى الوضع العام للمسلمين اليوم لا تقع أعيينا على جماعات إنسانية مثالية، منفتحة الأفق، تتسم بالنظام والانتظام، لها غايات سامية، ومظاهر أنيقة، وأهداف رصينة، أو لها إنجازات سابقة تنبئ عما يمكن إنجازه في المستقبل، وكأنها راضية بما تتعرض له من بؤس وتشرّد وظلم واضطهاد، ففي ظل هذا الوضع لا نستطيع حتى استثمار الظلم والاضطهاد اللذين نتعرض لهما لصالحنا؛ ولهذا فإنني أخشى أن أسيء الأدب مع الإسلام عندما أنسب مثل هذا العالم إليه قائلًا: “العالم الإسلامي”.

كان من المتوقع أن يتسبب كلُّ هذا الألم والآهات في ظهور صحوةٍ ما، وكان من المنتظر أن يُثير الظلم والاضطهاد انفعالاتنا، وأن يشحذا إراداتنا، وأن يحفّزا فكرة الرجوع إلى القيم الذاتية لدينا، وأن يكونا بمنزلة المنارة التي تهدينا إلى الطريق القويم.. ولو حدث هذا لقلنا إننا خرجنا رابحين من أتون الظلم والاضطهاد؛ لأنه لا يُعدّ خاسرًا من يقدّم واحدًا اليوم ويربح عشرةً غدًا.. إن هذه البلايا والمصائب تقول لنا أحيانًا بلسان حالها: “لقد حَبَوْتم بما فيه الكفاية، فهيا عودوا إلى رشدكم، وقوموا واستووا على عودكم”. وهناك مثلٌ يشيع على ألسنة العامة يقول: “أحيانًا تكون المصيبة الواحدةُ كفيلةً بتعليمنا ما عجزت عنه ألفُ نصيحة”؛ أي إن من يحسن قراءة الرسالة التي تأتي بها المصيبة ويتعلّم ويعمل بمقتضاها لا يُعدّ خاسرًا.

انطلاقًا من هذه التجارب المؤلمة التي عشناها يجب أن نحسن تحديد وتشخيص ما نحتاج إلى الحصول عليه فيما بعد، فحتى الآن لم ندع بابًا ما طرقناه ولا قائدًا لم نجرِ خلفه، ولكن في كلِّ مرّة نرجع صفر اليدين، ولا نستطيع الحصول على ما نأمله.. فكانت طريقُنا دائمًا وعرةً يصعبُ السيرُ فيها؛ لأننا كنّا نحاول -باستمرارٍ- الوصولَ إلى الهدف بأساليب الآخرين وبوصلتهم، والواقع أن هذا كلّه يقول بلسان حاله: “كفى تجوالكم في الأودية الأخرى، فقد فعَلْتُم ما فعلتم ولكن لم تجدوا بغيتكم، فارجعوا إلى دينكم من جديد، وعودوا إلى مصادركم الذاتية، وستجدون ما تأملون”.

 حاصل القول: إن الخسائر التي مُنينا بها حتى اليوم هي نتيجة ابتعادنا عن قيمنا الذاتية، والطريق الأمثل لتلافي هذه الخسائر هو العودة إلى قيمنا الذاتية مرة أخرى.

من جانب آخر إن الإنسان إذا تمكّن من إدراك المشاكل والأزمات التي يعيشها بعمقها الذاتي فسيشعر أنه وقع في مأزقٍ، فإذا وعى ذلك بدأ ينتفض للتخلّص من هذا الوضع، أما المؤمن فيأخذ في التوسّل والتضرّع إلى الله بشكلٍ غير مسبوق.. وهكذا فإننا إذا توجهنا إلى الله بعجزنا واضطرارنا فسنكون قد سلكنا وسائل الكسب من جديد، وبرجوعنا إليه تعالى مرة أخرى -وهو المعبود بحقٍّ والمقصود بالاستحقاق- نكون قد نجونا من السير على غير هدًى بلا معبد أو معبود، وحينما تنقطع الأسباب كلّيّةً، ونشعر بعجزنا تمامًا نتوجّه إليه سبحانه وتعالى، ونبثّه شكوانا، وننتظر المدد منه فقط لا من أحد سواه، فهو ملجأُ العاجزين وملاذ المضطرين.

فلو أثار الظلم والاضطهاد فينا مثل هذه الأفكار وحرّكانا في هذا الاتجاه لكنا استغللناهما لصالحنا، ولكن للأسف أثار الضغط والقهر والظلم في المسلمين العنفَ والتعصّبَ أحيانًا، وشجّعت على ذلك بعضُ الدوائر التي أساءت استخدام إحساسنا بالقهر والاضطهاد، ولذلك ظهرت بعض المنظمات الإرهابية والعمليات الانتحارية دون النظر إلى جواز ذلك في الدين أم لا! ودون اعتبار هل يمكن الوصول بذلك إلى الهدف الصحيح أم لا؟! والحال أن كلّ هذا لم يزد الأمور إلا سوءًا، ولم يُفِد إلا في زيادة المظالم والاضطهادات القائمة ودوامها؛ لأنه من الواضح أن الأهداف الصحيحة لا يمكن الوصول إليها بالطرق والأساليب الخاطئة.

ومن ثَمَّ لا بد التركيز على نوعية الطريقة والإستراتيجية التي يجب اتباعها من أجل الخروج من الأزمة التي نتخبط فيها، والتغلب على مشكلة الهوية التي نعيشها، وإعادة تهيئة أنفسنا وترتيبها من جديد، فإن لم تُحدّد الطريقة الصحيحة للنضال أو تُوجّه قوة المسلمين وطاقتهم في الاتجاه الصحيح؛ فإن الخطوات المتخذَة قد تؤدي إلى عكس الهدف. وفي هذا الصدد وضع لنا بديع الزمان سعيد النورسي منهجًا ذا أهمّيّةٍ بالغة؛ ركّز فيه على مسألة الإيمان، وأكّد على التحرّك الإيجابي، وشدّد على ضرورة إدخال السيف المادّي في غِمده، مشيرًا إلى أن الغلَبَةَ على المدنيين إنما تتحقّق بالإقناع لا بالضعط والإجبار”[1].

أجل، إن أول ما يجب القيام به في هذا الخصوص هو تجهيز كلّ فردٍ بالإيمان تجهيزًا كاملًا، فالذين يؤمنون بالله ويرتبطون به من صميم قلوبهم يتحرّكون وفقًا للمبادئ التي غرسها الإيمان في قلوبهم، وينشرون الأمان ويبثّون الثقة فيمن حولهم، فلا يكونون بيدقًا لأحد، ولا يتقبّلون الأفكار التي تتعارض مع مشاعرهم وأفكارهم، ولا تنطلي عليهم حيلة أحد، فإن اضطروا إلى مكافحة الدوائر المجبولة على العداء واصلوا كفاحهم في نطاق الإطار الذي حدده الدين.. لا يفكّرون في الموت أو القتل، بل يحرصون على الحياة من أجل إحياء الآخرين.

الأساس في ديننا هو الحياة والإحياء، فالموت في حدّ ذاته ليس بمهارة أو دهاء، إن الإنسان في الحرب لا يحارب من أجل الموت، فالأصل هو الحفاظُ على “الدين والنفس والعقل والنسل والمال “، وحمايةُ صرح الإسلام، نحن لا نسعى للموت ولكن إذا ما لاح أمامنا أثناء الحفاظ على هذه الأشياء أقدمنا عليه وألقينا بأنفسنا في أتونه، فالموت في هذا السبيل يعني قيمة كبيرة، فإذا ما ظهرت صحوةٌ عامةٌ في أي مكانٍ بالعالم فنحن على استعدادٍ للتضحية بأرواحنا جميعها ولو كان لأحدنا ألف روح، لكن استهدافَ الموتِ بشكل مباشر قد يكون أحيانًا هروبًا إلى الأيسر، فالأصل هو السعي للانبعاث كلَّ يومٍ في سبيل إحياء الآخرين، فعلى الإنسان أن يستثمر الحياة وما فيها من فرصٍ هيأها الله له حتى يُكسبها -أي الحياة- قيمتها الحقيقية، ولا يبيعها بثمن بخس، وليحقّق بفضلها غايةً ساميةً هي خيرٌ من الدنيا وما فيها.

فمن المتعذّر أن نستعيد كرامتنا التي فقدناها بأناسٍ لم يصلوا إلى الكمال في الإيمان، ولم يتجهّزوا بما فيه الكفاية من حيث الدين؛ أي لا يستهدفون غايةً ساميةً، ولا يعرفون العالم الذي يعيشون فيه، ولا يدرون ما هي الآداب والأركان، ولا بأناسٍ يبتغون كلَّ شيءٍ جاهزًا؛ همّتُهم ضعيفةٌ، وقلوبُهم خاوية، ولهذا السبب ما زلنا نعيش في الظلم والطغيان، ولا نستطيع أن نستغلّهما لصالحنا.. فعلى الرغم من وجود أشياء إيجابية قد تمّ إنجازها هنا وهناك، فإنه من الواضح أننا لم نستطع القيام بما ينبغي.

وإن السبيل إلى تحسين هذا الوضع المؤسف هو التحلّي بالإيمان السليم والفكر المستقيم، إلى جانب العمل بحزمٍ وعزمٍ وإصرار واعتدال.

[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: سيرة ذاتية، ص 116.

مرض الكبر

Herkul | | العربية

الكبر داء عضال، أضلَّ الشيطانَ، وجعله يحيد عن الطريق القويم، وما زال يغوي تلامذتَه وأتباعه في كل عصر وحين.. بل يمكن القول: إن الشيطان يتوسّل بهذه الصفة الشنيعة التي أبعدته عن ربه لإغواء تلامذتِه وإضلالهم، فيزيّن لهم أنفسهم حتى يروها كبيرة، ويستولي عليهم جنون العظمة شيئًا فشيئًا، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يرغبون في أن يعترف الآخرون بعظمتهم، وأن يتوجهوا إليهم بالتصفيق والتهليل، وأن يُسمعوهم كلمات المديح والإطراء والمداهنة.

لا جرم أن الكبر مرضٌ نفسيٌّ وداءٌ قلبيٌّ، وليس من السهل لمن أصيب بهذا المرض ونخرت جرثومتُه في بنيته أن يظلَّ راسخًا وثابتًا على إيمانه؛ لأن الكبر من أخطر العقبات التي تحول دون دخول الإنسان إلى الدين، كما أنه عقبةٌ كؤودٌ تمنع الإنسان من الثبات على الدين، وإن هؤلاء المتكبرين لَيتجوّلون في وديان النفاق تارةً، ويتدحرجون رأسًا على عقبٍ في مهاوي الكفر تارة أخرى.

أجل، قد يبدو هؤلاء الذين أصيبوا بداء الكبر مسلمين شكلًا وقالبًا؛ يفعلون ما يفعل المسلمون، يصلّون كما يصلّون، ويصومون كما يصومون، ولكن صلة الأغلبية منهم بربهم إما ضعيفة للغاية وإما لا توجد تمامًا؛ لأنهم غافلون لا دراية لهم بماهيتهم، جاهلون لم يستطيعوا التعرّف على ربّهم بحق، مخدوعون لم يستطيعوا تحديد العلاقة بينهم وبين ربهم بشكلٍ صحيحٍ.

إن الصفات المذمومة مثل العُجب والفخر والغرور والكبر -على حد تعبير الإمام الغزالي- من المهلكات؛ أي إنها جراثيم تودِي بالإنسان إلى المهالك والكوارث، فإذا مرض الإنسان وانهزم أمام هذه الجراثيم فلن يُنجيه ذهابُه إلى المسجد وصلاتُه وصيامُه من العاقبة الوخيمة؛ لأن في وجود هذه الأمراض استجلابًا واستدعاءً لأمراض أخرى.. فهؤلاء الحمقى المتغطرسون الذين اعتادوا النظر إلى الآخرين من برجٍ عاجي ينتقلون من مرضٍ إلى آخر، ويدورون في دائرة مفرغة من الأمراض، فإذا ما أبحروا في مثل هذا المحيط أو بالأحرى في مثل هذا الغي مرةً؛ لا يمكنهم الرجوع مرة أخرى، ولا يستطيعون التخلّص من ذنوبهم الفكرية والبدنية التي ساقهم إليها كبرهم.. حفظنا الله!

الإسلام الحقّ

التواضع والخجل ونكران الذات مبادئُ أساسيةٌ ومهمّة للغاية في الإسلام.. لا سيما لمن كرّسوا حياتهم لخدمة الإيمان والقرآن، وذلك كي يعرفوا مكانتهم عند الله عز وجل، ويكونوا على دراية بفقرهم وعجزهم، ويكونوا قادرين على إنكار ذواتهم باستمرار، ويتحاشوا أيّ ادعاء أمام الله، ويتحلّوا بالتواضع، ويخفضوا أجنحة التواضع لجميع المخلوقات، حتى إذا ما وقفوا أمام المرآة، ونظروا إلى أنفسهم أو شاهدوا أنفسهم في مرايا وجدانهم بحسب بنيتهم الداخلية قالوا: “ألف ألف الحمد لله على هذا القدر الذي وصلتُ إليه، وكان من الممكن ألا أبلغه، فالحقّ أنني أقف بعيدًا عن الإنسانية الحقّة والإسلام المثالي، فشتّان ما بيني وبين الإسلام، وهيهات بين ما وضعني الله فيه وبين ما أتجول فيه الآن”.. ولكن من المهمّ ألا تكون هذه المشاعرُ مُصطنَعةً أو مجرّد كلامٍ يتفوّه به اللسان، بل يجب أن تكون نابعةً من صميم القلب.

والواقع أن وقوف المؤمن أمام الله خمس مرات في اليوم، وركوعه وسجوده له سبحانه وتعالى؛ رموزٌ تشير إلى التواضع ونكران الذات، والإنسان من خلالها يتذكّر موقعه أمام الله، ويدرك أن الكبر والغرور لا يليقان به؛ لأن الكبرياء والعظمة من صفات الله عز وجل.. وفي الحديث القدسي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ”[1]؛ لأن من يدّعي الكبر أمام الله يكون كمن جعل نفسه شريكًا مع الله.. بناءً على ذلك ينبغي لنا ونحن نصلّي أن نستشعر في وجداننا كلَّ المعاني التي تذكّرنا بها الصلاة، وأن نجعلها صدى قلوبنا، وجزءًا لا يتجزّأ من طبيعتنا.

أما من لم يستطع أن يجعل التواضع ونكران الذات جزءًا من طبيعته؛ فلن يستطيع أن يحدّد موقعه بشكلٍ صحيح، أو يعيش حياةً محورُها المحاسبة والمراقبة، وبالتالي لا يستطيع أن يرى أخطاءه وعيوبه، وطالما لم يستطع أن يراهما فسيظلّ يبحث عن المذنب في الخارج، ومن لا يرَى عيبَ نفسه يبحث عن عيب غيره، ومثل هذا الشخص يتخبّط في دوّامة الأنانية، ويلجأ إلى شتّى السبل للتّستّر على عيوبه وقصوره، وعند اللزوم يضع أجندات مصطَنَعةً، ويبحث عن مذنبين جددٍ، ويلقي بالتبعة عليهم، ويُشغل الرأي العام بهم، غرضُه من ذلك أن يوجّه الأنظار إلى اتجاهات أخرى حتى لا ينقِّب أحدٌ عن مساوئه، ويتهرّب من الأخطاء والذنوب التي اقترفها بشكلٍ أو بآخر.

المنافق أشدّ خطرًا من المشرك

بعض الأشخاص يحملون مرض النفاق بجانب الكبر، وكلُّ واحدٍ منهما يغذّي وينمّي الآخر، لكن أخطر هؤلاء الأشخاص هم الذين يُضمِرون العداء للإسلام والمسلمين رغم أنهم يشهدون الصلاة ويتظاهرون من المسلمين؛ لأنه من الصعوبة بمكان التعرّف على هؤلاء بوجوههم الحقيقية، وإننا لا نسيء الظنّ بمن يزاحموننا في الصف الواحد، ويركعون ويسجدون معنا، ويطوفون حول الكعبة ويعتمرون معنا، فمظهرُهم الصالح يخدعنا ولهذا كانوا أخطر أعداء الدين.

لقد عانى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة من أعداءٍ على شاكلةِ أبي جهل وعتبة وشيبة وابن أبي معيط، ولكن المعاناة تضاعفَتْ عندما انتقل إلى المدينة، فبعدَ أن كان يواجه الكفر الواضح بات يواجه المنافقين من ذوي الكفرِ الخفيّ وعلى رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقد كان يشهد الصلاة مع الصحابة رضوان الله عليهم، ويقول بما يقول به المسلمون، ويفعل ما يفعلون، وبالتالي لم يستطع أحدٌ أن يميّز هل الكلمات التي تنطلق من بين شفتي مثل هذا المنافق نابعةٌ من صميم قلبه أم لا؟!، إذ لا بدّ من فطنةٍ نبويّةٍ يمكنها التعرّف على حقيقة هؤلاء المنافقين؛ لأن هؤلاء كانوا ماهرين في التخفّي والتمويه، يتظاهرون أنهم ملائكةٌ رغم أنهم شياطين في الحقيقة، ولهذا كان يصدّقهم الكثير من الصحابة، فإذا ما همّ أحدٌ بمعاقبة المنافقين؛ دافعوا عنهم قائلين: “كيف تفعلون هذا بأخ ٍ لنا من المؤمنين؟!”.

إن ممّا يؤسَفُ له أنّ الكبر والنفاق انتشرَا كثيرًا في عصرنا الحاضر الذي يسميه بديع الزمان سعيد النورسي بعصر “السفياني”.. ولهذا العصر مراحل مختلفة لا يمكن الجزم متى ستنتهي، فستظل هذه المراحل وتدوم حتى اللحظة التي يتنبّه فيها المؤمنون ويميزوا بين الحقّ والباطل، ستظلّ شبكة النفاق تستميل المسلمين السذّج، وتجرّهم حيث تريد، وتستخدمهم وتجعلهم يفعلون ما تتمنّى، وبالطبع ستضيع أجيالٌ عديدة في هذه الفترة.

لهذا السبب فإننا بأمسّ الحاجة إلى الإنسان الذي ينقصم ظهره تواضعًا ومحوًا أمام الله، الذي يعنّف نفسه ويوبخها باستمرار، فالمؤمن الحقّ الذي يؤمن بالله صدقًا لا يأخذُه الغرور من عبارات المدح والثناء التي تنهال فوقه، بل إنه يعتبر المديح إهانةً وسُبةً له، ويشعر بالحرج عندما يُصارَح بنجاحاته التي حقّقها؛ لأنه يعلم أن صاحب كلّ هذه النجاحات هو الله سبحانه وتعالى، والذين يخدمون الإنسانية ويحاربون النفاق والسفيانية هم أبطال التواضع هؤلاء.

[1] سنن أبي داود، اللباس، 29؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 16.

الانسلاخ من الأنانية

Herkul | | العربية

يذكر بديع الزمان سعيد النورسي في إحدى رسائله أن هذا العصر هو عصر الأنانية، ويوصي المسلمين بإذابة ﺃﻧﺎﻧﻴﺘهم ﻛﻘﻄﻌﺔ ﺛﻠﺞٍ ﻓﻲ حوض الشخص المعنوي المترشّح من المجموعة[1]، وبالرغم من أن إذابة الثلوج في القطبين -الشمالي والجنوبي- تضرّ بالتوازن البيئي إلا أن إذابة ثلوج الأنانية على العكس من ذلك، فلها منافع عديدة في حفظ التناغم على الأرض وسلامة المجتمع؛ لأن تفاقمَ الأنانية وتضخُّمَها سببٌ رئيسٌ من أسباب الصراعات والاضطرابات والخلافات في الأسرة والحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية.

وإذ يُشبّه بديعُ الزمان الأنانية بِكُرة الثلج فإنه لا يقتصر على الإشارة بأن إذابة الأنانية هي الهدف دونما توضيح، بل ويرشدنا إلى كيفية تحقيق ذلك فيقول: “منذ ثلاثين سنة وأنا أصارع طاغوتين: “أنا” في الإنسان، و”الطبيعة” في العالم، فللّه الشكر والحمد، وبتوفيق الأحد الصمد، وبفيض القرآن المجيد؛ تمخّضت المصارعة عن قتل الطاغوتين وكسر الصنمين”[2].

ولم يكتَفِ من هذه المسألة بِبَسْطِها نظريًّا، بل جسَّدَ عمليًّا بمعيشته وأطواره وسلوكياته السبيل إلى العبودية الحقة والتواضع ونكران الذات.. لقد حرّر مؤلَّفات خالدةً تهدف إلى إنقاذ إيمان الأجيال، وتوضّح لهم السبيل، ومع ذلك لم ينسب شيئًا إلى نفسه من هذه المؤلفات، بل كان يخاطب نفسه دائمًا بمثل هذه الكلمات التي لا تحتاج إلى مزيدٍ من الشرح والتحليل: “فيا نفسي! لا تقولي: إنني مظهر الجمال، فالذي ينال الجمال يكون جميلًا. كلا، إنكِ لم تتمثّلي الجمال تمثُّلًا تامًّا، فلا تكونين مظهرًا له بل ممرًّا إليه.. ولا تقولي أيضًا: إنني قد اُنتُخبتُ من دون الناس كلهم، وهذه الثمرات إنما تظهر بواسطتي، بمعنى أن لي فضلًا ومزيّة! كلا، وحاشَا لله، بل قد أُعطيتِ تلك الثمرات لأنكِ أحوج الناس إليها، وأكثرهم إفلاسًا وأكثرهم تألّمًا”[3].

ومؤلفاته المعروفة بـ”رسائل النور” مشحونة بمثل هذه المحاسبات والمواجهات مع النفس.. فمثلًا يقول في موضع آخر: “يا نفسي المرائية! لا تغترّي قائلة: إنني خدمت الدين، فإن الحديث الشريف صريحٌ بـ”أَنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ[4]، فعليكِ أن تعدّي نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لأنكِ غير مزكَّاة”[5].

وما أقلّ الذين يجاهدون أنفسهم ويصارعونها ويسعون إلى تربيتها وتزكيتها مثل بديع الزمان! أحيانًا كان الأستاذ النورسي يتحدّث بنعم الله تعالى وفضله عليه، فيظنّه البعض -ممن لا يعرفونه- أنه يفعل ذلك افتخارًا ورياءً، والحال أنه رجل التوحيد الكامل الذي بلغ الذروة في عدم الاعتداد بالنفس، وعدم الاكتراث بها، وفي نسبةِ جميع الجماليات والألطاف إلى صاحبها الحقيقي، وما كان يهدف من تحديثه بنعمة الله عليه توجيهَ الأنظار إليه، بل تقوية الروح المعنوية لأولئك المحيطين به الذين يعيشون تحت الضغط والاضطهاد.

والواقع أن أصل العديد من المشاكل الأخلاقية والبشرية هو الابتعاد عن الله وعدم الالتزام بما يجب تجاهه؛ لأن من لا يعرف الله ولا يدرك عظمته وكبرياءه يداخله الكبر والغرور، ويتوهّم العظمة في نفسه، ولهذا أكد بديع الزمان سعيد النورسي في مؤلفاته على الإيمان بالله ومعرفة الله ومحبة الله، وحاول تعريف العباد به سبحانه وبأسمائه وصفاته. أجل، إن من يصل إلى شعور إيماني عميق بحقّ الذات الإلهية يرتقي في مدارج حياة القلب والروح، وينسلخ من الأنانية.

إن جوهر العبودية يتجلّى في قدرةِ الإنسان على تحديد وضعه وموقفه بشكلٍ صحيحٍ إزاء الحقّ سبحانه وتعالى، وشعورِه بعجزِه وفقره، وإدراكِه أنه لا شيء أمام الله تعالى الذي هو كلّ شيءٍ.. قد يسيء البعضُ فهمَ هذا ويرى أنه معقَّد، لكنّنا لا نتكلّم عن موقفنا تجاه هذا أو ذاك من بني البشر، وإنما نحاول تحديد موقفنا تجاه الخالق سبحانه وتعالى صاحب القدرة المطلقة والإرادة غير المحدودة، الذي يقلّب السماوات والأرض كحبّات السبحة؛ لنؤكّد على أننا لا شيءَ بالمقارنةِ مع الأبدي السرمدي اللامتناهي جلَّ شأنُه، وأن كلّ ما نتمتّع به من جماليّات ناشئٌ عنه سبحانه وتعالى.

فإن كنا نريد أن نتخلّص من هذا الجوّ الضيّق الخانق للأنانية فعلينا أن ننوِّر مجالسنا بذكر الحبيب المحبوب سبحانه وتعالى على الدوام، وأن ننسى أنفسنا، ونربطَ كلَّ شيءٍ به جلَّ وعلا، وأن تتعلّق أنظارُنا وقلوبنا به سبحانه وتعالى، فالقضايا التي لا علاقة لها به تعالى هي قضايا ثانوية مهما بدا حجمها كبيرًا، وقيمةُ القضايا الثانوية في الواقع تعتمد على مدى ارتباطها بالله سبحانه وتعالى.. إننا نجتمع أحيانًا ونتذاكر بعض القضايا لساعات طويلة، ولكن إن لم يَدُرْ حديثُنا حول الحقائق الإلهية للحبيب سبحانه وتعالى؛ فستظهر الأنانية، وستلوحُ في الأفق المواقفُ النرجسيّة، وينشأ التوتّر، وتُنزع البركة، ولا يُتوصَّل إلى النتائج المرجوّة.

فإن أثريتم مجالسكم وعمّقتموها بالقرآن والذكر والعبادات والطاعات والتفكّر والدعاء ومطالعة الكتب فسيضفي الحقُّ سبحانه وتعالى أبعادًا متنوّعة على عزمكم وجهدكم وإصراركم وسعيكم، ويوفّقكم سبحانه إلى تحقيق الأمور التي عزمتم عليها وجعلتموها غايتكم المثلى.. إنني لا أريد أن أسيءَ الظنّ بالآخرين فأقترف ذنبًا، ولكن عليّ أن أقول: إن لديّ قلقًا ومخاوف بالغة بشأن استمرار اجتماعاتنا ومباحثاتنا واستشاراتنا على هذا المنوال؛ حيث يخيَّل إليّ أننا لا نستطيع حبك نسيج أفكارنا بذكر المحبوب سبحانه وتعالى.. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم قدرتنا على التخلّص من الأنانية، وإلى محاولتنا ردَّ كلِّ شيءٍ إلى أنفسنا، وانشغالِنا بأفكار نفسيّة مزاجيّة؛ ولذلك لا نجد بركةً فيما نقوم به من أعمال.

بناءً على ذلك لا يمكن القول إننا بذلنا جهدًا كافيًا للتخلّص من الأنانية، وجعلِ التواضع ونكران الذات جزءًا من طبيعتنا.. ربما لا يدرك الكثيرون ما يحملونه من أنانية، ولذا لا ينزعجون منها، ولا يبذلون جهدًا ولا يعملون على أنفسهم للتخلّص منها. أجل، كم إنسانًا رفع يديه إلى الله قائلًا في تحسّر وتضرّع: “إلهي! ما لي غيرك! فخلّصني من براثن هذا الوحش المسمى بالأنانية!”.. وفي الحقيقة فقد كانت هذه هي أهمّ وظائف التكايا والزوايا قديمًا؛ لقد كان الناس فيها يقومون بمجاهداتٍ وخلواتٍ ورياضاتٍ روحيّةٍ وسَيرٍ وسلوكٍ وغير ذلك من أجل التخلّص من أنانياتهم التي شكّلت جدارًا سميكًا بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

لا سبيل للوصول إلى الله طالما لم يتخلّ الإنسانُ عن نفسه، أما المهووس بنفسه، الذي يعيش في عالمه الخاص، ويتحدّث عن نفسه في حلّه وترحاله؛ فلا يمكن أن يصل إلى المعيّة الإلهية.. فلو كنا نريد أن نجد الله في قلوبنا ونتوجّه إليه بكلّ كياننا فلا بدّ أن نتخلّص من كلِّ العقبات التي تحول بيننا وبينه تعالى.. فلو كنا نرجو القرب والمعية -لا سيما في هذا العصر الذي أُلِّهت فيه الأنانية- فعلينا أولًا أن نبذل جهدًا مضاعَفًا من أجل الانسلاخ من براثن الأنانية.. لقد تخلّفنا -مع الأسف- عن الطرق التي ينبغي قطعُها معنويًّا لأنّنا لا نتعامل مع هذه الأمور بحقيقتها وحجمها الحقيقي.

ونظرًا لأننا لم نفكّر في هذا الأمر بما فيه الكفاية، ولم نمرِّرْ أقوالَنا وأعمالنا من مصفاة المحاسبة والمراقبة؛ لم نستطعْ أن ندرك كيف تسلّلت الأنانية بخبثٍ إلى أكثر نوايانا صدقًا، وأعظم عباداتنا إخلاصًا، وأكثر خدماتنا تضحيةً وفداءً.. إننا لا يمكن أن نفوز بالإخلاص أو نسْلَم من وساوس النفس دون جهادٍ دائمٍ وعميقٍ، المهمّ هو أن نُخلِص في الأعمال الصالحة التي نقوم بها، فوصولُ الأعمال إلى قيمةٍ تعلو القيم عند الله تعالى يعتمد على هذا الأمر، وكلُّ ما سوى ذلك عبثٌ لا طائل من ورائه بالنسبة للمؤمن، فالأصل هو مرضاة الله تعالى ورضاه والفوز بمحبته.. فيجب على الإنسان أن يستهدف هذه الغاية طوال حياته، وأن يسعى وراءها على الدوام، فإن ركّزنا كلَّ رغباتنا وطلباتنا على هذه النقطة، ونجحنا في تحقيق ذلك؛ فستتفتت أنانيّتنا، وتذوب وتتلاشى.

يجدرُ بنا أن نستمرَّ في تذكير بعضِنا بهذه القضايا التي حاولتُ عرضها، وأن نعبِّر عنها في كلِّ مكان، وأن نعيد تأهيل أنفسنا في هذه المرحلة.. فإذا انحرَفَتْ محاوراتُنا ومباحثاتُنا عن إطارها قليلًا فلا بدّ أن نعيدها إليه مرّةً أخرى دون أن نؤذي أحدًا أو نسيءَ إلى أحدٍ، ولا ننسَ أبدًا المصدرَ الذي تتفجّر منه النعم، فلو أننا تخلّصْنا من أنانيّتنا، ونسَبْنا كلَّ شيءٍ إلى الله، وربطْنا كلَّ أمورِنا به، وأدَّينا عبوديَّتنا بإخلاصٍ؛ فسيتكرّم الله تعالى علينا بنعمٍ تفوق ما أنعم به علينا حتى الآن دون أن يلتفتَ إلى صغرنا وضعفِنا وعَدَمِنا؛ لأن تحميل الأشياء الصغيرة مهامَّ عظيمةً من شأنه سبحانه وتعالى.. لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ملحق قسطموني، ص 147.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي العربي النوري، ص 225.

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الثامنة عشرة، ص 248.

[4] صحيح البخاري، الجهاد والسير، 182؛ صحيح مسلم، الإيمان، 178.

[5] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة السادسة والعشرون، ص 543.

طغاة عصرنا

Herkul | | العربية

سؤال: ما الرسائل الموجّهة لحكام عصرنا من الآيات الكريمة التي ذُكر فيها طغاة مثل: فرعون والنمرود؟ وهل يمكن القول إن شيئًا من صفات الفرعنة موجودٌ لدى القادة المستبدّين الذين لا يقدرون شعوبهم؟

الجواب: من أكبر مشاكل عصرنا على الساحة السياسية اليوم هو التناقض والاختلاف الكبير بين أقوال السياسيين وأفعالهم؛ فالقادة في العديد من دول العالم يقدمون وعودًا كبيرة لشعوبهم؛ فلا يفتؤون يتحدثون عن الديمقراطية وحرية التعبير والمساواة.. لكن المؤسف أن أفعال الكثيرين منهم تُكذِّب ما يخرج من أفواههم، وغالبًا ما يكون من الخطإ الحكم على أحد القادة من خلال كلامه عما إذا كان ديمقراطيًّا أو جمهوريًّا أو يحترم حرية الفكر والضمير الإنساني؛ إذ من الواجب النظر إلى ممارساتهم وتطبيقاتهم حتى يُفهم مدى صدقهم ووفائهم بما يقولون؛ فيا تُرى هل يستطيع الناس في البلاد والمجتمعات التي يحكمها هؤلاء أن يفكروا ويعبروا بحرية عن أفكارهم؟ هل يمكنهم أن يمارسوا -بحرّيّة- القيمَ التي يؤمنون بها دون أن يواجهوا أية ضغوط أو قيود؟! لا بدّ من تحرّي هذا.

هناك اهتمامٌ بالغٌ ودفاعٌ كبيرٌ في عصرنا هذا عن أهمية الحقوق والحريات الأساسية في العديد من دول العالم؛ فالحرية مهمة حقًّا؛ إذ يجب أن يكون الإنسان حرًّا في كل الأمور؛ فيجب أن يكون قادرًا على التفكير كما يريد، والبوح بما يفكر فيه، وعَيْشِ حياته بالطريقة التي يريدها، طالما أنه لا يؤذي أحدًا، ويحترم خصوصيات الآخرين، ولا ينتهك حدود حرّيّة غيره.. بيد أنه لا ينبغي أن تبقى الحرّيّة مجرّدَ قولٍ، بل يجب أن تجري في ربوع الحياة بطرق مختلفة بحسب الزمان والمكان؛ فعلى الرغم من وجود خطابات متقدّمة للغاية حول حقوق الإنسان والحريات في عالمنا المعاصر؛ إلا أنه من الواضح أن عديدًا من الدول المتقدّمة نفسها لم تصل بعدُ إلى المستوى المطلوب من الحريات؛ إذ يُلاحظ أن كثيرًا من القادة يمارسون الاستبداد تحت ستار الديمقراطية، ومع أن هؤلاء الأشخاص يتحدّثون عن الحرية في كلّ مناسبة تقريبًا، إلا أنهم -في الواقع- يعتبرون الحرية حكرًا عليهم فقط، بينما الحرمان والتسلّط جديرٌ بالآخرين، ولعل أخطر أنواع الاستبداد هو هذا النوع من الاستبداد المتواري تحت درع الديمقراطية.

ليس من الصواب قصرُ الاستبداد على فترات معينة، وعلى بلدان معينة؛ فلقد وُجِدَ منذ أن وُجِدَت البشرية، وسيظلّ موجودًا دائمًا، حتى وإن غيّر من شكلِه ونمطِه.. ومن المؤسف أنه يوجد في عصرنا العديد من الطغاة في بلدان مختلفة من العالم يتخذون القرارات ويُصدرون الأحكام بأنفسهم، ويضطهدون الآخرين بطريقة لا يقبلها أيّ نظامٍ قانوني، ويدمّرون القيم الإنسانية، لكن كثيرًا من الناس لا يدركون استبداد هؤلاء؛ لأننا بشكل عام دائمًا ما نبحث عن الطغاة والمتفرعنين في الماضي وفي الأوقات والبيئات التي لم تُذكر فيها الديمقراطية قط، كما أنّ عدمَ وجود معايير واضحة وملزمة لمن ينبغي أن يطلق عليه طاغية وديكتاتور يفتح السبيل أيضًا أمام الفراعنة المعاصرين، ولهذا السبب فإن عمليات الفساد البشرية هذه -التي يقودها الشيطان- تستمرّ في الإضرار بالإنسانية.

وكما ورد في السؤال، فإن آيات مختلفة من القرآن تركّز على الطغاة والمستبدّين أمثال فرعون والنمرود -حتى وإن لم يذكر الاسم بوضوح- وعلى إنكارهم وتكذيبهم للأنبياء، وتمرّدهم وعنادهم، والضغوط التي مارسوها ضدّ شعوبهم، ومختلف المظالم التي ارتكبوها.. وعند تلاوة هذه الآيات، يمكن أن يُرى بوضوح شديد موقفُهم غير الأخلاقي تجاه حرية العقيدة، وفرضُهم لرغباتهم الخاصة، وعنادُهم في ذلك.

إننا نضخّم -في كثير من الأحيان- من حجم الفراعنة والنماردة والمستبدين والطغاة بمختلف أنواعهم ممن عاشوا في الماضي؛ حتى إننا نرى طغاة عصرنا أخف أذًى منهم، لذلك لا نشعر تجاه المعاصرين بالغضب الذي نشعر به تجاه الغابرين.. دعْكَ من الغضب، فقد صار من المعتاد أن يرى البعضُ هؤلاء الطغاة كالملائكة أو مخلوقات مقدّسة غُسِلت بماء زمزم.. ألا ليتَ مقارنة تفصيلية تُعقَدُ بين الطغاة المذكورين في القرآن وطغاة اليوم من حيث كلامهم وأفعالهم! فإن أمكن إجراء مثل هذه المقارنة، فقد يظهر أن طغاة الماضي كانوا في بعض النواحي أكثر ديمقراطيةً من طغاة اليوم.

نعم، يحكي القرآن في آياتٍ كثيرةٍ قصصَ الأنبياء مثل: نوح وصالح وهود وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام، ويُفسح المجال أيضًا للحوارات التي تدور بين الأنبياء والأقلية الأوليغارشية التي تهيمن على مصير المجتمع، وهناك نقطة لافتة للانتباه في هذه الحوارات؛ ألا وهي: أنه على الرغم من أن العديد من هؤلاء الطغاة سخروا من الأنبياء، ووجهوا لهم تهديدات مختلفة، ووجهوا إليهم اتهامات وشتائم شديدة، إلا أنهم لم يترددوا في الدخولِ في حوار معهم ومنحِهم الحقّ في الكلام، وعندما صرّح الأنبياء بأفكارهم ودعوا قبائلهم إلى الدين والإيمان وإلى الله؛ لم يُباغتوهم، ولم يعتقلوهم ويسجنوهم من فورهم، بل منحوهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم بطريقة أو بأخرى، وقد ورد في العديد من الآيات، تحذيرات الأنبياء ونصائحهم لشعوبهم، وردودهم على ذلك.

ولكم إن شئتم، أن تخرجوا أمام الطغاة الذين ملكوا موقع الحكم، وسنّ القوانين وإنفاذها، والوصاية على المجتمعات، وحَاوِلوا التعبير عن أنفسكم، تُرى إلى أي مدى سيمنحونكم هذه الفرصة؟! فبهذه الطريقة ستتاح لكم الفرصة لمقارنة الحاضر بالماضي، إنني أرى أن أفعال طغاة الماضي تبقى هينة وبسيطة جدًّا في مواجهة الفظائع التي تُرتكب في أماكن كثيرة من العالم في عصرنا.

إن الحوارات التي دارت بين موسى عليه السلام وفرعون لافتةٌ للانتباه، فعلى سبيل المثال: خرج موسى عليه السلام أمام فرعون الذي يدّعي أنه إلهٌ، فقال له: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/105)، وفي مواجهة مثل هذا المطلب التفت فرعون والأقلية الأوليغارشية المحيطة به إلى قومهم، يسألونهم عن رأيهم؛ فيُقترَح جمعُ أمهر السحرة من مختلف مناطق المدينة، ويُوصَى بتحدّي موسى عليه السلام؛ إذ يخيّل إليهم أن المعجزات التي أظهرها موسى كانت مجرّد سحرٍ، ويبدأ فرعون التحدّي مقترِحًا عقدَ مناظَرَةٍ عمليّة هكذا بقوله: ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ (سورة طَهَ: 20/58)، ومن الجدير بالملاحظة أنه يترك لموسى عليه السلام أمرَ تحديد الزمان والمكان، ويتيح له مثل هذه الفرصة ليتنافس مع السحرة في حضور الشعب.. علاوة على ذلك، فقد كان لموسى عليه السلام الحرية في أن يقول لهم علانيةً: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ (سورة طَهَ: 20/61).

فهل يمكن أن يُقال: إن طغاةَ عصرِنا منفتحون على الحوار إلى هذا الحدّ، ويمكنهم أن يكونوا متسامحين أمام الناس والأحداث التي قد تضرّ بحكمهم؟ تفضلوا.. قفوا في حضرة أحدهم.. وحاولوا التعبير عن آرائكم باسم القيم الإنسانية والعالمية؛ فهل يمكنكم بسهولةٍ أن تقدموا الرسائل التي لديكم باسم الإنسانية؟! أم أنكم لن تستطيعوا ذلك؟!

نعم، لا ينبغي البحث عن الطغاة في الماضي فحسب؛ إذ يمكن العثور على العديد من المؤهلين للاستبداد في جميع الأوقات والمناطق، بدءًا من آلية النفس التي في داخلنا وصولًا إلى عبيد الغطرسة والمصالح الذين يحبون استعباد الآخرين، وستدركون هذا الخطر الكبير قطعًا عندما تدققون في الأمر بحساسية وفقًا لمعايير القرآن والسنة.

ويمكن القول: إن مشركي قريش -الذين مارسوا كلّ أنواع الاضطهاد والإيذاء ضدّ نبينا صلى الله عليه وسلم- كانوا أكثر ديمقراطية من طغاة عصرنا؛ لأنهم بحثوا لفترة طويلة عن طرق للحوار مع مفخرة الإنسانية بعد أن بدأ في نشر رسالته، وجاؤوه بعروضٍ مختلفة واستغلوا فُرصًا وبدائلَ مختلِفةً من أجل ثنيه عن دعوته.. وعلى الرغم من أن الرسالة التي جاء بها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم قد وجهت ضربة قوية لأفكار الشرك في ذلك اليوم ومهدت الطريق لتغييرٍ جذريٍّ في عالم الشرك في ذلك العصر، إلا أنهم لم يهاجموها على الفور، بل حاولوا أولًا حلَّ القضية عبر الحوار؛ فذهبوا أكثر من مرة إلى “أبي طالب”، وقدموا له عروضًا مختلفة.. إنني لا أعتقد أن طغاة اليوم سيكونون متسامحين مع الأفكار والكيانات والتغييرات التي يعارضونها، حتى ولو بقدر ما كان أبو جهل وعتبة وشيبة وأبو سفيان الذي كان مشركًا في ذلك الوقت، إن مجرد ذكر مثل هذه التغييرات الجذرية يكفي لأن يدفع طغاة اليوم إلى الجنون.

قد لا يكون من الضروري أن تخرجوا أمام طغاة عصرنا وتقولوا شيئًا ما، أو حتى تفعلوا شيئًا ما، من أجل إثارة غضبهم.. فإذا كانوا يرونكم خصومًا محتمَلين أو أعداءً، فإنهم يعلنون الحرب عليكم فورًا، ويبحثون عن طرقٍ للتعدّي عليكم بأية وسيلة.. وعلى الرغم أنَّه من أهم قواعد القانون الثابتة ألا تستند العقوبات إلى الشبهات والاحتمالات بل إلى أحداث ثابتة بالدليل، وأن الأفعالَ التي لا تُوصَف بالجرم في القانون لا يُعاقَب عليها؛ إلا أن هذه القواعد لا تُلزِم الطغاة أبدًا، فإن عدم تبنّي فلسفتِهم يكفي لنيل عقابهم، في حين أنه إذا ما سُعي إلى معاقبة الناس وفقًا لأفكارهم، فلن يبقى على وجه الأرض إنسان إلا وسيُعاقب، وسيبدأُ أيُّ شخصٍ يستحوذ على القوة في مهاجمة أيِّ شخصٍ لا يقف في صفّه، ويبحث مظلومو اليوم وضحاياه عن فرصةٍ ليُذيقوا الطرف الآخر نفس المعاملة غير العادلة التي كان أذاقهم إياها.. لذلك لا تتوقف الفوضى في العالم، فالطغاةُ الذين لا يعترفون بالقانون والعدالة إنما هم بلاءٌ متسلّطٌ على الإنسانية جمعاء.

ولهذا السبب يجب على الإنسانية أن تكافح كلّ الطغاة وجميع الديكتاتوريين الذين يتنمرون علانية، والمنافقين الذين يخفون طغيانهم بالقيم الإنسانية العالمية، والفسادَ الاستبدادي المتدني العاجز حتى عن حماية شرف الاستبداد نفسه… لأنه لا ولن يتسنى تأسيس عالمٍ أكثر سلامًا وازدهارًا وحرية إلا من خلال القضاء على الاستبداد والظلم ومحوِه من على وجه الأرض.

عشق الصحابة للتبليغ

Herkul | | العربية

على الإنسان أن يؤمن بداية بحقيقة الرسالة التي يبلغها للآخرين وضرورتها وأهمّيتها، ويصدّق بها من صميم قلبه؛ حتى تؤتي هذه الدعوةُ ثمارها، وتلقى حسنَ القبول.. وهذا الأمرُ من أكبر العوامل التي جَعلت للحقائق السامية صدًى في القلوب خلال وقت يسير، لا سيما تلك التي بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقها، وأخذها عنه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم وبلغوها للآخرين بعد أن امتثلوها تمامًا، لقد كانوا يؤمنون إيمانًا يقينيًّا بالدين الذي يمثلونه ويبلّغونه أكثر من إيمانهم بمجيء الغد بعد اليوم أو بشروق شمس اليوم التالي بعد غروبها اليوم، لم يساوِرْ سادتَنا الصحابةَ رضوان الله عليهم أدنى شكّ فيما وعدهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أكثر من إيمانهم بأنّ حاصل جمع اثنين مع اثنين يساوي أربعة.

لا شك أن المرء يُجازَى في الآخرة على إيمانه أو إنكاره، فمن يؤمنون بالرسالة التي بلّغها مفخرةُ الإنسانية صلى الله عليه وسلم للبشرية؛ بنعيم الجنة والسعادة الأبدية مبشَّرون، ولمشاهدة جمال الحق تعالى مرشَّحون، وإلى أفق الرضا الإلهي يسيرون.. وهذا السير منهم بهذه الأحوال في الدنيا يشبهُ رحلةَ صعودٍ نحو العالم الملكوتي.. أما عاقبة الذين سلكوا طريق الإنكار فهو التردي إلى أسفل سافلين، والتعرض للخسران المبين، وتذوّق العذاب الأليم.

لقد كان سادتنا الصحابة رضي الله عنهم يوقنون بمجازاة الإيمان والكفر في الآخرة، وكان يحدوهم شوقٌ عارمٌ للأخذ بأيدي الإنسانية إلى طُرق الخير، فكانوا في حرصهم على التبيلغ يقتدون بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يواسيه ربُّه بقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/6).

أجل، لقد كاد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده أتباعه الصادقون حسب مراتبهم؛ أن يهلكوا أنفسهم حتى يرقى الناس إلى أعلى الكمالات، ويفوزوا بالجنة، ويُتوِّجوا نعيمَهم الأخروي بالرضا والرضوان.

أما نحن فمع الأسف فقدنا هذا الشعور والحرص على التبليغ والاشتياق له، ولم يعد يحدونا هذا الشوق العارم لتبليغ الحقّ والحقيقة إلى الآخرين، ولا تذهب نفسنا حسرات على الذين انغرزوا في مستنقعات الكفر والضلال، بل ذهب الأمر بالكثيرين إلى أن قالوا: “لماذا تهلكون أنفسكم من أجل التبليغ عن الله سبحانه وتعالى، فلقد خلق الله جهنم ليدخلها بعض الناس!” وأغلب الظن أن القائلين بذلك لا يعلمون ماهية جهنم، ولا يدرون ما الذي يخسره من يضيّع إيمانه، ولا يدركون معنى الخلود والخسران الأبدي؛ فليس من الجدير بإنسان يتحلّى بإيمان كامل وقلب سليم وعقل رشيد ألا يكترث ولا يبالي بحال البشرية التي سقطت في دوامة الكفر، وما زالت تتخبّط وتنتفض داخلها.

وهكذا فما جعل الصحابة رضوان الله عليهم متميّزين عن غيرهم هو فهمهم العالي، وحساسيّتهم الشديدة تجاه هذه المسألة.. فقد كانوا ينظرون بعينٍ إلى الجنة، فيرون أنها ليست بالمكان الذي يجدر التضحية به، وينظرون بعينٍ أخرى إلى جهنم فيحاولون مدّ يد العون إلى الآخرين عسى ألا يسقِط اللهُ أحدًا في نارها! كانت لديهم غاية سامية وهدف نبيل، وكأنهم كانوا يعيشون لهذه الغاية فقط، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “غاية الإحياء”، فهؤلاء كانوا يعيشون من أجل غيرهم، وليس من أجل أنفسهم، يعيشون من أجل إحياء الآخرين، ويبذلون التضحيات حتى يحيا الآخرون، ولو لزم الأمر أقبلوا على الموت في هذا السبيل فرحِين مستبشِرين، فلا معنى عندهم لحياةٍ لا تزيّنها هذه الغاية، فهم يرون أن مَن حُرموا هذه الغاية يشبهون القبور المتحركة.

إنّ المولى سبحانه وتعالى عندما أرسل مفخرةَ الإنسانية صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ كأنه أرسل معه أناسًا على استعدادٍ تامّ لتقبّل هذه الرسالة الإلهية بكلِّ صدقٍ وإخلاصٍ، والعمل على نشرِها في بقاع العالم.. وإلا كيف يمكن تفسير موقف أمّنا السيدة خديجة، وسيدنا أبي بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، وغيرهم من السابقين الأولين رضي الله عنهم أجمعين! ففي الوقت الذي كان فيه الوحي يتنزّل ببضع آيات على صاحب الرسالة لم يتردّد هؤلاء في تقبّل الرسالة التي جاءهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصوا على تبليغها للآخرين..

فعندما نزل الوحيُ أوَّلَ ما نزل، أخبر عليه الصلاة والسلام زوجَه السيدة خديجة رضي الله عنها، فردّت عليه بكلماتٍ تعكس بحقٍّ إدراكَها الواعي وفهمها العميق.. وإيمانُ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بمجرّد سماعه بالرسالة المحمدية دون تردّدٍ، وتبنّيه الدعوة وحرصُه عليها بكلّ طاقتِهِ؛ ليس بالأمر الذي يُستهان به.. ولم يختلف موقف غيرهم من السابقين الأولين عن موقف هؤلاء، فبعد أن تبوّأ كلُّ واحدٍ منهم مكانه خلف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتقوا -بشكلٍ مذهلٍ- ارتقاء عموديًّا. أجل، كأن الله تعالى لما أرسل الإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم بالرسالة التي ستغيِّر لون العالم وشكله وزخارفه؛ أعدَّ أصحابه وبَرْمَجَهُم على هذا الأمر حتى يتسنّى لهم مساعدته والوقوف بجانبه، وقد ترك إيمانُهم العميق وتسليمُهم التام وتوكّلُهم الكامل تأثيرًا مختلفًا في نفوس المخاطَبين.

وكان لانصباغ هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في جوّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن خرجوا للتو من الجاهلية أثرٌ كبير في أن يصبحوا أبطالَ عرفانٍ ورجالَ قلبٍ وروحٍ قادرين على إرشاد الإنسانية خلال مدة وجيزة.. فمن تشاركوا معه نفس المكان، وتنفّسوا أجواءه، وشهدوا سلوكه وأفعاله ونظراته ومواقفه، لم يحدث أن رصدوا ولو كذبةً واحدةً في كلّ أقواله وأفعاله وأحواله.. لقد كان صلى الله عليه وسلم بأحواله وأفعاله يبعث الثقة والطمأنينة في نفوس مخاطبيه، فلمّا انصبغ هؤلاء بفكره ومشاعره ارتقوا معنًى وروحًا خلال زمنٍ يسيرٍ، ولا غرابة في ذلك فمن المتعذّر أن يدخل أحدٌ في أجوائه ولا يتأثّر به، المهم أن لا يحمل حكمًا مسبقًا إزاء الرسائل التي يبلغها، لقد كان صلى الله عليه وسلم يتمتّع بجاذبية قوية لدرجة أن الذين كانوا لا يزالون حتى ذلك اليوم يعيشون في الأوحال؛ استطاعوا بفضله التخلّص بسرعةٍ مما كانوا فيه، واغتسلوا وتطهروا كما لو كانوا يغتسلون بماء الكوثر، وارتقوا إلى أن تجاثوا على الركب مع الملائكة كفرسَي رهان.

لقد تبوّأ سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم مكانهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به إيمانًا جازمًا، وجعلوا تبليغ رسالته أعظم أمانيهم وأسمى غاياتهم، ولذلك كانوا على درجةٍ عالية من الدقة والحساسية في أسلوب تقديم هذه الرسالة المباركة، فأحسنوا تمثيلها تمثيلًا قويًّا لا يبعث على الريب والاعتراض، ثم نقلوا عوالمهم الروحية إلى الآخرين منتهجين أسلوب العقل والرفق واللين.

وهكذا فإن أكثر ما نحتاجه اليوم هو أفق الصحابة هذا، فلو أننا آمنّا -بهذا القدر- بالقيم التي نتبنّاها، وحرصنا على تبليغها إلى الصدور الظامئة؛ فسنجعل حتى من سجوننا مدارسَ يوسفيّة لنا كما فعل الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي، ونسعى للنفوذ إلى قلوب الآخرين دون أن نضيِّع ولو ذرّةً واحدةً من الوقت الذي وهبه الله لنا، ونلقي بذور الحبّ والإيمان قدر ما نستطيع في كل أنحاء العالم.

 

أفق المعية والقربى

Herkul | | العربية

سؤال: يُقال: ينبغي لمن وهبوا قلوبهم لخدمة الإيمان والقرآن أن يدركوا أفق “لِي مَعَ اللهِ وَقْتٌ” حتى يتمكنوا من الحفاظ على نضارتهم ونشاطهم ويستطيعوا التأثير في الآخرين؛ فهلّا توضّحون هذا قليلًا؟

الجواب: النص الكامل -الذي وردت فيه تلك العبارة المذكورة في السؤال، والتي تُروى على أنها حديث- هو: “لِي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ”[1]، وتَرِدُ هذه العبارة في بعض المصادر هكذا: “لِي وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ غَيْرُ رَبِّي[2]، ورغم شهرة هذه العبارة على أنها حديث نبوي -لا سيما بين أرباب التصوّف- إلا أنه لا وجود لمثل هذه الرواية في الصحاح.. وإنما الصحيح هو وصفُ عليٍّ كرّم الله وجهه لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ جُزْءًا لِلَّهِ وُجُزْءًا لِأَهْلِهِ وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ”[3].

وقد جرى تناول هذه العبارة وتداولها من قبل أرباب التصوّف بصفةٍ عامّة من ناحية السير والسلوك الروحاني، وطُرحت آراء مختلفة حولها؛ فرآها البعض مقام الحيرة، كما عبر عنها البعضُ بمفاهيم من قَبيل الدهشة، والقلق، والهيمان.. وثمة آخرون تناولوها من ناحية السُّكْر، والمحو، والفناء.. ويمكن القول: إن هذه العبارة تشير إلى مقامٍ تُستوعب فيه دائرة الأسماء استيعابًا كاملًا، أو يُقفَزُ منه إلى دائرة الصفات، بل انمحت فيه الأسماء والصفات واختفَتْ، وصار المرء مشغولًا بالذات الإلهية تمام الانشغال، أي: إنها نقطة المعية مع الله؛ فمن يدري ما سيحصل عليه السعيدُ المُبحِرُ في ساحة المفاجآت هكذا، وأيُّ ملجإٍ من الواردات والمواهب سيحظى به!

قد لا تتيسّر هذه المرتبة للجميع؛ فربما تكون مقامًا أو رتبةً يصل إليها المقربون أو أقرب المقربين فقط، غير أن كلَّ إنسانٍ يمكنه أن يدخل في مناخ من القرب، ويتقدّم نحو عرش الكمال الخاص به بحسب درجته، المهم بالنسبة لذلك الإنسان أن يكون لديه مثل هذا العزم والتصميم على إدراك أفق القربى بغض النظر عن المسار الذي اتُّبع لتحقيق ذلك؛ إذ يمكن لأيِّ شخص أن يسلك طرقًا مختلفة ويستخدم وسائل متباينة للوصول إلى هذه النقطة؛ فمثلًا لفتَ بديع الزمان الانتباه إلى طريق العجز والفقر والشوق والشكر، وأضاف لها التفكر والشفقة في بعض المواضع.

إنَّ العملَ -أيْ وضع العلم موضع التطبيق- وترسيخَ وحدة العلم والعمل أمرٌ لا بدَّ من التركيز عليه في سبيل إدراك أفق القرب من الله، فلا ينبغي للإنسان أن يدعَ الحقيقةَ التي عرفها حبيسةَ النظرية فحسب، بل يجب عليه أن يستوعبَها جيّدًا ويحرّرَها ويحوّلها إلى تطبيقٍ وأفعال.. فإذا كان يؤمن يقينًا بذلك، ويصل إلى درجة التحقيق في إيمانه، ويطبّق الحقائق التي يعرفها ويؤمن بها، فإنه يحظى بفضل الله تعالى وإحسانه وإنعامه؛ فلا جرَمَ أن العمل يغذّي الإيمان، فتتحوّل العبادات مثل: الصلاة والصوم والأوراد والأذكار إلى إيمانٍ عميقٍ جدًّا في ماهيتنا لا يمكننا فهم طبيعته بشكلٍ كاملٍ، وإن بقاء المعرفة -للأشياء التي لا تُستَوعَب ولا تُمتثل ولا تُنسب إلى الطبيعة ولا تُطبق- داخل إطار النظرية لا يُقرِّبُ الإنسان إلى الله، وشرطُ نفع العمل وإفادتِه هو تطبيقه واستمراريته.

وكما أشرنا، فقد سعى سالكو درب الحق إلى كسب أفق القربى من الله بطرق مختلفة، وبذلوا جهدهم لتحقيق ذلك، واعتبر أكثرُهم تحقيقَ ذلكَ غايةً مثلى في حياتهم، فعاشوا وفقًا لذلك.. وإن كلَّ هذه الطرق وسائل مهمّة في سبيل الوصول إلى الحقيقة التي عبرت عنها عبارة “لي مع الله وقت”.. وعند النظر إلى القضية من هذه الزاوية، يمكن ملاحظة أن حقيقة الوصول إلى المعية الإلهية واسعةٌ جدًّا؛ حيث يمكن لكل فردٍ أن يصل إليها من زاوية مختلفة وفقًا لقدراته وقابلياته، فيشعر بوارداتها ويستمتع بها.. وكلُّ مرشّح للقربى يمكنه أن يدركها بقدر اتساع مرآة روحه وقلبه؛ فيمكنه أن يُحرز تقدُّمًا بقدر عمق إيمانه ومعرفته بالله، وجدّيّته في عبادته وطاعته؛ طالما أنه يبذل جهدًا ويسعى في هذا الاتجاه.

يجب على كل روح مؤمنة أن تسعى إلى بلوغ هذا الأفق، وخاصة مَنْ لديهم رسالة مهمة؛ فيجب عليهم أن يسعوا إلى تمثيل حقائق الإيمان والإسلام والإحسان الواردة في حديث جبريل[4] على أعلى مستوى؛ لأنه لا يمكن توقّع شيءٍ من خدمة الإيمان على يدِ مَن لم يكتمل إيمانه أساسًا؛ فستحيل على من يتعثّر في الإيمان أن يؤثّر في الآخرين، وإن ما يقوله ويفعله شخصٌ -باسم الدين- لم يستطع الوصول إلى شعور الإحسان؛ لا يمكن أن يتعدّى مجرّد الضجيج والقيل والقال، ولا الكذبَ والخداعَ والنفاقَ والتباهي، ونظرًا لأن أمثال هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون التخلّص من ازدواجيّة الأقوال والأفعال، فيتعذر أن يكونوا مقنعين في نظر الآخرين، ولا يمكن أن يوفّروا الثقة لمن حولهم.

إن امتثال الإنسان الصدق بالمعنى الحقيقي في مشاعره وأفكاره ومواقفه وسلوكياته يعتمد على وصوله إلى شعور الإحسان، والإحسانُ -بحسب وصف نبينا صلى الله عليه وسلم- هو أن يعيش المرء وكأنه يرى الله، مرتبطًا على الأقل بفكرة أنه تعالى يراه، والإحسانُ ذو مراتب لا نهائية، فينبغي لرجل الدعوة أن يتصرّف موقنًا على الأقل بأن الله تعالى يراه، وأن يشعر أنه يخضع دائمًا لمراقبة الله؛ فيستطيع التخلّص من الكذب والرياء والخيلاء، ذلك أن مثلَ هذا الشعور ومثلَ هذا الإحساس، ينعكس فورًا على أطوار الشخص وسلوكياته؛ فيبعده عن الذنوب والأخطاء ومواطن الزلل وعدم الاتزان، ويمنعه من التراخي ومن الاستسلام للنفس، ومن الانغماس في الدنيا، ويؤثر على جميع أفعاله من جلوس ونهوض ونوم وأكل وشرب، ويوجهه في جميع قراراته وخياراته.

إذا بلغ الإنسان أفقًا يبدو فيه وكأنه يرى الله، وخاصةً بالصعود إلى مرتبة أعلى، فإن الكثرة تنمحي وتزول من أمام عينيه، ويبدأ بمراقبة الله في كلِّ شيءٍ، وعلى حدّ تعبير مولانا جامي: “اقصد الواحدَ فسواه ليس جديرًا بالقصد، اُدْعُ الواحدَ فما عداه لا يستجيب، اطلب الواحدَ فغيرُه ليس أهلًا للطلب، شاهد الواحدَ فالآخرون لا يشاهَدون دائمًا، بل يغيبون وراء ستار الزوال، اعرف الواحدَ فما لا يوصل إلى معرفته لا طائل من ورائه، اذكر الواحدَ فما لا يدلّ عليه من أقوال وأذكار هراءٌ لا يغني المرءَ شيئًا”[5]… فهو يعتبر الانشغال بما سواه عبثًا.

ليس من الممكن لشخصٍ عاجزٍ عن الوصول إلى شعور وإدراك كهذا أن يصل إلى الإيمان الحقيقي، ولا إلى الإخلاص التام، وبالتالي فإنه لا يستطيع التخلّص من التقليد ومن الإسلام الشكلي، ولا يستطيع الانسلاخ من الرياء والخيلاء. وغالبًا ما تنتهي بالفشل محاولاتُ مثل هذا الشخص لتبليغ الدين ونشره؛ لأنه يكذّب ما يقوله اليومَ بما يفعلُه غدًا؛ وتخلو أقواله وأفعاله من الاستقامة والعزيمة، ونتيجة لذلك يفقد مصداقيّته، ولو أنه نجح مؤقّتًا في التأثير على الجماهير وجرّهم من ورائه، فإن ثمار سعيه وجهوده لن تدوم، ومهما لمع وتألّق لفترةٍ قصيرةٍ، فسيتلاشى وينمحي سريعًا؛ فحفاظُ الإنسان على تألّقه ولمعانه مرهونٌ بدوام توجّهه إلى مصدر النور.. وكما تفقد الفقاعات على سطح البحر بريقَها عندما يُحال بينها وبين الشمس فكذلك يفقد المنفصلون عن الله أيضًا بريقهم.

وخلاصة القول: لا نجاحَ لأرباب الهدف والغاية المثالية -لا سيما الذين يمثّلون الدعوة النبوية- إلا بشرطٍ خاصّ، ألا وهو أن تكون علاقتُهم بالله قوية.. والحقُّ تعالى قد يحسن علينا برحمته إحسانًا وإنعامًا يفوق مزايانا ومواهبَنا وتوقُّعاتنا، فبينما لا نستحقّ إلا أن نكون مجرّد جنودٍ إذ به يجعلنا قادة، إننا نرجو هذا رحمةً منه؛ لأنه المُنعم والمُكرم، ومع ذلك فقد خلق العالمَ دارًا للحكمة، وغالبًا ما يُسيِّرُ أفعالَه بشأننا بشكلٍ متوازٍ مع إرادتنا في دائرة الشرط العادي.. لذا فإنه من المهمّ للغاية إلامَ وبأيِّ قدرٍ نميلُ، وماذا وبأيّ قدرٍ نطلبُ، وما مدى الجهد والسعي الذي نبذله لتحصيل الأشياء التي نطلبها، وما مدى ثباتنا وإصرارنا على جهودنا هذه!

إذا أردنا أن نأخذ مكاننا بين عباد الله المقبولين ونكون مؤثِّرين في الآخرين فعلينا أن نتطلّع إلى أفق “لي مع الله وقتٌ”، يجب أن نترك العالم كلّه وما فيه وراء ظهورنا، وتكون لنا أوقاتٌ نقضيها مع ربِّنا فقط، ويجب أن نجتهد ونكدّ وننفقَ أعمارنا للحصول على مثل هذه المعية والقربى.

[1] المناوي: فيض القدير، 6/4؛ العجلوني: كشف الخفا، 2/173.

[2] القشيري: الرسالة القشيرية، 1/190.

[3] الترمذي، الشمائل المحمدية، ص 192؛ البيهقي، شعب الإيمان، 3/24.

[4]  ويُقصَدُ به حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه إذ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا”، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ”، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: “أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ”، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: “مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ”، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: “أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ”، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: “يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟”، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ”. (صحيح مسلم، الإيمان، 1)

[5] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة السابعة عشرة، ص 237.

!مَا أَحْلَمَكَ يَا رَبَّنَا

Herkul | | العربية

إن الأذهان والأفكار اليوم ملوّثةٌ إلى حدٍّ كبير، وإنّ بعضَ من يمسكون زمام القوة في أيديهم يدبرون المؤامرات واحدة تلو الأخرى ضدَّ من يرونهم معارضين ويتصوّرونهم أعداء لهم، فلا يتورّعون عن ظلمٍ، ولا يكفّون عن قمعٍ.. أفكارهم الملوثة تنعكس على ألسنتهم وأقوالهم.. يختلقون الأكاذيب، ويثيرون الافتراءات، ويكيلون الشتائم والإهانات؛ فإذا كان لا محالة من إطلاق اسم عليهم فلنقل: “هم المجتهدون في اختلاق الأكاذيب وإثارة الافتراءات وإكالة الشتائم والإهانات”؛ وهذا ما يجعلنا نتصوّر أنهم ربما يفكرون فيها في حلّهم وترحالهم، ويُشغلون بها أذهانهم، ويعبّرون عنها بألسنتهم.

فلا الأحكام الدينية ولا القيم الأخلاقية، ولا الخوف من الآخرة، ولا المواقع والمناصب التي يتبوؤونها تمنعهم من ممارسة هذه الأفعال المشينة، فلا يكترثون بأيِّ وديان الضلالة يتيهون.. إن الذين يمثّلون الدولة من هؤلاءِ لا يستنكفون عن ذكر الكلام القبيح البذيء الذي يستحيي منه الإنسان العادي أمام الجماهير، ولا أحد يدري ما القدوة التي يمثلونها بهذه الأفعال والسلوكيات غير اللائقة؛ فالأنبياء العظام والعلماء الفخام والأولياء الكرام لم يُسمع أنه صدر عن ألسنتهم الطاهرة ولو واحدٌ في الألف من هذه الكلمات؛ رغم اضطرارهم إلى العيش في أقسى الظروف وأكثرها سوءًا.

فما أشد الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من قومه! وما أقسى الإهانات التي تعرض لها! وما أكثر الضرر الذي ناله منهم! ورغم ذلك لم يتفوّه بكلمةٍ غير لائقة في حقّ أحدٍ، ولم يُهِنْ أحدًا، ولم يسخرْ من أحدٍ! فإن كانت معاييرنا هي نفس المعايير التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما لا يتوافق مع هذه المعايير يسمى خللًا وانعدام توازن.

ثمة أناس في أيامنا مختلّون ذهنيًّا، مضطربون وجدانيًّا، ملوّثون كلاميًّا؛ لا يمكن التنبّؤ بما يفعلون، ولا بما يقولون ويخاطِبون؛ لأنه عندما تتجرّد الأحوال والتصرّفات من الموازنة والانضباط؛ تُرتكب شتى أنواع المنكرات، لا سيما هؤلاء الذين يمسكون في أيديهم زمام القوّة والسلطة؛ فإنهم يدبرون المؤامرات، وينصبون الفخاخ والمكائد، ويرتكبون من الظلم وينتهكون من الحقوق ما إن رآهم إنسان لا يتمالك نفسه حتى يقول كما قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: “مَا أَحْلَمَكَ يَا رَبَّنَا”؛ لأن ما يفعلونه شيء لا يُغتفر.

إحالة الظالمين إلى الله جل جلاله

ليفعل الظالم ما شاء، أما المظلوم فجديرٌ به -وخاصة إن كان ذا مروءةٍ وقد استوعب قيمَ الإسلام جيدًا- أن يتضرّع إلى الله قائلًا: “اللهم أصلح حال الظالمين، وارزقهم اللّين، وأرشدهم إلى الحقّ والحقيقة، ووفّقهم إلى العيش بشكلٍ إنساني، وقوِّم ضلال قلوبهم، واغفر لنا ولهم، واقهر من لا يُرجى صلاحُه منهم، اللهم إنا نفوّض إليك أمر هؤلاء المعتدين الذين يتلذّذون بالقمع والاضطهاد”، ومهما حاولنا فالأمر بيد الله، هو الذي سيحبط مؤامراتهم، ويجعل كيدهم في نحورهم، فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته، فإذا جاء حكم الله، وصدر الأمر الإلهي بمعاقبة الظالمين فلا عاصمَ لهم من أمر الله! فلطالما الأمر مفوض إليه تعالى فلا همّ ولا كرب!

والواقع أننا لسنا فقط من يعاني المآسي والآلام، فلقد عانى الكثيرون وعلى رأسهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل هذه الأمور، فرغم أنه تاجُ الرؤوسِ، صاحبُ العزة والشرف، وتقف له الملائكة احترامًا وتبجيلًا؛ ؛ فقد تعرّض للكثير من الأذى والاضطهاد من قومه؛ حتى إن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يتساءل كيف يمهل الله هؤلاء الظالمين ولا يعاقبهم قائلًا: ما أحلمك يا ربنا! وهذا يعني أنه كان يجد صعوبة في تفسير ما يحدث، وكأنه يقول: كيف يحدث هذا لنبيٍّ جاء يرشدنا إلى الفلاح الأبدي، وينير عالمنا، ويفتح أعيننا وآذاننا على الحقائق، ويقوّي أحاسيسنا ومشاعرنا؟! وإزاء ذلك القهر والاضطهاد كان يواسي نفسه: ما أحلمك يا ربنا!

أجل، مهما كان الوضع فعلينا أن نقوم بما تقتضيه شخصيَّتُنا وطبيعتنا، فلنفوضْ أمر الظالمين إلى الله، ولنسلِّم له الأمر خاضعين لحكمته، ولا نلوِّث عالمنا القلبي والروحي بمشاعر الحقد والانتقام، ولا ندنّس ألسنتنا بالكلام السيئ، ومهما كانت الصعوبات والمشاكل التي نعيشها فلا يجب أن نتخلى عن الرفق واللين، ولا نحرم غيرنا من صدقة التبسّم، يقول الشاعر “تُوقادي زاده شكيب”: ” أبكي من داخلي وإن كنتُ أضحكُ، قلبي يئنّ ويتوجع وإن كان وجهي يتهللُ”.. فرغم أن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم كان مهمومًا ويحمل من الأعباء أثقلَها ويتلوّى حسرةً وألـمًا؛ فما ضنّ بالابتسامة على من كانوا يتلهّفون إلى رؤية الابتسامة على وجهه.. لقد أعطى صلى الله عليه وسلم إرادته حقّها، وعرف كيف يستر الآلام التي تتأجّج في داخله، ولم يكشف عنها لمخاطبيه.

وإن قيلَ: ما سبب معاناته؟ وما الذي كان يقض مضجعه ليلًا ويزيد من همومه نهارًا؟ فالجواب هو: إن ما كان يؤرّقه هو اندفاعُ البشرية نحو الجحيم كما لو كانت عالقةً في فيضانٍ لا يمكن إيقافه، وافتقادُها الطرق المؤدية إلى الجنة، وابتعادها عن الخير والجماليات، وانفتاحها على القبائح والسيئات.. لقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حتى يعود الناسُ إلى رشدهم، لكنّه ومع ذلك كلّه لم تفارق الابتسامة وجهَه، ولم تودِّع البشاشةُ قسماتِه، كان دائمَ البِشْرِ، يمنح الأعيُنَ سرورًا، والقلوبَ انشراحًا وحبورًا.

الأرواح المهمومة

ثمة عوامل كثيرة اليوم تُغرق الإنسانَ في المآسي والمعاناة! وفي ذلك يقول الأستاذ “نجيب فاضل”: “كيف لا تهتمون أمام انقلاب القيم وتدهورها في المجتمع! وكيف لا تشعرون بالألم والمعاناة إزاء انغماس الكثيرين في الملذّات رغم ما يحدث حولهم من شدائد وأهوال وكأنه لا يوجد شيءٌ آخر في العالم!

لقد حفلَ التاريخ بشخصيّاتٍ عظيمةٍ جعلَت همَّها الأوحدَ أمّتَها؛ فعاشت مثلَ هذه المآسي والمكابدات.. وهذه هي “المكابدة النبوية”، أو ما يمكن أن نسميه بـ”المعاناة المقدسة”؛ لأن دقيقةً من مثل هذه المعاناة الداخلية إزاء الأحوال العامة للإنسانية، بل ثانيةً منها؛ تعادل يومًا مشحونًا بالعبادات.

إن التلوّيَ وانقصامَ الظهر من أجل إعانةِ الإنسانية، ورفعِ الغشاوة عن أعينها، وإرشادِها إلى الحقائق، وفتحِ آذانها، وإشعارِها بالحقّ والحقيقة؛ له قدرٌ كبيرٌ عند الله، وهذا ما دفع “سفيان بن عيينة” إلى أن يقول: “لو أن محزونًا بكى في أمّةٍ لرحم الله تعالى تلك الأمة ببكائه”[1].

إننا في حاجّة ماسّةٍ اليوم إلى هذه الأرواح المضحّية المهمومة التي تهتمّ بِهَمّ غيرها، وتدرك ما يقع في المجتمع من انهيارات وانقلابات أخلاقية، فتتألّم لما يحدث في أعماق روحها، وتتجافى جنوبها عن المضاجع، فتنهض من فراشها وتتجوّل في الدهاليز كالمجانين متسائلة: “ما هذه الحال التي آلت إليها الأمة؟ متى سينتهي هذا الهذيان؟ متى سينتهي هذا التشرذم والانفصال؟!” إنها ومع كلِّ ذلك تحافظ على ألّا تقع في ذمّ القدر.

أجل، إنها -من جهةٍ- ترى ما يجري داخل المجتمع من انكسارات، وتتألّم لها، و-من جهةٍ أخرى- لا تحيد عن أفق الرضا، ولا تضطلع بتصرّفات وسلوكيّات تذمّ القدر.. تقول دائمًا: “رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا”، مبديةً احترامها لقدر الله؛ فهي تعلم جيّدًا أن المراد الإلهي هو الأساس في تحصيل الجماليات المنشودة، والله تعالى لا يسيّر إجراءاته الإلهية وفقًا لأهوائنا، بل يفعل ما تقتضيه سننه الكونية.

أجل، إن كل شيءٍ بأمرِ الله تعالى، وما يقع علينا نحن العباد على سبيل الشرط العادي -بعد استنفاذ الأسباب- هو: “التحسُّر، والأنين، والتلوّي، والدعاءُ إلى الله والتضرع إليه من أجل إسكات الأفواه الشريرة بالعقاب الإلهي ودحر الظالمين الجائرين”.. يقول الله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (سورة النَّمْلِ: 27/62)، فإن بلغ الدعاءُ أفقَ القبول أجرى اللهُ تعالى على عباده أفضالًا مفاجئةً من حيث لم يحتسبوا، وجعل للمؤمنين الصادقين صدًى حسنًا يدوّي في كلِّ أرجاء الأرض.

حاصل القول: إن ما يقع على عاتق الأرواح السامقة التي تهتمّ بهموم الإنسانية هو أن تحصر كلَّ همّتِها وجهودِها في حلِّ المشاكل التي تعانيها البشرية وترميمِ قلاعها المتهدّمة، وفي الوقت ذاته تبث شكواها إلى الحق تعالى، وتشعر في وجدانها بالسلبيات المتشابكة التي تتخبّط فيها الإنسانية، وتتوجّه إلى الله قائلةً في أنين وأسًى: “اللهم أنت الملجأ والملاذ، فلا تكلنا إلى غيرك!”.

[1] القشيري: الرسالة القشيرية، 1/268.

غايةُ الإحياء

Herkul | | العربية

المراد بـ”غاية الإحياء” أن يفكر المرءُ في سعادة الآخرين بدلًا من سعادته نفسه، وأن يضحّي بسعادته من أجل سعادة الآخرين، وأن يعيشَ ليكون مصدرًا لحياة الآخرين، بل وأن يتخلّى عن حياته عند اللزوم حتى يحيا الآخرون.

إنها الغايةُ الأسمى بالنسبة للإنسان، فالأنبياء عليهم السلام وهم أعلى المقامات بين البشرية وأتباعُهم العظام الذين ساروا على إثرهم؛ لم يفكّروا في أنفسهم، ولم يعيشوا من أجل أنفسهم قط، بل كانت رغبتهم الوحيدة أن ينسلخ الناس من رغباتهم الجسدية وأهوائهم النفسية، ويرتقوا في مدارج حياة القلب والروح، ويصلوا إلى حالٍ تُرضي الله عز وجل..

لقد ظلّ هؤلاء العظماء طوال حياتهم يكافحون من أجل إنارة عوالم الآخرين المظلمة، وفي سبيل ذلك كانوا يخاطرون بقضاء حياتهم في الظلام، فيركضون -والشموعُ بأيديهم- في ظلماتٍ بعضُها فوق بعض من أجل إشعال شموع الآخرين المنطفئة؛ فتجرعوا العذاب، وذاقوا الويلات، وقضوا حياتهم في دوامةٍ من الآلام والمعاناة؛ حتى يخلقوا نفَسًا وصوتًا جديدًا للإنسانية، ورغم هذا كله لم يُبدوا أدنى شكايةٍ أو تأوّه من حالهم، بل كانوا على قدرٍ كبير من المروءة، حتى إنهم سامحوا ظالميهم وعفَوا عنهم.

كان ديدنُهم دائمًا قولَ الله تعالى: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/109)، فلم يتشوّفوا إلى أيِّ غرضٍ أو مكسَبٍ دنيوِيّ، بل بذلوا الغالي والنفيسَ من أجل الله، فعاشوا حياتهم بهذه المروءة ورحلوا إلى الآخرة وهم على نفس المستوى؛ وبذلك تركوا سمعةً طيبةً وذكرى جميلة للأجيال المتعاقبة..

لم يرغبوا في أن تلتصقَ أسماؤُهم بالخدمات التي قاموا بها، قدوتُهم في ذلك المهمومُ الكبير في هذا العصر الأستاذ بديع الزمان “سعيد النورسي” الذي استكثر على نفسه حتى أن يَعرِفَ أحدٌ قبرَه، وكأنّ هذه الرغبةَ التي تنبع من إخلاصه العميق قد لاقت قبولًا على الفور من الله تعالى، فقد أُخرِجَ جثمانُه الطاهر من القبر بعد موته ببضعة شهور، ونُقِلَ إلى مكان مجهول، ولكن الله تعالى حفظ أسماء هؤلاء كذكرى جميلة، ولم يقدر أحدٌ على محوِ أسمائِهم وذكراهم وسيرتِهم من أذهان الناس وألسنتهم.

ومن خلال الفترة التي عاشوها فقد تركوا بصمات في الأذهان بسيرتهم، وتمثيلهم الجميل للدين، وأقوالهم، وأفكارهم، ومؤلفاتهم، فظلّ الناس الذين جاؤوا من بعدهم يذكرونهم بالخير ويدعون لهم بظهر الغيب، وظلَّ الكثيرون يطوفون في أفقهم، ويدورون في فلكهم، ويشكّلون هالةً نورانيّة حولهم حتى بعد وفاتهم بمئات السنين.. وفقنا الله تعالى إلى معرفة هؤلاء العظام على الوجه الصحيح، وإلى مشاركتهم آفاقهم، وإلى نيل شفاعتهم!

فها هو بديع الزمان سعيد النورسي أحد الأتباع المخلصين للأنبياء الكرام، وأقرب الكبار لنا يقول: “إن رأيتُ إيمان أمّتنا في خيرٍ وسلامٍ فإنني أرضى أن أُحرق في لهيبِ جهنّم؛ إذ بينما يحترقُ جسدي يرفلُ قلبي في سعادةٍ وسرورٍ”[1].. وبذلك أثبت ألّا همَّ له سوى أمّتِه، ورغم ذلك كله فقد حوّل الظالمون والمستبدون في تلك الفترة حياتَه إلى جحيم، واجتهدوا في مسحِ أيِّ ذكرى له من الأذهان، واستماتوا في القضاء على دعوته، لكنّهم فشلوا في مساعيهم أيَّما فشل، فلقد ظلّت مؤلفاته القيمة تنير طريق الناس عبر العصور والدهور.

وكذلك سار طلّابُه الذين يلتفّون حوله على الدرب نفسه، فأعرضوا عن الدنيا وزهدوا فيها، وتكبّدوا مختلف الصعوبات، وتجرعوا صنوفَ الحرمان، وقدّموا أرواحهم فداءً لهذه الدعوة، فلم تستطع المحاكم ولا المنافي ولا السجون أن تُثنيهم عن هذه الغاية التي نذروا لها أنفُسَهم وأنفاسهم.. لقد دفعوا ثمن صحبتِهم لبديع الزمان، فلاقوا من الآلام ما لاقوا، إلا أنهم لم يتركوا أستاذهم أو يُسلِموه للوحدة طيلةَ حياتهم، وبفضل هذا الوفاء والصدق والتضحية والتفاني أنقذوا إيمان الكثيرين، وفتحوا أعينهم على الحق والحقائق.

لقد تجشم هؤلاء الأبطالُ كلَّ الصعوباتِ من أجل سِلم وسلامة الإنسانية، ولم يتشوّفوا إلى أيّ غرضٍ دنيويّ، حتى إن أمثال “زبير كُونْدُوزْ آلب”، و”طاهري موتلو” و”خُلوصي أفندي”؛ قضوا حياتهم في منزلٍ بسيطٍ، وغرفة متهالِكة.. ولو شاؤوا لجمعوا مالًا وفيرًا، ولأحرزوا أملاكًا ورفاهية فريدة، لكن لم يتطلّع أيٌّ منهم إلى غرضٍ من أغراض الدنيا، ولم يدرْ بخلدهم سوى الخدمة في سبيل الله.

إنَّ هؤلاء المخلصين الذين نذروا أنفسهم للخدمة في سبيل الله قد اتّخذوا لأنفسهم فكرة “العمل الإيجابي البنّاء” منهجًا وأساسًا، فلم يقعوا في أخطاء من قبيل: عدم تقبل الآخر، أو الوقوف حجر عثرة أمام خدمات الآخرين بدافع من الحسد والغيرة؛ لأن هؤلاء ليسوا كأمثال الفراعنة في ترويج الدعايات السلبية من أجل تدمير أعمال الخير التي يقوم بها الآخرون، بل كانوا يقتدون ويسيرون على نهج نبيِّهم وصحابته وأستاذهم إلى أن نسوا حياتهم، فتحركوا بروح الإيثار وتحرقوا شوقًا لإحياء غيرهم.

 إن هؤلاء الأبطال الذين نأمل أن يأخذوا مكانهم خلف سادتنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بما قدموه من تضحيات وما تكبدوه من مشقات وآلام؛ كان كلٌّ منهم صرحًا للإنسان الكامل بالمعنى النسبي، لقد رأيناهم هكذا، وصدّقناهم هكذا، وسنظلّ نذكرهم بالخير ما حَيِيْنا..

لقد حاول الأستاذ النورسي رحمه الله وطلابه الذين التفّوا حوله، ومن سبقهم من الكبار والعظماء؛ أن ينفثوا الروحَ في غيرهم طوال حياتهم، فلم يذوقوا طعم الراحة قط، ومضت أعمارُهم في كَبَدٍ ومعاناة؛ فمَن لم يتعرّض للقمع والاضطهاد ولم يُضيّق عليه الخناق ولم يُسَقْ إلى المنفى ولم يُزجّ به في السجن في سبيل غايته السامية؛ لا يُنتظر منه الكثير، لأن الإنسان يبرهن على صدقه وإخلاصه عندما يثبت على موقفه رغم ما يتعرّض له من قمعٍ وتضييقٍ واضطهاد في سبيل إقامة عالمه الروحي والقلبي.

ما من نبيٍّ إلا وقد تعرّض للأذى والطرد من موطنه؛ فسيدُنا زكريا عليه السلام شُقَّ جسدُه بالمنشار، وسيدنا يحيى عليه السلام قتلَه قومُه بوحشيّةٍ وهمجيّة، وسيدنا إبراهيم عليه السلام أُلقي به في النار، وسيدنا موسى عليه السلام نُفي من بلده، وسيدنا يوسف عليه السلام أُلقي به في الجبّ، وبيع في سوق النخاسة، وزُجَّ به في السجن.. وسيدنا نوح عليه السلام تحمّل كلَّ الإهانات من قومه، وغيرهم وغيرهم كثير.. فإذا كان هذا هو طريق الأنبياء، وإذا كان هذا هو ثمن إقامة الحق والحقيقة، وإذا كان اختبارُ الصدق والإنصاف يقتضي ذلك؛ فعلينا أن نصبر ونتحمّل.

أمّا المتطفلون الذين يجرون وراء مصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية ومستقبلِهم الخاصّ فإنهم لا يقفون على أقدامهم إلا من خلال استغلالِ بني جلدتهم، وما يَعِدُون أمّتَهم إلا غرورًا، إنهم يمكرون ويستغلون الوضع، ويستبيحون كل الوسائل غير المشروعة، ويتسلّطون على الأمة، ويمصّون دماءها، ويمزقون شرايينَها.. قد يمهلهم اللهُ، ولكنه بعد حين سيأخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدِرٍ مثل كل الطغاة والمستبدّين، وبينما سيُذكر أولئك الناذرون الذين جعلوا حياتَهم فداءً لنهج الأنبياء كذكرى جميلة؛ سيُذكر هؤلاء المتطفلون كذكرى قبيحة، وستنهال عليهم اللعنات.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: السيرة الذاتية، ص 492.

أسس الانبعاث

Herkul | | العربية

عند ذكر كلمة “الانبعاث” فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو البعثُ بعد الموت، وعلى ذلك فإن “الانبعاث” هو مفهوم يرتبط على الأكثر بالكائنات الحية، غير أن هذه الكلمة قد تُضاف أحيانًا إلى أمور أخرى؛ مثل انبعاث الفكر، وانبعاث المؤسسة.. والقاسمُ المشترَكُ بين الاستعمال الحقيقي للكلمة والمجازي لها هو أن الشيء الذي فقد حيويّته، ولم يعد قادرًا على أداء مهمّته الحيوية، وأوشك على الذبول والانطفاء؛ يبدأ في استعادة عافيته من جديد، ويرجع إلى حالته الأولى مرة أخرى، ويقوم بطفرةٍ وحركةٍ جديدة.. وبهذا المعنى نستعمل أيضًا كلمة “الانبعاث” عند التعبير عن صحوة المسلمين واستواء ظهورهم بعد البؤس الذي لازمهم لقرنين أو ثلاثة قرون.

حقيقة الأمر أن وقوف الإنسان على قدميه وانبعاثَه بالمعنى الحقيقي في الآخرة يتوقّف على انبعاثه في الدنيا من حيث فكره الديني، ومن لم يعشْ انبعاثًا في الدنيا فليس له أن يعيش انبعاثًا في الآخرة! فهل يمكن أن يُسمّى انبعاثًا خروجُ الإنسان من قبره لِيُساقَ إلى جهنم بالسلاسل فيُحاسَب على الجرائم التي ارتكبها في الدنيا كما يُساق المحكوم عليه بالإعدام إلى المشنقة ويداه مغلولتان إلى عنقه؟!

من هذه الجهة فإن الانبعاث يبدأ في الدنيا، فالذين يظفرون بمثل هذا الانبعاث المجازي في الدنيا عن طريق إقامة صرح أرواحهم سيعيشون هذا الانبعاث في الآخرة أيضًا بشكل حقيقي.. ندعو الله أن يرزقنا مثل هذا الانبعاث في هذه الدنيا! وأن يبعثنا على حياةٍ نشعر فيها بنشوة الانبعاث الحقيقي في الدار الآخرة!

يقول المرشد الكامل وشمس سماء العرفان الأستاذ النورسي رحمه الله ويوضح الطريق إلى هذا الانبعاث: “انسَلْ من الـحيوانية، ودع الـمادية، وارتق في مدارج حياة القلب والروح”[1]، فأكثرية الناس يسعون وراء نزعاتهم النفسية، ويعيشون في فلك الجسمانية، ولا ينشغلون إلا بمتعهم المادية فقط؛ بمعنى أن عيونهم دومًا على الدنيا، يستمتعون بكل ملذاتها وكأنهم مخلدون فيها، ولا يقنعون بما في أيديهم، بل يطلبون المزيد دائمًا، ويرنون بأبصارهم إلى من يعيشون في سعة ورخاء، ويقولون: “لِمَ نُحرَم هذه الجماليات!”، حيث يطمحون في أن يعيشوا حياة الأبهة والرفاهية؛ وهو ما نسميه الدنيوية، فمن لم يستطع أن يتخلّص منها فلا انبعاث له؛ ولهذا أرشدنا بديع الزمان سعيد النورسي إلى سبل العيش في أفق حياة القلب والروح.

ومَن ارتقى في أفق القلب والروح في هذه الدنيا فاز في الآخرة بعالَمٍ مختلفٍ رحْبٍ، وهنالك يتذكر عهده مع ربه، ويفهم سرّ “قالوا بلى”. وبينما يدّعي الآخرون عدمَ درايتهم بهذا العهد نجده يستشعر في وجدانه بالميثاق الذي أخذه الله على بني آدم في عالم الذّرّ، حين قال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، فقالوا: ﴿بَلَى﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/172)، وينظر إلى الأحداث بنظرة فاحصة أكبر، ويقيمها بنظرة شمولية أكثر، ويحيك نسيجها من خلال تمرير الخيط بين السبب والنتيجة؛ وبالتالي يصل إلى بُعدٍ آخر، ويدرك معنى أن يعيش حياةً إنسانية صافية.. فلا انبعاث في الدنيا لمن لا يستشعر كل هذا بعمقٍ في وجدانه، ولا يراعي آداب وأركان خطّ السير.. يقول الأستاذ النورسي مخاطبًا هؤلاء: “يا أيتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، أيتها الجنائز الشاخصة! ويا أيها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما.. وهو الإسلام، انصرِفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقفوا أمامه حجرَ عثرةٍ، فالقبور تنتظركم.. تنحَّوْا عن الطريق ليأتي الجيل الجديد الذي سيَرفع أعلامَ الحقائق الإسلامية عاليًا ويهزّها خفّاقةً تتماوج على وجوه الكون”[2].

كما يبشرنا الأستاذ النورسي بوقوع انبعاثٍ قويٍّ في المستقبل فيقول: “كونوا على أمل؛ إن أعظم صوتٍ مُدَوٍّ في انقلابات المستقبل هو صوت الإسلام الهادر”[3].. وهو هنا لا يتجاهل الآخرين، ولا يدينهم ولا يستخف بهم؛ لأن بديع الزمان لا يقول بانقطاع كلّ الأصوات الأخرى، أو أن صوت الإسلام سيخنق كلّ الأصوات، بل يقول إن صوت الإسلام سيكون أكثر الأصوات دويًّا وسموًّا، وهذا يعني أن الأصوات الأخرى ستظلّ مسموعةً، ولكن صوت الإسلام سيكون الأكثر تميُّزًا وبروزًا بينها.. فإذا رفع الناس رؤوسهم ونظروا إليه قالوا: “إلى الآن ونحن نتجول عبثًا هنا وهنالك، في حين أن الصوت والنفس اللذين كنا ننشدهما حاضران هنا”؛ أي إنهم سيجدون في الإسلام الصوت والنفس اللذين كانت تنشدهما أرواحهم وأفئدتهم.

وحتى يعيش الناس مثل هذا الانبعاث عليهم أن يتوجهوا إلى الروح والمعنى منسلخين من القوالب والأشكال، وأن يصلوا إلى أفق حقّ اليقين عبر إجراء دراسات تفصيلية حول الأوامر التشريعية والتكوينية، وعلى حدّ تعبير الأستاذ “نجيب فاضل” فإنَّ عليهم حلجَ الحوادث والأشياء وتحليلَها وتوليفها؛ حتى يستخلصوا منها أقراص العسل وحزم المعاني الجديدة، لا بدَّ أن يواصلوا طريق المعرفة بِنَهَمٍ وشهيّة لا تعرف الشبع، وأن يرسّخوا إيمانهم باستمرار، وأن يجتهدوا في إحراز أفق الإحسان؛ بمعنى أن يعيشوا حياتهم في إطار فكرة: “اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وأن ينظموا حياتهم بحسب ذلك، وإلا صعب عليهم التخلّصُ من الاعوجاجِ والالتواءِ والسيرُ على استقامة.. إنَّ مما يؤسَف له أن كثيرًا من الناس قد افتتنوا بالدنيا، ولم يستطيعوا بلوغَ هذا الأفق من الإيمان والإخلاص والإحسان واليقين، فصاروا يقضون حياتهم في دوامة من الرغبات اللعينة مثل الاستمتاع في الفيلات والمنتجعات، وإشارة الناس إليهم بالبنان، وإحراز المناصب والمقامات.

إن من يعيش وفقًا لفكرة “اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” يشعر دومًا بمراقبة الله له، وتنمحي من أمام عينيه رؤية ما سواه.. فهو يشرع في عمله لله، ويعمل لأجل الله، ويعطي لوجه الله، ويأخذ لرضا الله.. والحاصل أنه في كلّ حركاته وتصرّفاته يحرص على رضا الله، ومن وصل إلى مقام الإحسان في عالمه الفكري والشعوري لا ينفكّ الإخلاص ورضا الله عن أعماله، ومن رُزق الإخلاص وفاز بالرضا استنارت كلُّ ثانية في حياته وتلألأت.

عودًا على ذي بدء؛ إن رأس الأمر هو الإيمان بالله؛ أي أن تؤمن بوجود الله تعالى ووحدانيته، ولكن ينبغي ألا يقتصر الإنسان على الإيمان السطحي التقليدي، بل عليه أن يسعى إلى تقويته وترسيخه؛ بحيث يكون لديه تصديق قاطع لا ريب فيه بوجود الله تعالى، وهو ما نسميه الوصول إلى مستوى الإذعان في الإيمان، والتشبّع به كلّيّة.. ولقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على العمل الصالح بعد ذكر الإيمان مباشرة، وكأن العمل الصالح من متطلبات الإيمان، ومن ثَمّ يجب على المؤمن الصادق -بالإضافة إلى إيمانه الراسخ بالله- أن يباشر أعمالًا طاهرةً نقيّة خاليةً من العيوب، سليمةً من الشرك والعجب والرياء، لا يستهدف من ورائها إلا رضا الله؛ بمعنى أن يجعل كلّ عباداته وطاعاته تدور في فلك الإخلاص.

ومثل هذه الحياة الإيمانية والتعبدية الدائمة تولِّد ما يسمى “محبة الله”، فالمؤمنون الذين يعيشون حياتهم بهذين البعدين الإيماني والتعبدي يحبون الله حبًّا جنونيًّا، فينشأ عن هذه المحبة “الشوق إلى لقاء الله”، وهذه هي الذروة التي ننشدها ونستهدفها، وهي الجديرةُ بأن نلحّ بالدعاء في طلبها، فالأمر يستحقّ ذلك، وقيمةُ المرء بقدر ما يطلبه، فمن يطلب رضا الله ورضوانه يصل إلى قيمةٍ تفوق جميعَ القيم، ولكن ينبغي للإنسان عند طلب هذه الذروة ألا يغضّ الطرف عن الطرق والجسور التي توصله إلى هنالك، ويعمل على قطعها واجتيازها منذ البداية واحدة تلو الأخرى.

فمع الأسف أزهِقت روحُ الدين، وسُرق عشقنا وحماسنا، وأُبعدنا عن ذاتيتنا، وأُدخِل الدين تحت وصاية الأنظمة والإرادات السياسية، وضُحِّيَ بالدين في سبيل أغراضٍ دنيويّةٍ زائلةٍ لا قيمة لها، ولم يبق إلا الإسلام الشكلي نتسلّى به.. وحتى مستوى عباداتنا الشكلية باتت محلّ نقاش، فلننظر ونحكم: هل إذا حزَبَنا أمرٌ ونحن نؤدّي عباداتنا ضيّعْنا هذه العبادات في سبيل هذا الأمر أم لا؟! وهل يا تُرى سننصرف عن الأوراد والأذكار بحجّة أننا نقوم بأمرٍ مهمّ؟! وإذا فعلنا ذلك كيف سنحبّب ربَّنا للآخرين ونحن لا نحبّه حبًّا جنونيًّا؟! وكيف سندعو الآخرين إلى سبيل الله ونحن أنفسنا لسنا على سبيله؟! وكيف سنكون وسيلة للانبعاث في عالم الإنسانية ونحن لا نعيش انبعاثًا في عالمنا الداخلي؟!

كل هذه أمورٌ نفتقدها.. ربما نُلزِم الآخرين بتكاليف معينة باسم الإسلام في حين أننا في هذا الموضوع نسير أضعف السير، فيا تُرى هل نحبّ الذات التي نعمل على تحبيبها للآخرين بالقدر الذي تشتاق إليها نفوسُنا؟ يُروى أن “فرحات” خرق الجبال من أجل حبه لـ”شيرين”، فماذا فعلنا نحن للوصول إلى محبوبنا؟ هل حلجنا كتابَ الكون لشعورنا بالشوق والاشتياق إلى ملء وعاء معرفتنا؟ هل لم نكتف بما في أيدينا وطلبنا المزيد؟ أي هل بذلنا جهدَنا ومساعينا في سبيل أن نحب الله صدقًا، ونكون عبادًا لربّنا حقًّا؟ هذه هي أكثر الأشياء التي نحتاجها.

فإن لم يكن لدينا مثل هذا العزم والثبات والجهد والسعي؛ فلن نتخلّص من التقليد، ولا يعدو إسلامنا أن يكون إسلامًا نظريًّا تقليديًّا، ومن كانت حالهم هكذا فلن يقدروا على إحداث انبعاثٍ جديد.

 

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، ص 188.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، ص 411.

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: السيرة الذاتية، ص 173.

حب الدنيا

Herkul | | العربية

حبُّ الدنيا لا حدود له عند الإنسان.. فالإنسان يتعلق بالدنيا ويركض وراء رغبات وأهواء لا تنتهي وكأنه لن يموت أبدًا، والعجيبُ أن هذه المشاعر لا تضعف ولا تقلّ أبدًا حتى وإن تقدم بالإنسان العمرُ، ففي الحديث الشريف: “لا يَزالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شابًّا في اثْنَتَيْنِ: في حُبِّ الدُّنْيا وطُولِ الأمَلِ”[1].

إن حبَّ الدنيا وطول الأمل أمورٌ يدعم ويغذّي بعضُها بعضًا، ومَن يحبّ الدنيا يعقدْ عليها آماله ويعشْ وكأنه سيُخلَّدُ فيها أبدًا.. فتوهُّمُ الخلودِ يأتي في المرحلة الأولى من طول الأمل.

وكما هو معلومٌ تحدّث بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله عن ثلاثة وجوه للدنيا[2]، وأشار إلى ضرورة الإعراض عن وجهها الذي ينظر إلى جسمانيتنا ويشحذ غفلتنا؛ لأن هذا الوجه هو الذي يجعلنا نركض وراء عرض الدنيا وكأننا سنخلد فيها، وهو الذي يُلهينا ويبعدنا عن ربنا عز وجل؛ بأن يُدخل في أذهاننا أوهامًا توحي بتوهّم الخلود.

ويُعرّف الأستاذ النورسي الدنيا في موضع آخر من رسائل النور فيقول: “الدنيا غدّارةٌ مكّارةٌ، إن متَّعَتْك مرّةً كلَّفَتْكَ وجرَّعَتْكَ ألفَ ألمٍ، وإن أطعمَتْك عنبًا مرّةً صفعَتْك ألفَ مرّة”[3]، وللأسف ينشد إنسان اليوم في هذه الدنيا الفانية ما يُكتسَب في الآخرة، ويحاول أن يناله في الدنيا.

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ

إن متاع الدنيا وملذّاتها المؤقتة يخدع الكثيرين، بل يمكن القول إن هذا الأمر قد ازداد بنسبة كبيرة في عصرِنا الراهن، وفي القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/3).. ومع أنَّ هذه الآية الكريمة قد نزلت في غير المؤمنين، وقصَدَت الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر، ويرون الدنيا كلَّ شيء؛ إلا أنه لا بدَّ للمسلمين أن يستلهموا منها الدروس والعبر.

وينبغي التوقّف عند أمرين مهمّين في هذه الآية: أولهما: هو صدّ الناس عن سبيل الله، والآخر: هو تعويج طريق الحقّ؛ وهذا يعني أن الإنسان الذي يؤْثر الحياة الدنيا على الآخرة عمدًا يتعرّض لإصابات خطيرة أو يُصاب بفيروسٍ من شأنه أن يدمّر حياته المعنوية دون وعيٍ منه، وإنسانٌ مصابٌ هكذا يتّخذ مع الوقت موقفًا مناهضًا للدين وللمؤمنين.. ولو رجعنا إلى كلام الأستاذ النورسي مرة أخرى نجده يقول: “إن في كلّ إثمٍ وخطيئةٍ طريقًا مؤدّيًا إلى الكفر، وكلُّ ذنبٍ يلج القلب يشقّ جروحًا غائرةً في قلوبنا، ويفجّر قروحًا داميةً في أرواحنا”[4]، ومن ثم لا بدَّ من تحديد خطِّ السير بشكل جيد للغاية في بداية الأمر، وتحقيق توازنٍ حقيقيٍّ بين الدنيا والآخرة.

إن الذي يجعل الدنيا هدفَه الأساس ومعشوقَه الحقيقي، ويقف بمعزلٍ عن الدين؛ يصلُ مع الزمن إلى نقطةٍ معيّنة، ويدخل في حلقةٍ مفرَغةٍ؛ بحيث إنه يظلّ بعيدًا عن الدين، ويسعى إلى صدِّ الآخرين عن سبيل الله أيضًا، وبذلك يحول دون وصول الناس إلى المعتَقَدِ الصحيح والفكر السليم؛ سواء كان ذلك عن قصدٍ منه أم لا.

 ثم إن مثل هذا الشخص يحرص على تعويجِ الطريق القويم الذي أرشدَ إليه الدينُ وتحريفِ مساره؛ فيتكلم ضدّ الدين، وينتقد القيم التي جاء بها الدين، ويصرف الناس عنها، ومن ثَمّ يقوده الطريقُ المعوجُّ الذي سلكه من البداية إلى أخطاء كبرى، ولو فتَّشْتم في أخيلتكم، وتجوَّلْتم داخل مجتمعكم، وراجعتم تجاربكم فستلاحظون أن نسبة كبيرة من هذه الأمور تحدث الآن، فالكثيرون ما زالوا يتخبطون في مثل هذا الغيِّ الذي انزلقوا فيه.

والواقع أن الحياة الدنيا ليست بالمكان الذي يجدرُ بالإنسان أن يختاره؛ لأن عاقبتها معروفة، فحتى ولو أراد الإنسان واجتهدَ فإنه لا ولن يستطيع البقاء في الدنيا على الدوام؛ فثمة رحلةٌ أمامه إلى القبر.. ولذلك يتحدّث بديع الزمان سعيد النورسي عن هؤلاء الذين يتشبّثون بالدنيا ويفضّلونها على كلّ شيءٍ بسبب طول الأمل وتوهّم الخلود فيقول: “يا أسفى! لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرّةً دائمة، وأضعْنا بهذا الظنّ كلَّ شيءٍ! نعم، إن هذه الحياة غفوةٌ قد مضت كرؤيا عابرة”[5].

وبما أن الدنيا قد انفتحت اليوم على الناس بكلِّ مفاتنها فقد انخدع بها الكثيرون، وعاشوا حياتهم وكأنهم خالدون فيها أبدًا، ولا جرم أن الركون إلى الدعة والراحة، والاشتغالَ بالأهل والعيال، والرغبةَ في العيش والبقاء؛ يصرف الناسَ عن شعور المجاهدة في سبيل دينهم.. لقد تسلّط حبُّ الدنيا على كثيرٍ من الناس، فدمَّر آخرتهم وجعلهم من الخاسرين.. ونظرًا لأنهم ركّزوا على الدنيا فقط، وأَوْلَوها كلَّ اهتمامهم؛ لم يستطيعوا التفكير أو رؤية شيءٍ آخر، ولو فعلوا فإن الدنيا تبدو أكثر جاذبيةً لهم، ولذلك فإنهم يستغلون اختياراتهم في هذا الاتجاه.

وإنهم بهذه النظرة يخسرون آخرتهم، كما يضيّقون الدنيا على أنفسهم، ويحوّلونها إلى سجنٍ لهم، فلا يجدون الراحة والسكينة فيها مطلقًا، وإنني أعجب من حال هؤلاء المولعين بالدينا! كيف ينغمسون في ملذّات الدنيا رغم علمهم بأن القبر يقف ماثلًا أمامهم بعظام السابقين النخرة، وأنهم عما قريب سيكونون تحت ترابٍ تنتشر فيه العقارب والحيات. ربما لا يتمكنون من فهم حقيقة الأمر بشكل كافٍ؛ بسبب ثملهم بالملذات الدنيوية أو لأنهم يعيشون نوعًا من التنويم المغناطيسي؛ وإلا فإن الحياة القصيرة التي تنتهي بالموت إلى القبر لا تُسمَّى حياة. وحياةٌ قصيرةٌ هكذا لا تكفي أن تُسعد الإنسانَ حتى ولو كانت قطعةً من الجنة، فما يجعل الجنةَ جنةً هو أبديتها، وارتباطُها بالله تعالى.

والملحدون مخدوعون تمامًا في هذه المسألة، بل وبعض المؤمنين أيضًا تغرّهم الحياة الدنيا فيفتنون بها، ويوجد أيضًا بين الذين كرسوا أنفسهم للغاية المثلى مَن استولت عليهم الدنيوية والعلمانية إلى حدٍّ ما، ولو اطّلعتم على حال أكثر الناس تديّنًا لوجدتم بينهم من يضع خططه وبرامجه وفقًا لدنياه؛ حيث أسَرَتْهم الراحة والركون إلى الدعة والخمول، وانهزموا أمام حرصهم وأطماعهم. فهذا الجرثوم الذي يعيش داخل الملحدين يصيب المؤمنين أيضًا ويُمرضهم روحيَّا، ويمكن القول إن هذا يقبع وراء كل سلوكٍ خاطئ.

الثبات والحزم أمام الدنيا

من أهم سبل الوقاية من شرور الأمراض المعنوية مثل حب الدنيا، والحرص والطمع فيها؛ تقويةُ الصلة بالله تعالى، فلو لم يقوِّ الإنسان صلته بالله تعالى بما يتناسب طرديًّا مع تقدمه في العمر فقد خسر في زمن هو أدعى للكسب، لقد كانت التكايا والزوايا قديمًا -وأقول قديمًا لأنها لم تعد في أيامنا تقوم بوظيفتها المنوطة بها- كانت تعطي جرعةَ مناعةٍ من تأثير مثل هذه الجراثيم، فكانت النفوس تجدُ من خلال التكايا والزوايا خلاصًا من هذه الأمراض بفضل تزكية النفس وتصفيتها وتنقيتها، لكن للأسف لم تعد هذه الفرصة متاحة الآن، فالكثيرون يركضون وراء دنياهم، ويعيشون حياتهم تبعًا لهواهم، حتى أصبح من المألوف إيثار الدنيا على الآخرة.. فالجميع يسعى بأقصى سرعة وراء الدنيا، لا همّ لهم سوى اقتناص أكبر قدرٍ منها، فإن لم ننتبه فمن الممكن أن نقع تحت التأثير الإشعاعي للأفكار والمشاعر الدنيوية، ونستهلك نِعَم الآخرة في الدنيا.

فمن الأهمية بمكان الوقوف في ثباتٍ وصمودٍ أمام الدنيا لا سيما في هذا العصر الذي تكشف فيه الدنيا عن مفاتنها المبهرة، وتُوقِعُ الناسَ في شباكها، ولكن هذا ليس سهلًا يسيرًا، فلا بدّ للذين يحسبون أنهم يتقدمون بخطى ثابتةٍ على أرضٍ تكثر فيها المزالق والعثرات أن يتوخّوا أعلى درجات الحذر، فثمة حاجة ماسة إلى بذل الجهد واستيفاء الإرادة حقّها، ندعو الله رب العالمين أن يثبت قلوبنا على دين الإسلام!

حاصل القول: إن الناس ولو شاخوا وتقدّم بهم العمر فإن حبّ الدنيا الكامن في داخلهم وتوهّم الخلود فيها، وغير ذلك من المشاعر لا تشيخ، بل تقوى وتزداد.. من أجل ذلك يجب بذل مزيد من الجهد لقمع هذه المشاعر الضارة وتهذيبها، والسبيل إلى ذلك هو التفكير في فناء الدنيا، ومحاسبة النفس، والشعور بالشوق إلى الله والآخرة، والتعلق بالعبادة، والاشتغال بالخدمة في سبيل الله كلّما زاد حبّ الدنيا والرغبة في المقام والمنصب وتوهّم الخلود، بهذا فقط يستطيع الإنسان حماية طريق سيره حتى نهاية العمر، فإن لم نتحكم في أهوائنا، ونحاسب أنفسنا، ونرغم النفس على عمل الصالحات؛ فلا يمكننا أن ندرك خطورة الأمراض المعنوية التي أشار إليها الحديث، ولا كيف أنها ستقلبنا رأسًا على عقب، حفظنا الله تعالى جميعًا من هذه العاقبة الوخيمة. آمين.

[1] صحيح البخاري، الرقاق، 5.

[2] الدنيا لها ثلاثة وجوه: الوجه الأول: ينظر إلى أسماء الله الحسنى ويبين آثار تلك الأسماء ونقوشها، وتؤدي الدنيا -بهذا الوجه- وظيفة مرآة لتلك الأسماء بالمعنى الحرفي، فهذا الوجه مكاتيب صمدانية لا تحد، لذا يستحق العشق لا النفور، لأنه في غاية الجمال. الوجه الثاني: وجه ينظر إلى الآخرة، فهو مزرعة الآخرة، مزرعة الجنة، موضع أزهار أزاهير الرحمة الإلهية، وهذا الوجه جميل كالوجه الأول يستحق المحبة لا التحقير. الوجه الثالث: وجه ينظر إلى أهواء الإنسان، ويكون ستار الغافلين، وموضع لعب أهل الدنيا وأهوائهم، هذا الوجه قبيح دميم، لأنه فانٍ، زائل، مؤلم، خداع. (الكلمات، الكلمة الثانية والثلاثون، ص 728).

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي العربي النوري، ص 280.

[4] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الثانية، ص 11.

[5] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة السابعة عشرة، ص 247.

إرساء روح الأخوة

Herkul | | العربية

سؤال: ما الذي يجب مراعاته حتى لا يكون تنوّع المشاعر واختلافُ الأفكار التي يحملها مَنْ يسيرون نحو هدفٍ واحدٍ سببًا للفرقة والخلاف؟

الجواب: بادئ ذي بدء أرى من المفيد التركيز على نقطةٍ أشِير إليها في السؤال أيضًا، فمن الأهمية بمكان أن يكون للإنسان غاية مثالية، وأن يحدّد لنفسه هدفًا ومقصدًا واضحًا، فالإنسان الذي يخرج لتبليغ دين الله في كل الأرجاء عليه أن يستوعب جيّدًا منذ البداية ماهية الطريق التي يسلكها، وخصوصياتها، وما الذي ستقوده إليه هذه الطريق، ولا يكتفي بربط الأمر بالتصديق العقلي، بل يحرص على أن يسير قلبه ومشاعره ولطائفه في نفس الاتجاه الذي يسير فيه عقله، وأن يحصر همّته ويبذل وسعه في سبيل تحقيق غايته المثالية، وأن يظلّ في هذا الاتجاه على الدوام.

القواسم المشتركة

فإذا كان هؤلاء الأشخاص المختلفون فكرًا وشعورًا قد تكاتفوا من أجل قضيّةٍ واحدةٍ، وحدّدوا الطريق التي يسيرون فيها والغاية التي يطمحون لتحقيقها، وتمكنوا من إقامة التعاون والتناغم القلبي فيما بينهم؛ فهذا يعني أن ثمة قواسم مشتركة تجمع بينهم.. ولا ننسَ أنه كلما زادت القواسم المشتركة بين الناس، وكلما زاد وعيهم بها؛ كان من السهل عليهم التفاهم والاتفاق؛ ولهذا السبب لفت بديع الزمان سعيد النورسي الانتباه إلى النقاط المشتركة التي تجمع بين المؤمنين في رسالته “الأخوة”، ورتّبها على حسب الأهمّيّة وسردها واحدةً تلوَ الأخرى.. وهذا أمرٌ لا بدّ من التأكيد عليه؛ فثمّة حاجة ماسّة إلى تحديد القواسم المشتركة واستيعابها جيدًا، ومن ثمّ تفصيلها، وتبليغها للناس بأسلوب لائق.

على سبيل المثال قد لا يكفي بالنسبة للجميع الحديثُ عن القاسم المشترك للإسلام من أجل إقامة الوفاق والاتفاق بين المسلمين، فهذه القضية تحتاج إلى مزيد من التفصيل والشرح ومشاركة المشاعر والأفكار، ولقد أشار الأستاذ النورسي رحمه الله إلى هذا الأفق بقوله: “إن خالقكم واحد، مالككم واحد، معبودكم واحد، رازقكم واحد… وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ الألف، ثم إن نبيكم واحد، دينكم واحد، قبلتكم واحدة… وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ المائة، ثم إنكم تعيشون معًا في قرية واحدة، تحت ظل دولة واحدة، في وطن واحد… وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ العشرة”[1].

والمقصود مما ذُكر هنا من أعداد مثل العشرة والمائة والألف ليس الكم بل الكيف، فبديع الزمان يلفت الانتباه بهذه الأعداد إلى أهمية القواسم المشتركة، فيعبر عن أهمية الكيف بالكم، وكما أن حقيقة الوحدانية تسبق حقيقة النبوة، فلا شك أن وحدة الدين والقبلة أسمى وأعلى من أن تُقارن بوحدة القبيلة أو العشيرة التي ينتسبُ إليها، فلو حُدّدت القواسم المشتركة بشكل جيد، وأُكِّدَ عليها في كل مناسبة؛ وتقبّلها الإنسان في عالمه القلبي والعقلي؛ فمن الممكن حينذاك منع الصراعات والنزاعات بنسبة كبيرة.

كلُّنا بشرٌ، نحمل أنواعًا مختلفة من الحساسيات ونقاط الضعف، ولا ريب أننا ننزعج أحيانًا من كلام البعض أو أفعالهم أو تصرّفاتهم، إلا أن للقواسم المشتركة التي تحدثنا عنها آنفًا تأثيرًا قويًّا في توحيد الصف وجمع الكلمة؛ حيث إن من يأخذ هذه القواسم بعين الاعتبار ويستخدم إرادته في هذا الاتجاه يمكنه أن يتجاهل عوامل الانقسام والإقصاء، ويغض الطرف عنها.. فإن عِظمَ القواسمِ المشتركة التي تُلزمنا بالوحدة والاتحاد تُصغِّر في عينيه عوامل الصراع وتقضي عليها، فيبادر هذا الشخص إلى أن يقمع بإرادته العديدَ من السلبيات التي لا يستطيع تقبّلها وفقًا لطبيعته الشخصيّة، ويقول: طالما ربنا واحد، ونبيّنا واحد، وقبلتنا واحدة، ونتقاسم همًّا واحدًا، ونعيش معًا في بلدة واحدة، ونسعد بأشياء واحدة، ونتعرض لهموم واحدة، فلِم أفسد الأخوة التي بيني وبين إخوتي؟!”.

الوفاء بحق الإرادة

ورغم ما ذكرناه فلا بدّ أن ندرك أنه لا يمكن تجنّب الخلافات تمامًا مهما فعلْنا، وهذا يرجع إلى سببين رئيسين:

الأول: أن الإرشاد والتبليغ والنزعةَ إلى الخير والتربيةَ قد لا يحدثون التأثير نفسه عند الجميع، فمهما حاولتم إقناع الناس بأيِّ غايةٍ مثاليّة، أو اجتهدتم في إعادة تأهيلهم أو في إنعاش المشاعر الإنسانية بينهم؛ فسيكون هناك بالتأكيد أناسٌ يتبعون النفس والشيطان، وقد لا يُحدث الوعظ والنصيحة والتبليغ والإرشاد التأثيرَ نفسه في الجميع.

 الثاني: أن الله تعالى خلق الناس مختلفين، وخصّ كلَّ فردٍ بسمات متباينة، فإن لم تُراع هذه الاختلافات؛ فقد تتحوّل إلى أداة للنزاع والصراع.

لذا فعلينا أن نفي بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا، وأن نبذل قصارى جهدنا لإبعاد الناس عن الأفعال والسلوكيات غير الإنسانية، وأن نبيّن لهم أنه لا يجدر بالإنسان الاعتداء على الآخرين واغتصاب حقوقهم والشجار معهم ومناطحتهم، ينبغي أن نسعى كلَّ ما في وسعنا في سبيل انسلاخ الناس عن الحيوانية، وانفصالهم عن الجسمانية، وارتقائهم في مدارج حياة القلب والروح.

ولو شاء ربك لجعل الناس أمّةً واحدة ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم.. لو شاء الله لجعل الناسَ على مشربٍ واحدٍ ومزاجٍ واحدٍ، وبالتالي فلا تتباين أفكارهم ومشاعرهم، ولا يتنازع أحدٌ مع أحدٍ، ومن ثم لا تعد هناك حاجة إلى الإرادة، بيد أن دخول الجنة تفضُّلٌ من الله على الإرادة على مستوى الشرط العادي، فالإيمانُ وفهم الإسلام والوصولُ إلى مشاعر الإحسان؛ كلُّها جماليّات أسبغها الله على الإرادة، والله تعالى ميّز الإنسانَ عن باقي المخلوقات بالإرادة، بل إن الإنسان يتميز عن الملائكة بقدرته على استخدام إرادته؛ لأن الملائكة لا يملكون إرادةً بالمعنى الذي نعرفه أو لديهم إرادة لكنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون.

وهكذا فإن ما يقع على عاتق الإنسان الذي تميّز عن سائر المخلوقات بالإرادة والاختيار هو الوفاء وإعطاء الإرادة حقها؛ حتى يستطيع العمل مع إخوانه في وفاقٍ واتّفاق، المهمّ هو أن يكون الإنسان قادرًا على القيام بذلك دون إثارة ضجّةٍ أثناء السير في الطريق متّجهًا نحو الهدف، وأن يكون على توافقٍ حتى مع الذين لا يفكّرون مثله، ولا يتصرّفون مثله، ويخالفونه في أفكاره ومشاعره. أجل، قد يتلاعب البعض بأعصابنا، وقد يخالفوننا في أحوالهم وأفعالهم وأفكارهم ومشاعرهم، وربما ننزعج بسير بعضهم وضحكهم وإيحاءاتهم، لكن الله تعالى قد أعطانا سلاحًا مهمًّا للتغلّب على مثل هذه المشاعر السلبية، فلو استخدمناه في محلّه؛ فلن نخضع لتأثير مثل هذه المشاعر والأفكار السلبية، ولن نسمح بانعكاسها على أفعالنا وتصرفاتنا، بل إننا ربما سنرى هذه الأفعال المنفّرة القبيحة بالنسبة لنا الآن أشياء جميلة ورائعة في المستقبل.

وجهة نظر

ولو لاحظنا فإن معظم المواقف والسلوكيات التي تصيب الناس بالتوتّر والعصبية ليست من الأشياء التي يحظرها الدين، غالبًا ما يرجع هذا الأمر إلى تقييماتنا الذاتية وعاداتنا ووجهات نظرنا، فمن يفكر بسلبيّة وينظر إلى من حوله بسلبيّة يرى المشكلات في الجميع، فيجد في كلّ واحدٍ فيهم ما يعيبه عليه أو ينتقده فيه، فنراه ينزعج من كلام هذا، ومن وقع أقدام ذاك، ومن نمط عمل ذلك، ومن سلوكيات هؤلاء.

ولبديع الزمان سعيد النورسي كلامٌ نفيسٌ في هذا السياق، حيث يقول: “مَنْ أحسن رؤيته حَسُنتْ رويّته وجمل فكره، ومن جَمُلَ فكرُه تمتّع بالحياة”[2]، فإذا نظرنا إلى الأمر بشكل معكوس فسنلاحظ أن الشخص الذي يفكر بسلبية، ولا تقع عينه دومًا إلا على الجانب القبيح من الأشياء، ويضخّم الأشياء الصغيرة؛ فإنه دائمًا يسخط على حياته، وينزعج ويضيق صدرُه من كل ما يراه ويسمعه؛ لأنه يقيس كلَّ مسألةٍ بمعاييره الذاتية، والأدهى من ذلك أنه يحكم منذ البداية على أيّ موقفٍ أو سلوكٍ بأنّه مزعج، ولا ينفكّ عن التفكير في ذلك في حِلِّه وترحاله، فيجعل حياته غير قابلة للعيش فيها، ولو أنه عوّد نفسه على التفكير بشكلٍ جميلٍ؛ فسيتجاهل ويتعامى بعد فترة كلَّ هذه الأمور السلبية، فلا يزعجه تنوُّع المشارب والأمزجة والمذاهب. ولكن أنوه مرة أخرى على أن هذا منوطٌ باستيفاء الإرادة حقها، وبذل الجهد قليلًا.

الجنة محفوفة بالمكاره

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكارِهِ[3] وهذا يعني أننا سنواجه صعوباتٍ شديدةً على النفس عند السير في طريق الجنة، فكما أن أداء العبادات على الوجه الأكمل، والابتعادَ عن المحرمات يثقلان على النفْس؛ فإن تحمُّلَ رفقاء الطريق، والصبرَ على أذاهم وجفائهم أيضًا؛ لَيُعدَّان من مشاقّ الطريق إلى الجنة.

ويتوقّف التغلّب على هذه الصعوبات على التعمّق في الإيمان، والتخلّق بأخلاق الإسلام، فإذا أصبح الناس يعانقون بعضَهم ويتراحمون فيما بينهم بعدما كانوا في الجاهلية ينهش بعضُهم لحم بعضٍ، ويتناحرون فيما بينهم؛ فهذا يرجع إلى التخلّق بأخلاق القرآن والإسلام، لا ريب أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ذوي أمزجة وطبائع مختلفة، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه كان يختلف طبعه تمامًا عن طبع عمر رضي الله عنه، وكذلك كان أبو ذر وعثمان رضي الله عنهما، ورغم كل هذه الفروق في الأمزجة والطبائع أقاموا أخوّة ملحميّة فيما بينهم، وبحسب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا[4] كانوا متشابكين بإحكام مع بعضهم البعض، وحتى وإن وقع بينهم موقفٌ غير لائق أحيانًا فسرعان ما كانوا يعالجونه، وقد صار هذا المجتمع بطلَ الإرادة بفضل قدرته على استيعاب الوحي جيّدًا.

فلو أننا جعلنا الإيمان والإسلام والإحسان جزءًا من فطرتنا لاستطعنا ترقيق حدّة طبعنا، وتهذيب مشاعرنا السلبية شيئًا فشيئًا، وأدركنا حينئذ أن ما كنا نعتبره مشكلة حتى ذلك اليوم لم يكن كذلك في الحقيقة، واستوعبنا فكرة خلقِ الله تعالى كلَّ إنسانٍ على مزاجٍ مختلِفٍ وطبيعةٍ متباينةٍ، وقيّمنا تصرفات الآخرين وسلوكياتهم بمعايير الدين وليس بمعاييرنا الذاتية.

ولا ننسَ أن الإنسان جُبِل على اقتراف الذنوب وارتكاب الأخطاء، وأن له عدوين لدودين هما النفس والشيطان.. فإذا توقعنا أنه سيظلّ طوال حياته لا ينحرف عن الاستقامة ولن يقترف أيّ ذنبٍ؛ فقد نُصاب بخيبة أمل؛ حيث إن كلَّ شيءٍ متوقَّعٌ من الإنسان؛ لأنه مخلوقٌ مؤهّل للتنقل في ساحةٍ واسعة بين أعلى عليين -وهي أرفع مكانة يمكن لمخلوق أن يصل إليها- وبين أسفل سافلين -وهي أحطّ وأدنى دركة يمكن لمخلوق أن يتدنى إليها- فينبغي أن يسلِّم الإنسان بهذه الحقيقة في البداية، وأن يقيم علاقاته مع الناس على هذا الأساس، وأن يأخذ في اعتباره ما يمكن أن يصدر منهم من سلبيات.

فهل يأمن أحدُنا على نفسه في هذا الموضوع؟! أو مَن منا يودّ أن تُكشف عيوبه وتظهر أخطاؤه؛ فيبتعد عنه أصدقاؤه؟! يجب أن نعلم جيدًا أن ما نتوقّعه من الناس يتوقّعه الناس منّا أيضًا، المهمّ هو أن نعرف كيفية التعامل مع الناس على الرغم من اختلافاتهم وأخطائهم وعيوبهم، وأن نجد وسيلةً للتوافق معهم، وألا نسمح للسلبيات بأن تفسد الوحدة والتضامن فيما بيننا.

أولى الأولويات

يجب على الذين استهدفوا أعلى مرتبةٍ -وهي رضا الله- وحصروا همتهم على أسمى هدف -وهو دعوة الناس إلى الله- أن يكونوا متسامحين أكثر مع رفقاء دربهم لا سيما على من نذروا أنفسهم، والذين يتبنَّون هذه الفكرة لا يضخّمون الأشياء الصغيرة، ولا يجعلون من اللامشكلةِ مشكلةً، ولا يفسدون الأخوّة التي فيما بينهم، لأنهم يعلمون أن طريق الحق تحفّه بعض الصعوبات والمشقات ويتحملون ويصبرون على هذا، نظرًا لأنهم يعلمون أن الوفاق والاتفاق هما أعظم وسيلة للفوز بالتوفيق الإلهي فإنهم لا يحوِّلون وفاقهم واتفاقهم إلى خلافات وصراعات؛ حتى لا يكونوا حجر عثرةٍ أمام عناية الله.

من المتعذر اليوم أن نقول: لقد تمكّنّا من تأسيس أخوّة قويّة بالقدر الذي تحقّق بين المهاجرين والأنصار، ورغم هذا فإن قدرتَنا على السير في هذا الطريق دون صراعٍ أو خلافٍ كبير بيننا يُظهر بوضوح أن عنايةً من الله تشملنا.. فإذا كان الله تعالى يقابل هذا القدر الزهيد من الأخوّة بهذا القدر الوافر من العناية والرعاية؛ فربما لا تقع بيننا مشاكل كبيرة بفضل الأخوّة القويّة الصادقة التي سنعزّزها فيما بيننا، ومَنْ يدري! فقد يتفضّل المولى علينا بألطافٍ ونِعَمٍ كثيرة، وحينذاك نحن أيضًا لن نهدر قوتنا وطاقتنا بمحاولة معالجة المشاكل والاضطرابات فيما بيننا وتعويضها، ولكن سنستخدمها للقيام بتنفيذ خدماتنا على نطاق أوسع فأوسع.

إن إقامة روح الأخوة على المستوى المطلوب تعتمد على التركيز خاصةً ودومًا على الأخوة وتحفيز الناس على ذلك. أجل، يجب أن نركّز باستمرار على فكرة الإيمان وشعور الأخوّة وفلسفة الخدمة؛ بغض النظر عن الأسماء والألقاب والنظام والأداء والبيروقراطية والإدارة، وأن نبذل جهودنا لتطوير هذه المفاهيم بكل جوانبها في الأرواح، وأن نُعِدّ البرامج ونطوِّر الأنظمة وننشئ المنظمات من أجل إنعاش هذه الجهود والمساعي، ولا بد أن يكون الموضوع الأساس في اجتماعاتنا هو مذاكرة المسائل المتعلقة بالله ورسوله والدين والإيمان، لا بدّ أن نركّز على هذه الأمور لدرجة أننا ننسى ما لا بد أن نناقشه أحيانًا من أجل الخدمة، ولا نتذكّره إلا أثناء الخروج من الباب، وعندها نقول مثلًا: “لقد سمحوا لنا بفتح خمس مدارس في المكان الفلاني”، أو نقول: “ما دمنا قد اجتمعنا فلنتشاورْ حول هذه المسألة أيضًا”.

إننا مع الأسف قد أفسدنا ترتيب الأولويات، واعتقدنا أن القضايا الثانوية هي القضايا الأصلية، ومن ثم فعلينا أن نعلم أننا إذا أخّرنا ما لا بدّ من تقديمه، وقدّمنا ما لا بدّ من تأخيره؛ فلن نتخلّص من الصراعات والنزاعات، ولن نتغلّب على المشاكل والاضطرابات.. فبعضُ المشاكل التي نشهدها اليوم تكمن وراءها مثل هذه الأسباب.. فإن وضعَ الإستراتيجيات وإعدادَ البرامج وتنظيمَ الأنشطة وغيرها من القضايا المهمّة التي تصبّ في مصلحة الخدمة ليست هي القضايا الأكثر أهمّية لدينا.. إن أهم شيءٍ بالنسبة لنا هو أن نحافظ على ذاتيتنا، وأن نتغذى روحيًّا، وأن نكتشف أعماقنا مرّة أخرى، وأن نبتغي بذلك رضا الله دائمًا، وأن نحرص على القيام بما يحملنا إلى أفق الرضا، أو كما نقول دومًا: الحديث عن الحبيب جل وعلا.

[1] بديع الزمان سعيدد النورسي: المكتوبات، المكتوب الثاني والعشرون، ص 321.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، نوى الحقائق، ص 372.

[3] صحيح مسلم، الجنة، 1.

[4] صحيح البخاري، الصلاة، 87؛ صحيح مسلم، البر والصلة، 65.

معضلة الأسلوب في التبليغ

Herkul | | العربية

إن كلَّ مؤمنٍ مكلَّفٌ بتبليغ دينه في حدود قدراته ومؤهلاته وإمكاناته وموقعه، لكن معرفة الكتاب والسنة سطحيًّا لا يكفي وحده لتبليغ الدين، فلا بد من وضع خطة جيدة وتحديدِ ما ينبغي القيام به في البداية لتحقيق هذه الوظيفة المهمة، لكن للأسف لما لم يتّبع العديدُ من المسلمين اليوم المنهج السليم في الإرشاد والتبليغ صرفوا الناسَ عنهم، بل ونفّروهم من الدين، علمًا بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “بَشِّرُوا وَلَا تُنفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعسِّرُوا”[1]، فمن الأهمية بمكان عدم التشديد في قضايا الدين، وعدم إشعار الناس بأنها شيء غير قابل للتطبيق، وعدم صرف الناس عنه.

إن الدين الإسلامي يقوم على اليُسْرِ والتيسير.. وإن الغلوَّ في الدين، والتنطّعَ فيه، وعدمَ مراعاة طبائع البشر وفطرتهم لهو أمرٌ يخالف روح الدين.. فقد أوصانا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بتجنّب الغلوّ في الدين، وأمرَنا بالتيسير والتبشير، ونهانا عن التعسير والتنفير، فينبغي للمؤمن الحقيقي أن يراعي ما يجذب الناسَ ويجتنبَ ما ينفّرهم، وأن يكون ديدنُه تيسيرَ الأمر على الدوام، وأن يحاول أن يكسب القلوب باللين والشفقة.

صرف الناس عن الدين

للأسف ينفِّر الكثيرون اليوم الناس من الدين بسبب شدتهم وغلظتهم.. ونظرًا لجهلهم بما يبلّغون ومتى وأين يبلغون، ولعدم تمكّنهم من تحديد الأسلوب الملائم لكلّ مخاطَبٍ يحصل لدى الناس استياءٌ ونفورٌ من القيم الدينية.

وإننا اليوم لنعاني أشدَّ المعاناة بسببِ عدمِ امتثالِ المسلمين بما فيه الكفاية لنهج النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ والدعوة، وعدم عرضهم القضايا الدينية بحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ كما ينبغي.. ولهذا السبب نفر الآخرون من الدين، وابتعدوا عن المسجد، وانتابهم الخوف والذعر منا بسبب لجوئنا إلى الشدّة والعنف والغِلظة والفظاظة في عرض القضايا الدينية؛ فانصرفوا عنا.

 لقد حطَّمْنا آمالَ الناس بأسلوبنا الخاطئ ومنهجِنا القاصر في التبليغ، إذ إننا لما كاشفْنا الناس بأخطائهم، وحكمنا بعدم أهليتهم وكفاءتهم، وصعَّبنا الدين عليهم؛ أخلَلْنا بالعلاقة بين الله تعالى وعباده، واضطررْنا إلى دفع فواتير باهظة بسبب أخطاء بسيطة وقعنا فيها.

وقد طرقَت أسماعَنا عباراتٌ مؤلمةٌ من قبيل: “ذهبتُ مرة إلى المسجد لأداء صلاة العيد، وليتني لم أذهب!”، كما شهدنا انصراف الكثيرين عن المسجد بسبب الإمام، كما أدّى كلام بعض الوعاظ إلى نفور البعض من الدين؛ وهذا يعني أننا نتعنّت في تبليغ أوامر الدين، فيا تُرى ما الأشياء السلبية التي تكلمنا فيها مع الناس فأبعدناهم عن الدين؟

لنضرب على ذلك مثالًا برجلٍ دخل المسجدَ مرَّةً واحدة لأداء صلاة العيد، فلو حدث وقلتم له: “طوال العام لا تغدو إلى المسجد، ولا تصلي الجُمَع! ثم تنتظر أن يعفو الله عنك لشهودك صلاة العيد فقط!”؛ فسيعتقد أنه من العبث مجيئُه، ولن تطأ قدمُه عتبةَ المسجد مرة أخرى.. بيد أن ما يقع على عاتق رجل الإرشاد والدعوة هو دعم مثل هذا الشخص بكلامه وأفعاله، والأخذ بيده، وعدم السماح بأن ينقطع عن المسجد مرة أخرى بعد ما وطِئَتْه قدمه.

ربما يتخذنا هؤلاء الأشخاص الذين جاؤوا إلينا وطرقوا بابنا مصاعدَ ومعارجَ يرتقون بها إلى الحقيقة، فأرادوا أن يسترشدوا بكلامنا وسلوكياتنا وأحوالنا وتمثيلنا كي يصلوا إلى حيث ينبغي، لكننا أخفْناهم بما رأوه وسمعوه منا وبما لاحظوه من أفعالنا وتصرفاتنا، فأبعدناهم عن الدين ونفّرناهم منه.. والحال أن ما يقع على عاتقنا هو التبشير وليس التنفير.. فإن لم تعرضوا المسألة على المخاطب على أنها شيء سهل وقابل للتطبيق لا سيما في بداية الأمر؛ فسيخاف منكم ويفرّ بعيدًا عنكم.. فمن الأهمية بمكان تيسير الأمر على الناس، وتحاشي تعقيده، وإظهارُه كفكرةٍ قابلةٍ للعيش والتطبيق.. فحتى ولو كنتم تخبرون الناس بأجمل الحقائق، وتضعونهم على الصواريخ والمركبات والطائرات التي تقلّهم إلى الجنة؛ فما زال يتعين عليكم التعامل برفق وعقلانية مع الأمر، وإلا فرّوا منكم، وابتعدوا عن الدين، وبالتالي يسقطون في الضلالة، ويتدحرجون في مهاوي الجحيم.

وبصورةٍ ما أصبحت الشدة والغلظة جزءًا من ثقافتنا، وشاع الضرب والشدة في المكاتب والمدارس ودورات تحفيظ القرآن الكريم، وصارت صورة الشيخ الممسك بالعصا شيئًا اعتياديًّا، فإن لم تُرَ العصا الطويلة بجانب الشيخ توهّم البعضُ قصورًا في المشيخة، ولكن الذين فرّوا من المسجد بسبب الضرب، وابتعدوا عن القرآن، ونأوا بأنفسهم عن الدين؛ ليسوا بالقليل على الإطلاق.. وأنا شخصيًّا أنزعجُ فطريًّا من الشدة والعنف، وإذا قوبلتُ بهذه المعاملة يومًا ما أنفر من مذاكرة دروسي ذلك اليوم، والواقع أن معظم الناس هكذا، فالعنف يصرف الناس عن الحقّ، ولكن للأسف أصبحْنا نقدّس الضرب بحجة أن “الضرب من الجنة”! والحقيقة أن في  الجنة حبًّا وودًّا وعفوًا ورحمةً، فالله تعالى يُذهب عن الإنسان كلَّ صنوفِ الغلّ والحقد والحسد والغضب والحزن، وبالتالي فهذه كلها تصوّرات خاطئة وأساليب غير صحيحة في المجتمع، وتنفير للعباد من ربهم، وليس من السهل تصحيح هذه الأخطاء.

النهج النبوي في ترغيب الناس بالدين

الإرشاد والتبليغ أساس مهمّ للغاية في الدين، بل هو مهمة الأنبياء؛ ولذا يجب على المؤمنين أن يعملوا كل ما بوسعهم لتحقيق هذا الأمر، ولكن لا ننسَ أن الدين هو الذي أمر بالإرشاد والتبليغ، وهو الذي يعلّمنا -أيضًا- كيفية القيام به، فلا يجوز أن ننحّي جانبًا حقائق القرآن الذهبية وبيانات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النورانية، ونضعَ إستراتيجيات توافق أهواءنا ورغباتنا.. فإذا ما عملنا بما يخالف نهج نبينا صلى الله عليه وسلم أبعدنا الناسَ -دون وعي مِنّا- عن الدين، فمهما كانت نوايانا، وطالما كان أسلوبنا فاسدًا ومنهجنا خاطئًا فسنتعرض للصفع خلاف مقصدنا.  

بناءً على ذلك فإن أسلم طريق ينبغي اتباعه في هذا الموضوع هو طريق سيد الأنام صلوات ربي وسلامه عليه.. فلقد قام صلى الله عليه وسلم بنشر تكاليف الدين على مدى ثلاث وعشرين سنة دون الإساءة لأحد أو إخافته، وقام بتأهيل الجميع فردًا فردًا، حتى جاء يوم أصبحوا يقومون فيه ربما بأشد التكاليف وأصعبها بحبٍّ وطواعيةٍ.. وبفضل هذا التدريب والتأهيل على مدى ثلاث وعشرين سنة أوصلهم إلى هذا المستوى الراقي، ففي جوٍّ كهذا نشأ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المبشرون بالجنة والصحابة الكرام، ومن ورائهم التابعون الفخام، وتابعو التابعين، رضي الله عن الجميع، فلقد تخلّق هؤلاء بالأخلاق النبوية، فلم يتخلّوا بتاتًا حتى عن أدنى مسألة دينية، ووقفوا بحزم وصلابة أمام صفات الكفر، وبذلوا جهدهم من أجل محوِ الجحود والكفر من الأرض، وتعبيد الطريق لوصول الناس إلى ربهم، وفي النهاية عرّفوا الكثيرين بالحق والحقيقة.. وعلى ذلك فإن حلّ جميع المشاكل التي نشهدها في ساحة الإرشاد والتبليغ لا يكون إلا بالنهج المحمدي.

والواقع أن القرآن والسنة يحتفيان بأدلّةٍ متعدّدةٍ يمكننا أن نستخدمها في عملية الإرشاد والتبليغ، المهم هو تحديد ما يصلح منها لمخاطبة الناس على اختلاف طوائفهم ومستوياتهم، ولكن نظرًا لجهل بعض المسلمين اليوم بهذا، وعدم استعمال هذه الأدلة في مكانها الصحيح حدثَ نوعٌ من النفور إزاء القيم الدينية، بيد أن عرض مسائل الدين بأسلوب محفِّزٍ ومثيرٍ؛ له أهمية بالغة في التأثير على السامعين، فالدين ذو هويّة متكاملة من جميع الجوانب، ويخلو من أيّ نقصٍ أو عيبٍ، وما يقع على عاتقنا هو اتباع الأسلوب الأمثل في الإرشاد والتبليغ، ولفت أنظار الناس إلى جماليات الدين بأقوالنا وأفعالنا، وإن جاز التعبير فتح شهيتهم إلى الدين.

مريض دون مرض

يجب أن نضع في الاعتبار طبائع الناس عند تبليغ جماليات الدين، وتحديد الأسلوب الأمثل الملائم للجميع، والاستعانة بالشواهد والأدلة التي تتوافق مع الجميع على اختلاف فطرتهم وطبيعتهم، وإلا تساوت الدعوة إلى الدين مع التنفير منه، وانصرف الذين يُتوقَّع انجذابهم إلى النور الخالد صلى الله عليه وسلم عنه، وصار من المتعذر ردّهم إليه مرة أخرى.. ومن ثم ينبغي اتباع أسلوب معين حتى عند تبليغ حقيقة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” التي هي أصل المنهج؛ حتى لا نُفاجأ بنتائج غير مرغوب فيها.

وللأطباء قول نفيس: “لا يوجد مرض بل يوجد مريض”، ولا يعني هذا عدمَ التسليم بوجود المرض، ولكن لكل مريض مرضٌ مختلف؛ ولذلك يجب عند تشخيص أيِّ مرضٍ من وضع حال المريض بعين الاعتبار، ثم الشروع في التداوي، ولا تختلف مسألة الأسلوب في الإرشاد والتبليغ عن هذا.. فلا بدّ من تقييم وضعِ كلِّ مخاطبٍ بحسب طبيعته العامة وثقافته التي نشأ عليها، ووضع كلِّ هذا بعين الاعتبار عند التعامل معهم، فما يصلح لشخص لا يصلح للآخر، والمنهج المفيد لواحد قد يتسبب في ردِّ فعلٍ عند الآخر.

الأصل في الإرشاد والتبليغ هو إيصال “المعروف” إلى الأفئدة بكل جمالياته، وتبغيض الناس وتنفيرهم من “المنكر”؛ بتعبير آخر: إنقاذ الناس من الانحرافِ والسيرِ في طرق ملتوية، فإن لم تصحِّحْ أقوالُكم وأفعالُكم اعوجاجَهم وتسببت في انحرافات جديدة لديهم؛ فهذا يعني أنكم أضررتم بالدين، فإذا كانت الدعوة على لسان شخصٍ ما ستتسبّب في رد فعل لدى مخاطَبٍ معيَّن؛ فيجب تكليف شخص آخر بمخاطبته، وعلى الداعي أن يستسيغ هذا الأمر، فلا حقّ لكم في كسر خاطر أحدٍ أو إبعاده عن الدين بسبب أقوالكم وأفعالكم وتصرّفاتكم، فالصدقُ ومعرفة الحقيقة لهما أهمية بالغة.. ولكن لا بدّ من التعبير عن الحقيقة بشكلٍ صحيحٍ، أو الإعراض عن ذكرها أحيانًا وتحيّن الوقت المناسب للتعبير عنها فيما بعد.. فكما قال بديع الزمان سعيد النورسي: “عليك أن تقول الحقَّ في كلّ ما تقولُ ولكن ليس لك أن تُذيع كلَّ ما هو حق، وعليك أن تَصْدُقَ في كلِّ ما تتكلمه ولكن ليس صوابًا أن تعلن كلَّ حقيقة”[2].

فمع الأسف يقع الكثيرون ضحية لمثل هذه السلبيات، وقديمًا عندما كان يقابل أستاذٌ أستاذًا آخر يقول له: كم شخصًا قتلتَ”؛ يعني كم شخصًا نفرَ وابتعد من بيوت العلم والعرفان بسببك؟! وجعلته يُهلِك نفسه بنفسه؟! واجبُنا هو إزالة العوائق بين العباد ورب العباد سبحانه وتعالى، والأخذ بأيديهم إليه.. فإذا كان هذا واجبنا فإن عاقبتنا ستكون وخيمة إذا أبعدنا الناس عن ربهم بسبب أسلوبنا الخاطئ، أو شدّتنا وعنفنا وجهلنا بالأمر.. لا بدّ أن يتحلّى أسلوبُنا بالجاذبية التي تقرِّب الناس من الدين، فالحقّ والحقيقة لا يتحمّلان مطلقًا الأسلوبَ المبتذلَ، ولا الفظاظة والغلظة والوقاحة.

 

[1] صحيح البخاري، العلم، 11؛ صحيح مسلم، الجهاد، 6.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب الثاني والعشرون، ص 323.