العيش بعزة وكرامة

العيش بعزة وكرامة
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

المؤمن عزيز بإيمانه وإسلامه، وكما قال الفاروق عمر: “نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة بغيره أذلّنا الله”، فالعزيز بحقٍّ هو الله، لا يقهره شيء، يعزّ من يشاء ويذلُّ من يشاء، له الحول والقوّة، فمن لجأ إلى حوله وقوته استطاع التغلّب على كلّ العوائق والمشكلات.

المؤمن عزيزٌ، ومصدرُ عزّتِه هو الله، فلا يتذلّلُ إلا بين يديه سبحانه وتعالى، لأنه عبدٌ يتعامل مع الله بأعلى درجات الحياء والتواضع ونكران الذات، ويقف أمام الله في انقيادٍ تامٍّ وعبودية خالصةٍ، ويضع جبهته على الأرض ساجدًا يدعو ربَّه ويتضرّع إليه وحده دون سواه؛ ذلك لأنه يعلم جيّدًا أن عزّته بقدر عبوديته لربه، ويؤمن يقينًا أن قيمته الحقيقية تنبع من هذه العبودية، لا يأبه لما يعتبره أهل الدنيا من مظاهر العظمة، ولا ينحني ويضعف أمامها، بل يقف شامخًا محافظًا على عزّته وكرامته، لا تغريه مفاتنُ الدنيا ومقاماتها ومناصبها ولا تجعله يحيد عن طريقه أو يتخلّى عن قيمه، ومثل هذا الشخص الذي يرجو من الله ما يرجو يمكنه -على حدّ تعبير الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي- أن يتحدّى جميع الكائنات.

وفي الحديث الشريف: “شَرَف الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ[1]؛ أي يقنع بما أمدّه الله من إمكانات وما أحسن عليه من نعم، لا يستجدي أحدًا، ولا ينظر إلى ما في يد أحد، ولا يمدّ عينه أو يده إلى مال أحد أو ممتلكاته، ولا يتطلّع إلى مقامه أو منصبه؛ لأنه لا يتشوّف إلا إلى رضا الله سبحانه وتعالى، فهو يتحرّى مراد الله ورضاه في كلِّ ما يقوم به، ولا شكّ أن التخلّق بهذه الأخلاق هو أسمى من فتح العوالم.

والواقع أنه ليس من اليسير أن يصل الإنسان إلى مثل هذه المشاعر الصافية النقية في عصرنا الراهن الذي تسود فيه الأنانية والغرور، وحب الذات، واتباع رغبات النفس وأهوائها، وحبّ الراحة والدعة والخمول.. فالطرق التي نسلكها مليئةٌ باللوثيات، والجسور التي نعبرها محفوفةٌ بالمخاطر، والمناظر التي نراها مربكةٌ للغاية، والأحداث الجارية تكدّر الأنظار وتشوّش الأذهان، والذنوب تنتشر في كلِّ مكانٍ ممتزجةً بالتقاليد والعادات، والجميع يركضون وراء ملذّات الدنيا بلا وعيٍ، ويضحّون بكلّ الفيوضات الأخروية في سبيل الدنيا، غير مدركين أنهم ينجرفون نحو الثقب الأسود؛ ولهذا يبدو من الصعب الحفاظ على سلامة الروح والقلب والحسّ دون عناية الله وتوفيقه.

ومع هذا فلا يزال هناك العديد من الناس الذين يتشوّفون إلى رضا الله ورضوانه رغم كلّ المغريات الدنيوية، لأنهم يعلمون جيدًا أن آلاف السنوات من السعادة في الدنيا لا تقارن بساعةٍ واحدةٍ في الجنة، وأن آلاف السنوات من السعادة في الجنة لا يمكن أن تضاهي دقيقةً واحدةً من رؤية جمال الله سبحانه، ويؤمنون بأن نعيم الجنة يفوق بكثيرٍ أيَّ لذةٍ أو متعةٍ في الدنيا.

بيد أن هؤلاء يمرّون بمختلف الامتحانات، ويتعرّضون لشتّى المحن والابتلاءات، بل هناك فترات لا ينفكّ عنهم الظلم والجور، ولا تبرحهم التحقيقات والمحاكم والسجون، ونظرًا لأنهم يعلمون أن إيمانهم بربهم وارتباطهم به هو أكبر عزٍّ لهم لا يغيرون موقفهم رغم ما يلاقونه من أذًى وقمعٍ واضطهادٍ، ومهما حاول البعضُ إذلالهم يظلّون أعزاء طالما حافظوا على إيمانهم بربهم بكلّ كيانهم، ولهذا لا يخافون ولا يكترثون ولا يتراخون، والإنسان الذي يؤمن بقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/139) يعلم أنه عزيز حتى عندما يقع تحت نير الظلم والجور.

أما الجهلاء الذين أسكرتهم القوّة والنفوذ والمقام والمنصب فيحسبون أنفسهم أعزاء، ويرون معارضيهم وخصومهم أذلّاء، ومهما حاول الفراعنة والنماردة والطغاة والمستبدّون أن يتظاهروا بالقوة والعزّة والشرف فهم الأذلّاء في الحقيقة؛ لأنهم أصبحوا عبيد القوة والمقام وحُبِّ السلطة.

فمن حافظ على شرف العبودية لله لا يستذلّه أيُّ شيء؛ لأنه بفضل عبوديته لربه سبحانه وتعالى نال حريته الحقيقية وتحرّر من العبودية لغير الله، ومثل هذا الشخص لا يكون عبدًا للمقام ولا للفرص، ولا تُغلّلُ عنقَه القوةُ والنفوذ والصيت والشهرة، ولا يأسره الخوفُ والطمع وطول الأمل وحبّ الدنيا، ومن ثَمّ لا توجد نعمةٌ أعظم من العزة والرفعة اللتين ينالهما العبد بفضل عبوديّته لربّه..

فإذا كنتم تعتبرون الانتسابَ إلى الله أعظمَ مقام ومنصب فلا أحد أعز منكم، وإن كنتم تشعرون من أعماق قلوبكم بشرف الانتساب إلى أمّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلا أحدَ أعز منكم، وإن كنتم ترضون بالإسلام دينًا فلا أحد أعز منكم، فمهما أقدم الظالمون على نفيكم وممارسة ما لا يُتصوّر من الظلم نحوكم، فإنكم تتحرّكون ضمن دائرة الكسب والفلاح طالما حافظتم على انتسابكم وصلتكم مع ربكم.

منذ فجر التاريخ وإلى الآن يضطرّ الأنبياء والمصلحون إلى ترك ديارهم وأوطانهم فرارًا من شر الفجّار والكفار.. فكما ذكر القرآن الكريم فرّ سيدنا موسى عليه السلام إلى “مدين” ليأمن شرّ فرعون، وهاجر مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم من مكةَ المكرمةِ مسقطِ رأسِه إلى المدينة المنورة بسبب الظلم الذي تعرّض له، كما اضطرّ كثيرٌ من الأنبياء الآخرين مثل إبراهيم عليه السلام إلى الفرار من شر الظالمين ومؤامراتهم ومكائدهم، فهذا ليس ذلًّا، ولكنه كما جاء في القرآن الكريم: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/50) فرارٌ إلى الله وتوجُّهٌ إليه.

وبهذه النظرة يمكن تفسير هجرة البواسل -الذين وهبوا أنفسهم للخدمة الإيمانية والقرآنية- إلى البلاد الأخرى إذعانًا للُّطف الجبريّ.. ربما ينشر البعضُ الأخبار الكاذبة عنكم، ويختلقون الأكاذيب والافتراءات بشأنكم، ويصدرون قرارات الاعتقال بحقّكم والقوائم الحمراء بشأنكم، ولا يدعونكم تعيشون في سلامٍ في دار الهجرة، ولكنكم لا تعلمون كيف ستتمثّل كلّ هذه الممارسات أمامكم يوم القيامة؛ ربما تُعرض عليكم كشهادات براءةٍ على يد الملائكة، وتكون قرارات الإدانة التي صدرت بحقّكم في هذه الدنيا وسيلةً لنجاتكم في الدار الآخرة.

خلاصة القول: لا تحيدوا عن الاستقامة، وفضِّلوا الموتَ في عزّةٍ على الحياة في ذلّة؛ حتى وإن حاول البعض تسميم حياتكم وتحويلها إلى جهنم بحقدهم وكراهيتهم.. إذا توجّهتم إلى الله واستحضرتم معيّته، واعتقدتم بأن العزّةَ في العبوديةِ له، والانتسابِ إلى أمة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، والتمسُّكِ بدينه ليس إلا؛ فأنتم الفائزون المفلحون.

[1] البيهقي: شعب الإيمان، 13/125.