مقوّمات إحياء الأمة

مقوّمات إحياء الأمة
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

سؤال: يحلم كثيرٌ من المسلمين اليوم بالعودة إلى أمجاد الماضي، ويرون السياسة وسيلةً لتحقيق ذلك؛ فما هي المقوّمات اللازمة للقيام بحركة إحياءٍ جديدةٍ؟

الجواب: يجدر بدايةً التذكير بأن المصدر الحقيقيّ للنعم التي نتمتّع بها والنجاحات التي سنحرزها فيما بعد؛ هو الله سبحانه وتعالى، فالألطاف التي تتنزّل علينا إنما تأتي منه وتنعكس علينا، وطالما عرفنا قدر هذه النعم وتوجَّهْنا بالشكر إلى مصدرها الحقيقي سبحانه وتعالى كُتِب لها البقاء والدوام؛ فلا دوام للطفٍ أو نجاحٍ إلا بفضلٍ من الله تعالى وعنايته، فلولا حبّه سبحانه وتعالى لنا لما شعرْنا بالحبّ تجاهه، ولولا معونته لنا لما أحرزنا أيَّ تفوقٍ أو نجاحٍ، ولا نعني بكلامنا هذا الحتميّة، فإننا لا ندافع عن أيِّ مفهومٍ مطلَقٍ للحتميّة، كما أننا لسنا جبريّين.. إننا نؤمن بأن للإنسان إرادةً منحها الله له، ونعترف بأن الإنسان بجهده وسعيه يضطلع على مستوى الشرط العادي بدورٍ مهمٍّ في جانبٍ من الألطاف والإحسانات الإلهية، وما دام الله تعالى قد ربط أفضاله وإحسانه بإرادة الإنسان أيًّا كانت ماهيتها؛ فما علينا إلا احترام مشيئته، واستيفاء إرادتنا حقّها، لكن لا نحمّلها ما لا تطيق لأن ذلك يجرح الحقيقة.

التمسُّك بقيمنا وعدمُ التفريط فيها

فإذا كنّا نؤمن أن المصدر الحقيقي لكلّ الجماليات هو الله سبحانه وتعالى فعلينا أوّلًا أن نتوجّه إليه تعالى، ونعمل ما يرضيه؛ بمعنى أن نتوجّه إلى قيمنا الذاتية من جديد، ونكتشف ذاتنا مرّةً أخرى، ولو كنّا نريد أن نقف على أرضٍ صلبةٍ، وأن نعد الناس بمستقبلٍ واعدٍ، ونقدّم شيئًا للعالم، ونشارك الجميع قيمنا الذاتية، فينبغي أن نكون كما نحن؛ أي لا بدّ أن يكون لأصواتنا وأنفاسِنا أثرٌ في الروح والمعنى والإيمان ونمط التفكير والفهم والأسلوب، وأن نحيي قيمنا الذاتية مرّة أخرى، عندها ستتوالى علينا نعم الله تعالى وأفضاله، فيحوّل الآحاد فينا إلى آلاف، ويصيّر القطرات بحارًا، ويمدنا بنعمٍ جديدةٍ متعاقبةٍ.

إننا كعالم إسلامي نطرق منذ عدّة قرون مختلفَ الأبوابِ أملًا في أن ننهض من جديدٍ بعد الحالة المزرية البائسة التي سقطنا فيها، فلم نترك بابًا لم نطرقه أو نرتَدْه، ولكن رغم كلّ الجهود والمساعي لم نُحرز شيئًا ذا قيمةٍ، وعلى ذلك فَلِمَ لا نتوجّه ولو لمرّةٍ إلى الباب الذي يجب علينا أن نتوجّه إليه، ولا ندرك الأخطاء التي وقعنا فيها، ولا نحاول تعويض ما فاتنا؟! بالمعنى العام: لِمَ لا نتوب إلى الله؟ ينبغي ألا ننسى أن الحق تعالى لا يتخلّى أبدًا عن عباده في أيّ وقتٍ كان، بل يرعاهم ويشملهم بإحسانه وألطافه، فإذا ما أبدوا ولو أمارةً صغيرة على حيويتهم، ونفضوا تراب الموتى الذي يغشاهم؛ أخذ الله بأيديهم، وأقامهم على أقدامهم، فكم من أممٍ كانت على وشك الزوال، وأحياها الله من جديد!

من جانبٍ آخر لا ننسَ أن أيّ انبعاثٍ إنما يعتمد عامّة على انبعاث المجتمع بكلِّ وحداته ومؤسّساته، فأيًّا كانت القوى الديناميكية التي تنهض بالدولة أو الأمة؛ فلا بدّ أن تتوجّه هذه القوى إلى قيمها الذاتية من جديد، فالأفكار التي لا تناسبنا ولا تنتمي إلينا لا يمكن أن تبثّ فينا الروح أو تمنحنا الحياة، وكذلك الفلسفات والأيديولوجيات الغريبة عن هويتنا لا يمكنها أن تنهض بنا، فالاعتماد على مقاييس الآخرين ومعاييرهم يكون سببًا في ضلالنا، فالمناخ الذي نشأنا فيه، والثقافة التي ننتمي إليها، والمكتسبات اللاشعورية التي حصلنا عليها، والأرضية التي تقوم عليها أمجادنا التاريخية؛ هي عناصر لا سبيل إلى نهضتنا من جديد إلا بالاعتماد عليها.. يجب علينا تصفية ما نتلقّاه من الآخرين وفقًا لقيمنا الذاتية.

إننا مع الأسف نبتعد منذ عدة قرون عن قيمنا الذاتية وكأننا نفرّ من أنفسنا دون أن نعرف إلى أين نركض وماذا سنحقّق في نهاية المطاف، والأسوأ من هذا أننا بدأنا نخجل من قيمنا ونزدريها، تركنا مفاهيمنا السليمة جانبًا، وأخذنا بمفاهيم غيرنا الملتوية ونحن نظنّ أنها مستقيمة، فإذا لم نحترم قيمنا الخاصّة ونتمسّك بها فكيف يمكن للآخرين أن يحترموها! جديرٌ بالذكر أنه ليس من الصواب أن تظهروا لطفاء أمام غيركم من خلال التشبّه بهم، فعلى العكس سينظرون إليكم على أنكم أناسٌ متقلّبون لا تحافظون حتى على تراثكم الثقافي، وما يلبثوا إلا أن يقولوا عنكم: “إنهم يبدون لطفاء معنا اليوم، ولكن يا تُرى ماذا سيكون حالهم معنا غدًا؟!”، وتهتزّ ثقتهم فيكم.

لهذا السبب يجب أن نراجع مرّة أخرى المصادر المتاحة لدينا، ونكتشف المعاني العميقة المكنونة بين السطور لنبرز الجماليات الخاصة بنا، ونثير إعجاب الآخرين بها، ونفعّلها على أرض الواقع، علينا أن نتوّج رؤوسنا بكلّ القيم التي أجَلّها دينُنا وبكل جماليات عالمنا الثقافي المترشّحة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ونفتخر بها.. علينا أن نعيش ديننا بكلِّ تفاصيله ما أمكن ذلك، ولا نقدّم أيّ تنازلات في هذا الشأن، فقد حان الوقت منذ فترة طويلة للعودة إلى قيمنا الذاتية.

التأنّي والصبر على الزمان

ولا يغبْ عن بالنا أن كلّ النهضات والانفتاحات والإنجازات التي تحققت حتى اليوم، قد حصلت بشكلٍ تدريجيّ، وهذا ما تقتضيه سنة الله، فمثلًا كان حواريو سيدنا عيسى عليه السلام مرتبطين بدعوتهم، مخلصين لها، مؤمنين بها إيمانًا يصعبُ إيجادُ مثيل له في التاريخ، كانوا مثابرين وحريصين على نشر دينهم، كما أنهم اتصفوا بالجرأة والشجاعة، حتى إنهم واجهوا جميع المخاطر في هذا السبيل، ومع ذلك لم يتمكّنوا من دخول “روما” إلا بعد أكثر من ثلاثين عامًا من ارتفاع السيد المسيح عليه السلام، أما الوصول للعاصمة وإحداث تأثير فيها؛ فقد كان من نصيب تلامذتهم.

وكذلك سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم الذين التفّوا كالهالة حول مفخرة الإنسانية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد جعلوا غاية حياتهم تبليغ الرسالة الإلهية إلى القلوب، وبذلوا كلّ التضحيات في هذا السبيل، وعندما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى كان حوله -حسب ما جاء في بعض الروايات- ما بين مائة إلى مائة وأربعة وعشرين ألف صحابي، أما نشر الإسلام خارج الجزيرة العربية فلم يتحقق إلا في عهد الخلفاء الراشدين؛ بمعنى أن أرباب المستوى الذين استطاعوا تمثيل الرسالة الإلهية على أكمل وجهٍ قد استغرق دخولهم إلى قلوب الناس سنواتٍ طويلةً.

وعلى الشاكلة نفسها لم تبدُ الدولة العثمانية للعيان ولم يذع صيتها بين الأنام إلا بعد حوالي قرن ونصف من تأسيسها، فلقد استقرّ وضع الدولة العثمانية في عهد السلطان “محمد الفاتح” رحمه الله، ولكن لم تتعزّز هيبتُها بالمعنى الكامل وتصبح عنصر توازنٍ بين الدول إلا في عهد السلطان التاسع والعاشر من سلاطينها وهما السلطان “سليم الأول” والسلطان “سليمان القانوني” عليهما رحمات الله.. وبعضُ المسلمين اليوم يتطلّعون إلى عهد القانوني، ويتغنّون بالعودة إلى أمجاد الماضي مرّة أخرى، متناسين أن لهذا الأمر متطلّبات خاصّة، فهذه الأمور لا تتحقّق بالقوّة الغاشمة ولا بتهديد السلاح ولا بفرض السيطرة على الآخرين، ونحن لا نريد هذا أصلًا، فالمهمّ هو تأليف القلوب وبثُّ الثقة في الآخرين، لقد كان الناس من مختلف الأديان والثقافات ينظرون إلى الدولة العثمانية على أنها الملجأ الذي يلوذون به إذا ضاقت بهم السبل، حتى إن هناك أقلّيّات فرّت من ظلم حكّامها واضطهادهم في بلادهم، ودخلت تحت حماية الدولة العثمانية، وقد منحتهم الدولة العثمانية هذه الثقة بمراعاتها للحقوق، وعدالتها، وسماحتها، وبرّها وإحسانها.

وإن الظن بأنّ القوّة الغاشمة هي السبيل الوحيد للتقدّم وحلّ المشاكل والوصول إلى الأهداف لهو الضلال الكبير، فما يجب القيام به هو محاولة استعادة القيم التي رفعت حواريي عيسى عليه السلام وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الذرى، وتنشئة أجيال متشبّعة بهذه القيم، لكن ليس من السهل إحياء هذه القيم من جديد، وتنشئة جيلٍ جديدٍ بهذه الطريقة، وتربية نشءٍ يستطيع أن يجمع بين القيم المتوارثة عبر التاريخ والمستوى الذي وصل إليه العالم الحديث؛ إذ إن إعادة استصلاح أرضٍ دُمّرت أشجارها يستغرق سنوات، فما بالكم بتنشئة الإنسان، إنه أصعب من ذلك بكثير، إن الأمر يتطلّب نصف قرنٍ على الأقل لِتنشئة جيلٍ مجهَّزٍ وقادرٍ على جعل القيم الإنسانية جزءًا من طبيعته، لكن لا ينبغي أن تثبّط هذه التحدياتُ الآمالَ أو تصيبَ أحدًا باليأس والقنوط، أو تقلّل عزائمهم وجهودهم.. فحتى ولو لم نجنِ الثمرات الأخيرة فنعم الله لا تنقطع عن أيِّ جيلٍ في أيِّ عصرٍ، إننا مسؤولون فقط عن القيام بالوظائف التي تقع على عاتقنا كما أن الأجيال اللاحقة مسؤولة عن القيام بما هو منوطٌ بها.

أجل، هناك مشاكل كثيرةٌ تنتظر وضعَ حلولٍ لها، فقد أصبح العالم الإسلامي أكثر فوضى وتشرذمًا من أيِّ وقتٍ مضى، وانتشرت الأحكام المسبقة ضدّ الإسلام والمسلمين.. ومن ثَمّ فإن ترميم صرح روحنا في عالمٍ هكذا يتطلّب وقتًا معيّنًا، فما يقع على عاتقنا هو أن نقوم بواجبنا قدر الإمكان وأن نراعي الأسباب مراعاةً دقيقة، والله تعالى هو الذي يبارك الخدمات، ويخلق النتائج، قد نُصاب بالذعر بسبب الأوضاع الراهنة اليوم، ونشعر باليأس لعدم قدرتنا على الأداء المتناسب مع حجم الأعمال الواجبة علينا، ولكن علينا أن نباشر أعمالنا ونقوم بمهمّتنا دون التفكير في الكيفية أو النتيجة، فالله تعالى هو الذي يخلق النتائج، وهو مَن يأخذ الخدمات المبذولة، ويوجّهها إلى وجهتها المطلوبة، وبما أن العديد من الآيات تؤكّد على أن الهداية من الله وحده، فيجب علينا التفكير والتحرّك وفقًا لذلك، فإذا قمنا بأداءٍ يحظى بتقدير الله لنا فسيمنّ علينا سبحانه وتعالى بمزيدٍ من الألطاف والنعم.

الانبعاث القلبي والروحي

حتى اليوم خرج كثيرون إلى الشوارع والميادين أملًا في انبعاثٍ جديدٍ، وقد حسبوا أنهم سيصلون إلى أهدافهم بالانقضاض على الحكم وبالقوّة والنفوذ والسياسة، والحال أن الانبعاث الحقيقي يتحقّق في الروح والقلب والحسّ والشعور والفكر واللطائف، فلا جدوى من الإحياء جسديًّا لمن ماتت قلوبهم وأرواحهم، وتبلّدت أحاسيسهم ومشاعرهم، وضعفت إدراكاتهم وانفعالاتهم، ولذا فلا سبيل إلى انبعاثٍ جديدٍ حتى نحيا قلبيًّا وروحيًّا؛ لأن الأحياء قلبًا وروحًا هم فقط من يُحيون القلوب وينفخون الروح في الآخرين، فالمشاكل التي تبدو كبيرةً تصير سهلةً هينةً بالنسبة للذين يشعرون بالطمأنينة في نفوسهم، وبالقناعة والرضا في عالمهم الداخلي، فهؤلاء يمكنهم اجتياز المنحدرات والوديان العميقة التي يواجهونها بسهولةٍ كما لو أنهم يجتازون خندقًا صغيرًا، أما الذين لم ينسلخوا من الحيوانية والجسمانية، ولم يرتقوا إلى مدارج حياة القلب والروح، ولم يستطيعوا أن يكونوا كالشلال الهادر؛ فليس لديهم الكثير ليقدّموه إلى الإنسانية.

لا توجد دولةٌ على وجه البسيطة اليوم بمقدورها أن تكون عنصر توازنٍ بين الدول أو أن تمثِّل القيم الإسلامية بحقّ، بل لا توجد حركةٌ تستطيع إحياء الفكر الإسلامي بشكلٍ صحيحٍ، وتبني عالمَنا بشكلٍ كاملٍ، إننا نعيش في فراغٍ فظيعٍ بسبب هذا الفقد؛ فهناك العديد من المشاكل تنتظر الحلّ في النظام الاقتصادي، والهيكل الاجتماعي، والمعايير الأخلاقية، والضوابط القانونية، لا ينبغي أن نغفل عن أيٍّ منها.. وثمّة حاجةٌ إلى القيام بشيءٍ ما في كلّ مجالٍ من أجل الإصلاح، ولكن تُعتبر مسألة من أين نبدأ وعلامَ نكثّف جهودنا أمرًا ذا بال، فلا يمكن حلّ المشاكل المتعلّقة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية دون تعزيز الإيمان وترسيخ الأخلاق وتأسيس الفكر.. ولو حاولتم إصلاح التشقّقات والتصدّعات فسرعان ما تبدأ في الظهور مرة أخرى، وطالما لم نعيّن حارسًا وشرطيًّا على ضمائر الناس كي نضع حدًّا للأخطاء؛ فلن نستطيع سدّ الثغرات الموجودة.. ولهذا لا بدّ أن يتحقّق الانبعاث أولًا في الضمائر والقلوب والعقول حتى ينعكس على العالم الخارجي.

المشكلة الحقيقية للعالم الإسلامي هي مشكلة الإيمان، إننا أمام ثغرة كبيرة، وطالما لم نسدّ هذه الثغرة، فلن يتماسك البنيان، وسيسّاقط مهما جمّلْناه بالطلاء؛ وذلك لأن تلوين جدرانِ بناءٍ قواعدُه هشَّةٌ وأسسُه ضعيفةٌ؛ ليس إلا مضيعةً للوقت، ومن ثَمّ فالمسائل التي ينبغي التركيز عليها واستنفار الهمم والطاقات من أجلها هي القضايا الدينية والأخلاقية.. يجب أن تكون هذه أولويتنا عند الكتابة والتحدّث وتحديد سياسة النشر.. ألم يقل بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله: “لا نـملك سوى يدين، بل لو كانت لنا مائة من الأيدي ما كانت تكفي إلا للنور”[1]؛ فلا ينبغي أن نستهلك طاقتنا في المسائل الفرعية بينما أمّهات القضايا قد أصابها الضعف والوهن.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السادسة عشرة، ص 143.