الكمية والكيفية

الكمية والكيفية
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

الكمية لفظ يعبّر عن المقدار والعدد؛ بينما الكيفية تشير إلى الهيئة والصفة، ويُقصد بها هنا العمق الداخلي للأفراد، وإيمانهم وإخلاصهم وإحسانهم وتقواهم.. وبتعبير آخر: فالكيفية هي انعكاسُ الإسلام على أحوال الإنسان وأطواره، وأقواله وأفعاله، ومشاعره وأفكاره، واستيعابه للإسلام بشكلٍ كامل، وجعلُه جزءًا لا يتجزّأ من حياته، ولكلٍّ من الكمّية والكيفية أهمّية خاصّة، ولكن إن كان لا بدّ من ترتيب الأولويات بين الاثنين فبالطبع تأتي الكيفية أوّلًا، وهذا لا يعني أن الكمية ليس لها أهمية، لكن أهميتها أقلّ بالنسبة للكيفية، ومع ذلك لا يمكننا الحديث عن الكيفية دون الكمية.

فيجب أن نُولي لكلٍّ من الكمية والكيفية الأهمية المناسبة والضرورية، فمن ناحية ينبغي استهداف عددٍ كبيرٍ من الناس للتواصل والانفتاح عليهم، ومن جانب آخر ينبغي أيضًا الحرص على تقوية الجانب الكيفي لديهم بالأنشطة والفعاليات المختلفة، ومن ثَمَّ يجب أن نجعل شعارَنا نشرَ مشاعرنا وأفكارنا التي تتعلق بالحق والحقيقة، وذلك من خلال استخدام تقنيات العصر كافّة للوصول إلى أكبر قدرٍ من الأشخاص، وبذلَ كلّ ما في وسعنا لمساعدة الأشخاص الذين تعرّفوا على الإسلام ليكونوا مسلمين أوفياء صادقين؛ أي ينبغي أن نعمّق ملاحظاتنا الكمية بالكيفية في كل زمانٍ ومكان، ونقتفي أثر المرشدين الصادقين من أجل ضمان الاستمرارية في هذا الأمر.

التوازن بين الكيفية والكمية

الكيفية والكمية جانبان مهمان في عملية الإرشاد والتبليغ، ولذا لا بدّ من الحفاظ على تحقيق التوازن بينهما، ولكن مع الأسف غالبًا ما يتحقّق النموّ من حيث الكمية على حساب الكيفية، فإن لم يُراع هذا التوازن فقد يؤدّي نموّ القوى، وتضخّم الأرقام، وتوسّع الإمكانات المادية؛ إلى تراجعٍ في الجودة والمستوى، فلا بدّ مع التطوّر والتوسّع نحو الخارج أن يزداد التعمّق نحو الداخل أيضًا حتى يتحقّق النموّ السليم.

إن مَثَل ذلك مثل الإنسان، فلكي يتمتّع بجسم صحي ومثالي، ينبغي أن تنمو عظامه وعضلاته وجهازه العصبي ودماغه وقدراته العقلية بشكلٍ متزامنٍ وبطريقةٍ متوازنة، والشخص الذي لا تتطوّر آلية دماغه بالتوازي مع عظامه وأجهزته العصبية والعضلية لا يستطيع القيام بالوظائف المتوقعة منه، ويُنظَر إليه على أنه ظاهرة غريبة في الخلق وليس كإنسان مثالي.

ومن ثم تكمن عظمة الصحابة رضوان الله عليهم في محافظتهم على نموهم الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء، فقد كانوا يقومون نهارًا بمسؤولياتهم على أكمل وجهٍ من أجل إعلاء كلمة الله، ثم يقضون الليل في الصلاة والتضرع والخشوع والتذلل أمام الله، فمن ناحية كانوا يقدّمون أداءً استثنائيًّا في تبليغ اسم الله الجليل إلى أقصى الديار، ومن ناحية أخرى كانوا يدرسون القرآن والسنة ويطبقونهما في حياتهم، ويبحثون دومًا عن سبل جديدة للقرب من الله سبحانه وتعالى، وينتهزون كل فرصة للفوز برضاه، وكانوا يستخدمون عقولهم النقية المهيأة لاستقبال القرآن في فهم الآيات الكريمة المنزّلة، ويحلّقون دومًا في الآفاق المختلفة الرحبة بمدارستهم لآيات القرآن الكريم فيما بينهم، ولذا وقفوا ثابتين شامخين ولم يتأثروا من العواصف كالشجرة التي تأصّلت جذورها في الأرض.

وبعد الصحابة رضوان الله عليهم استمر التوسّع الداخلي والخارجي في عصور الإسلام الأولى، فكان المسلمون من جانب يركضون من جبهة إلى أخرى حتى كسبوا القلوب بفتوحاتهم، ومن جانب آخر لم يهملوا التعمّق في العلم والمعرفة والثقافة الإسلامية، حيث اشتغل العلماء بتدوين وتدريس العلوم الإسلامية في كل مكان، حتى إنهم كانوا يتحدّثون في القضايا الإسلامية وهم يمشون وراء المحراث الذي يحرث أرضهم، وتجشموا الكثير من الصعاب وقطعوا المسافات الطويلة في طلب حديثٍ شريفٍ واحد، وطوَّروا علوم التجويد والقراءات حتى يُقرأ القرآن قراءةً سليمةً كما أنزله الله تعالى، ونقلوا هذه العلوم إلى القرى والأرياف، وفتحوا المدارس، وشكلوا حلقات الدروس، وعلّموا الطلاب، وحرّروا المؤلّفات، وقاموا بنشاطٍ علميٍّ مذهِلٍ في كلّ مكان.

إذا كنا نرغب في الوقوف على أرضٍ راسِخةٍ فهذا ما يجب علينا فعله عند القيام بانفتاحاتنا وتوسّعاتنا، ولا بد أن نضع عند كلّ انفتاحٍ دعائمَ جديدةً للأرض التي نقف عليها، فكما تحتاج الخيمة الكبيرة إلى مزيد من الأعمدة القوية للبقاء قائمة في مكانها؛ فيجب علينا أيضًا أن نتعمّق أكثر من حيث الكيفية عند انفتاحنا في العالم الخارجي حتى نسلم من الانزلاق والانحراف والتفكّك والانهيار.

مبدؤنا العام هو أن نحافظ على المكانة العالية للصحابة رضوان الله عليهم، وأن نحرص بشدّة على عدم التشكيك والطعن فيهم، ولا ننسَ أن من كانوا سببًا في الفتن والاضطرابات منذ أواخر عهد الخليفة الراشد الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، والذين اتّبعوا أدعياء النبوة، وشقّوا عصا الطاعة؛ كان أغلبُهم حديثي عهدٍ بالإسلام، فلم يتعرّفوا على الإسلام ويستوعبوه بقدر كافٍ، فرغم أنهم دخلوا ضمن منظومة الإسلام العمليّة والفعلية فلم يكونوا يعلمون كيف تأسس هذا النظام أو كيف يعمل، وما الجهد الذي بُذل من أجله، وما هي المعاناة والصعوبات التي وُوجهت في سبيله؛ ولهذا كانوا سببًا في العديد من المشاكل.. كذلك المشاكل التي وقعت في العهود التالية، فإن الذين أثاروا المشاكل في مجتمعاتهم كانوا غِرارًا لم يصلوا بعد إلى النضج الروحي الكافي.

الكيفية: سر النجاح

لقد أشار الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي إلى وظيفة الإرشاد والتبليغ على أنها واجبٌ يعلو كلَّ الواجبات، فأسمى أمانينا أن ننقل القيم النابعة من جذورنا المعنوية إلى قلوب المتعطّشين إليها؛ وذلك بأن نفي بكلّ متطلّبات العصر حتى يمكننا أداء هذه الوظيفة بحقّ، وأن نفتح المؤسّسات، وأن نشارك في الأنشطة التعليمية، وأن نحاول إيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية، وأن نسعى للانفتاح على العالم بقدر استطاعتنا، ولكن ينبغي ألا نهمل الكيفية إلى جانب الكمية..

وبصفتنا جماعةَ القرآن، ينبغي علينا بينما نُمتَحن بالبلايا والمصائب، ونواجه المخاطر والمصاعب في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى؛ أن نبحث في الوقت نفسه عن سبل التعمق في إعلاء كلمة الله، وإلا تعذر علينا حمل العبء الملقَى على عاتقنا، وخسرنا في موضعٍ هو أدعى للكسب.

أجل، إذا انفتحنا على بيئات عقائدية وثقافية مختلفة دون أن نغذّي قلوبنا وعقولنا أو أهملنا عالمنا الداخلي فقد ننسحق تحت وطأة الأعباء التي ينوء بها كاهلنا، فإن ازدهرت مواقعنا التي نقوم من خلالها بالتوجيه والإدارة، ولم تتعمّق حياتنا القلبية والروحية بما يتوازى مع ذلك؛ فإننا قد نصبح مثل شخصٍ نما جسمُه فقط على أكمل وجهٍ ولم يتطور جهازه العضلي والعظمي بما فيه الكفاية، وقد لا نستطيع الوقوف على قدمينا، وربما أُصبنا بالشلل، ومع الانفتاحات الجديدة وزيادة النعم قد نصبح مغرورين ومتعجرفين، ونركن إلى الراحة والاستمتاع بالأمور المادية، ولا نستطيع حمل الخدمات التي تتطلّب تضحيةً وجهدًا كبيرين لصالح ديننا أو مجتمعنا أو الإنسانية جمعاء، ولا نجد في أنفسنا الرغبة في التضحية؛ عند ذلك ينقلب ما نحسبه نعمة إلى نقمة، ونجد أنفسنا مكبلين بالمشاكل والضغوط.

ولذلك يجب علينا كلّما اجتمعنا أن نجعل من أولوياتنا تطويرَ نظامنا المناعي وتقويتَه من الناحية المعنوية، وتحريرَ الناس من الجسمانية، والارتقاءَ بهم إلى مدارج حياة القلب والروح، والتأكيدَ على الإيمان بالله ومعرفة الله ومحبة الله في كل مكان نحلّ فيه أو نرحل، والتعمقَ أكثر في قراءة وفهم ومقارنة ومناقشة المؤلفات المتعلّقة بالإيمان والقرآن، وتنشيطَ العقول الراكدة من جديد، وإثارةَ الحماس في القلوب التي انطفأ حماسها..

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/122)، فمن الأهمية بمكان أن تهتم طائفةٌ على الأخص بتعليم الآخرين وإرشادهم، وهذه مسألة مهمّة تتطلّب الكثير من الجدية والسعي؛ لأنه بمجرد اكتمال هذا الجزء، يسهلُ تنفيذ المهام الخارجية الأخرى.

ومما يؤسف له أننا لم نمنحْ هذا الموضوع اهتمامًا كافيًا، فقد نخطئ في تحديد أولوياتنا؛ ونجد أنفسنا منشغلِين بإنشاء المؤسّسات وإدارتها، وتنظيم الأنشطة الاجتماعية وما إلى ذلك، وبالتالي لا نستطيع أن نخصّص الوقت الكافي للقراءة والتفكير، وتغذية الجانب الروحي. وربما نرى الأهمية الأكبر في القيام بأنشطة معينة، وتطوير الخطط والمشاريع، والتوجيه والإدارة، ولذلك نحصر استشاراتنا واجتماعاتنا عليها فقط، بل أحيانًا نرى أنفسنا في غِنًى عن القراءة والتفكّر والأوراد والأذكار، وننخدع بالأعمال الإدارية.. بيد أن الانصراف إلى الأمور المادية والاشتغال بالأمور الأخرى يمكن أن يُبعدنا عن الكيفية، فمعلومٌ أن الإنسان الذي يبتعد عن الأذكار والأوراد ولا يقرأ الكتب التي تعكس مشاعره وأفكاره ولا يجدِّد نفسَه من حيث عالمه المعنوي يكون عرضة للجفاف أيًّا كان هو.

إننا في أمسِّ الحاجة إلى أن نراجع أنفسنا مرّة أخرى في هذا الموضوع، ولا يُقبَلُ التعذُّرُ بقلّة وجود الوقت، فهذا العذرُ من وساوس الشيطان، وعلينا أن نصرفه ونتغلّب عليه، ونخصص وقتًا للقراءة والاستماع والتفكير بين الأنشطة التي نقوم بها بدءًا من جلسات احتساء الشاي وحتى رحلاتنا بالسيارة، لا بد أن نحافظ على نشاطنا وحيويتنا بالاستماع والمشاهدة والقراءة والتفكر والتدبر والمذاكرة، وأن يكون هدفنا الأعظم هو التعمق في العبودية والتوسع معرفيًّا وذهنيًّا وقلبيًّا، وأن نحوّل كلّ مكانٍ نتواجدُ فيه إلى مسجد ومدرسة، فإذا استطعنا أن نقف على أقدامنا وننجح في العمل الذي نقوم به، فيجب أن نعلم أن هذا بفضل توكّلنا على الله وتوجّهنا إليه، فإذا كان هناك خطأٌ في هذا الصدد، فعلينا أن نخشى أن تنهار السماء على رؤوسنا وتنشقّ الأرض وتبتلعنا.

لا شك أن كل المؤسسات المُقامة وكل الخدمات المبذولة في سبيل الله لها أهميةٌ بالغة، لكن لا ننسَ أن تقوية الصلة مع الله أهم من إنشاء ألف جامعة وجامعة، وأهم من كل شيء.