تنفتح الأرواح المتفانية اليوم على مختلف أرجاء العالم بما تمتلكه من قدرات ومؤهلات، في سبيل تحقيق غاية مثالية سامية، وتسعى جاهدة من أجل تحقيق انبعاثٍ جديدٍ لصالح البشرية؛ إلا أنه قد تكون هناك العديد من العقبات والعراقيل التي تعترض سبيل هذه الأعمال الطيبة، ومن ذلك مثلًا أن بعض الأرواح السقيمة الحاسدة تتصرّف بروح المنافسة فتعوق الأرواح المخلصة التي تنطلق بنوايا صافية بدلًا من أن تجد لنفسها طرقًا جديدة تناسبها، وتحاول أن تعرقل وتكبح بشتى أنواع الحيل والمكائد مثل هذه الكيانات القائمة التي وصلت إلى يومنا هذا.
فإذا لم نتمكّن من الحفاظ على الاعتدال والتوازن؛ تعرَّضْنا نحن أيضًا بعد مدةٍ من الزمان لتجاوزات هؤلاء المعتدين، وربما فقدْنا استقامتنا الروحية والفكرية.. على سبيل المثال قد ينكبّ البعض على إلحاق الأذى بكم، وينشغلون دائمًا بنصب الكمائن للإيقاع بكم، غير أنه يأتي يومٌ -ودونما أي تدخّل منكم- بل ولطفًا من القدر، يحفر آخرون بئرًا لأولئك فيسقطون فيه على نحو مفاجئٍ غير متوقّع، ولا يليق بكم في ذلك الوقت أن تشمتوا بهم، أو تقولوا إنهم يستحقون، فإنكم إذا تعلَّقْتم بمثل هذه الفكرة، وواسيتم أنفسكم بها، وتوانيتم عن العمل الذي ستقومون به، فإنكم تتسبّبون في تصدعات خطيرة في قيمكم الإنسانية الأساسية.
وتؤكد الآية الآتية من سورة الروم على جانب مهمٍّ في هذه المسألة، يقول تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ (سورة الرُّومِ: 30/60) وزيادة في التوضيح والبيان يمكننا أن نقول: لا تَدَعوا بعض المواقف والسلوكيات الاستخفافية التي يمارسها أولئك الذين فقدوا اليقين نتيجة عدم يقينهم، تدفعكم إلى الاستخفاف، وتُبعدكم عن المسار الذي تتبعونه، وتتسبب في أن تتخذوا ضدهم بعض المواقف والسلوكيات السلبية، وتفسد انضباطكم؛ لأنه وكما هو الحال مع القلب، يمكن أن يحدث اضطراب في إيقاع الحياة الاجتماعية، مما قد يؤدّي إلى الوفاة أحيانًا، ومن هذه الزاوية فإنه لا بدّ من التصرّف بحذرٍ في هذا الشأن منذ البداية.
ورغم كلِّ ما نراه من سلبيات في عصرنا الراهن فمن الأهمية بمكان بذلُ جميعِ الجهود الممكنة من أجل تأسيس الروح الاجتماعية وتشكيل الوفاق والاتفاق في المجتمع؛ لأن أعظم أسباب التوفيق الإلهي -كما هو معلوم- هو الوفاق والاتفاق، ومن هذا المنطلق، فمن الضروري أن يجتمع الأشخاص ذوو الأمزجة والمشارب المختلفة جنبًا إلى جنب على أرضية مشتركة، وأن يدعم بعضُهم بعضًا، وكما ينفّذون مشاريع مع رفاق دربهم؛ فكذلك عليهم أن يسعوا إلى حماية الآخرين ودعمهم ومساعدتهم بجميع السبل، ومن ثم ينبغي السعي إلى تكوين أسسٍ عقلية ومنطقية بالدرجة الأولى، وحتى وإن تعذّر النجاح في تحقيق هذا بشكلٍ كاملٍ، فعلى الأقل ينبغي ألا يكون ذلك ضدّ أحدٍ، وألا يُتَّخذ أيُّ موقفٍ سلبيٍّ ضدّ أحدٍ، وألا تدور الأفكار حول تدمير أحدٍ وإهلاكه؛ لأنه ووفقًا لمفهوم بديع الزمان سعيد النورسي، فإن رؤيةَ إنسان مهنَتَه مفيدةً، وحديثَه الدائمَ عنها لا يستلزم عداءَه الآخرين.
وحتى لو لم يبذل الآخرون الجهد اللازم في هذا الصدد، ولم يفوا بالمهمّة الواقعة عليهم من أجل تأسيس روح الوحدة، فيجب علينا نحن أن نفي بما يُناط بنا.. وعلى سبيل المثال إذا كان هذا يقتضي عدم الدخول في مجال أشخاصٍ حدّدوا لهم مسارًا وراحوا يتبعونه؛ فيجب علينا ألا ندخل فيه، غير أنه يمكننا البحث عن طرق تقديم الخدمات نفسها باستخدام وسائل مختلفة، والاستفادة من أسسٍ ومنصّات مختلفة، فمثلًا هناك من يقوم بفتح دورات قرآنية ويدرس فيها القرآن الكريم، فلا تدخلوا أنتم في مثل هذا المجال، غير أنكم تستطيعون تعليم القرآن أيضًا، إلى جانب الأنشطة المختلفة التي ستمارسونها في المنتديات الثقافية التي ستفتتحونها، وبالمثل إذا كان هناك أشخاص يمارسون الأنشطة التعليمية نفسها، فإنه يمكنكم أن تعرضوا عليهم مشروع إنشاء مدرسةٍ في بعض الأماكن، أو تستطيعون توظيف بضعة أشخاصٍ منهم في مدارسكم، فتفتحون بكل هذا قلوبهم من ناحية، وتظهرون من ناحية أخرى، أنكم لا تتبعون سياسة التفرقة والتمييز.
إلا أنه -وبالرغم من كلّ شيء- قد تثير بعض الإنجازات التي حقَّقْتموها حسدَ البعض، ومن أهم وسائل مَنْعِ ذلك أن تمكّنوهم أيضًا من أن يكون لهم مكانٌ ضمن أنشطتكم، ولنفترض أنكم ستقومون بنشاطٍ ما، حينها يمكنكم أن تذهبوا إليهم أوّلًا، وتمهّدوا السبيل لمشاركتهم إياكم أيضًا بأن تقولوا لهم: “ما نوع المساهمة التي يمكنكم المشاركة بها في مثل هذا النشاط؟” فإن لم يكن لديهم أيّة خبرةٍ في هذا المجال، يمكنكم عندئذٍ أن تقترحوا عليهم شيئًا من قبيل: “ينبغي لنا أن نساعدكم في القيام بمثل هذه الأنشطة في مؤسّساتكم الخاصة”، وبعد كل ذلك فقد لا تؤثّر هذه النوعية من تحرّكاتنا التأثير الذي نتوقّعه على محاورينا في البداية، لكنهم بشرٌ أيضًا، وسيأتي اليوم الذي سيدركون فيه المعروف الذي أُسدي إليهم، والإخلاصَ الكامن وراءه.
إذا كنتم لا تريدون أن تتسبّبوا في إثارة ردود فعلٍ سلبيّة بين مختلَف قطاعات المجتمع، وجب عليكم أن تكونوا أصحاب صدرٍ رحبٍ، فقد تجدون من وقتٍ لآخر بعضَ السياسيين لديهم بعض الاعتبارات الأنانية من قبيل: “لقد بذلنا جهدًا كبيرًا، ولذلك يجب أن نكون نحن المصدر الوحيد للقوة، بل إن ثمار أعمال الآخرين الطيبة يجب أن تتدفّق إلى مستودعنا”، ومن الوارد أن يقع رجال القلوب في مثل هذه المخاطر، فقد يقولون هم أيضًا: “لقد حقّق أصدقاؤنا نجاحًا كبيرًا بتضحياتهم منذ وقتٍ طويل، فلماذا يُعزى كلُّ هذا إلى غيرهم؟!”؛ لكن مثل هذه الأفكار يمكنها أن تتسبب في ردود فعلٍ سلبيةٍ من قِبَلِ الذين يناضلون معهم سويًّا في ذلك المجال، كل هذه قضايا يلزم التفكير فيها جيّدًا، وقراءة الأشخاص قراءة صحيحة، وتقييمهم تقييمًا سليمًا، ومراعاة ردود أفعالهم الظاهرية المحتملة، بل والداخلية أيضًا تجاه أحداث معينة؛ لأن هدفنا هو إرشاد الإنسانية إلى عمل الخير والصلاح في السبيل المؤدّي إلى رضوان ربنا، ودخول القلوب من أجل تحقيق هذا.
وعلينا ألا نوجه الأنظار إلى الأشخاص الذين نحبّهم، وألا نبالغ في مدحهم وثنائهم، فإذا ما قدمتم الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي على نحو أنه: “الشخص المعزّز المبجّل المرتبطُ بإشارات وبشارات جميع أولياء الله”، فسوف تؤلّبون عليكم العديد من الأشخاص المبجّلين المعزّزين المعظّمين، وتسدّون طريقكم أنفسكم، وأيًّا كان نوع الاحترام الذي تشعرون به في قلوبكم لبعض الأشخاص؛ فهذا شيءٌ يخصّكم أنفسكم، لكنكم إن عبّرتم، هنا وهناك، وبطريقة أو بأخرى، عن هذا الاحترام الكامن بداخلكم، ولا سيما إذا كان ذلك بعباراتٍ لا يمكن للآخرين قبولها ويرونها مبالغًا فيها، فإنكم تثيرون لديهم نوعًا من الكراهية تجاه الأشخاص الذين تحبّونهم.. فالواجب عليكم أن تكونوا مخلِصين وصادقين معهم بصورةٍ فائقةٍ بدلًا من أن تتحدّثوا عنهم بشكلٍ مبالَغٍ فيه، وقد تخطر ببالكم أفكارٌ من قبيل: “ألا ليت حِبّي يحبُّه الخلق أجمع”، هذه قضيةٌ مختلِفةٌ، ولكن ليس من الصواب أن تقولوا الحقيقة في وجوه الآخرين وكأنكم ترمونهم بها، دون مراعاة مشاعرهم، ودون أن تضعوا أنفسكم مكانهم حتى وإن كان ذلك كتابيًّا، فالواجب هو الإشادة بالخدمات التي يقدمها الجميع، دون تمجيد الأفراد والمجموعات قدر الإمكان.
كل هذا يعتمد على وفاء الناس بحقّ إرادتهم، وتصرُّفِهِم بعقلانيّة ووفق إستراتيجيّة محدّدة، وقمعِهم ما بداخلهم من مشاعر سلبية وسيطرتِهم عليها في الوقت نفسه، بالإضافة إلى ذلك ينبغي ألا يُنسى أنّ أي جهدٍ يُبذل في سبيل تأسيس روح الوحدة سيعود على الإنسان بمثل ثواب العبادة.