İçindekiler
ينبغي للإنسان أن يحسن اختياره للطريق الذي يسير فيه في هذه الدنيا، وأن يكون ثاقب النظر، حريصًا على الاستقامةِ وعدمِ الانحراف عن الطريق القويم، فلا يغترّ بملذّات الدنيا الحاضرة، ولا ينخدع بوساوس الشيطان، ولا ينهزم أمام شهوات نفسه؛ فيفسد آخرته.. فالذي ينخدع بالمتع الحاضرة، ولا يفكّر إلا في الساعة التي هو فيها، ولا يفكّر في الغد وكأنه لا توجد آخرة؛ إنما هو ذو نظرٍ قاصر.. أما المؤمن راسخ الإيمان فلا يفعل هذا، ولو تمثلت له الدنيا ببهائها وعظمتها فلا ينخدع بها، بل يتعامل بحزمٍ وشجاعةٍ بما يكفي لدفعها بظهر يده عند اللزوم.
أقول ذلك لأنه من الصعب للغاية اتخاذ موقفٍ صائبٍ تجاه الدنيا، ولا ننسَ أن بعض الصحابة قد توجّسوا خيفةً من انحدار مستواهم عما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا أنهم لم يستطيعوا الحفاظ على تماسكهم ومستوياتهم الروحية عندما انشغلوا بشؤون الدنيا، لقد ساورهم القلق من أن يكونوا يحملون صفةً من صفات النفاق.. إنهم خيرُ القرون ويظنون بأنفسهم ذلك؛ فما بالكم بالدنيا في هذه الأيام والامتحان فيها أشد وأعقَد!
لأسبابٍ تافهةٍ للغاية يسقط كثيرون في الامتحان؛ فالذين تُتاح لهم بعض الإمكانات مثل القوة والنفوذ والمنصب والثروة والشهرة؛ يستولي عليهم الدلال والوقاحة والأنانية، فيتسمّمون ويفقدون صفاتهم الإنسانية، وللأسف تُجرِّدهم الدنيا من صفاتهم الإنسانية، وتُحوّلهم إلى مخلوقاتٍ وحشيّةٍ.
فتنة الدنيا
الإنسان بطبيعته مولعٌ بالراحة والمأكَل والمشرب والتصفيق واللذّة والمتعة والبهاء والعظمة، يتطلّع إلى الدنيا بنفسٍ لا تشبع، وآمالٍ لا تنضب، ورغباتٍ لا تنفد، يشعل جذوة تطلّعاته دائمًا بتوهّمه الخلود، ويحرص على الدنيا بشدّة، وهو ما عبر عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ“[1]، فإذا أسلم نفسه للدنيا مرّةً فقد لا يجد الفرصة للعودة مرّةً أخرى، وقد يتواجه مع حقيقة الموت وهو على هذه الحال والعياذ بالله.
لذلك كان من أنواع الصبر اتخاذ موقفٍ صارم إزاء جماليات الدنيا الفانية دون اتباع هوى النفس أو الانحراف عن الاستقامة، وهذا يعتمد بشكلٍ أساسي على أن يجعل العبدُ اللهَ محورَ حياته التي يعيشها، فالذين يتشبّع داخلهم بمراقبة الله يعيشون في طُهرٍ ونقاء، وتلهج ألسنتهم دومًا بالإيمان والإخلاص والتقوى والعشق والشوق إلى لقاء الله تعالى، فمن كثرت أذكاره كثرت أنواره، ومن كثرت أنواره سلِم من حيل النفس ووساوس الشيطان، يسير في يقظةٍ وحذرٍ، ويمثل هكذا أمام الحضرة الإلهية.
الندم في الآخرة!
وفقًا للحكمة القائلة “إياك وما يُعتَذَرُ منه”؛ فعلينا أن نعيش حياةً لا تضطرّنا إلى الندم والأسف عندما نرحل إلى الآخرة، ونقف للحساب، ونؤتى الكتاب، ويُقام لنا الميزان؛ فالدنيا فانيةٌ، ومتعُها وملذاتُها مؤقّتةٌ، ومشاكلُها وبلاياها زائلةٌ، فالمؤمن الحقيقي مهما تعرّض للمشاكل والبلايا فإنه لا ينخدع بمتع الدنيا وملذّاتها، ولا ينسى آخرته، ولا يغير وجهته وسيره..
قد نعاني من المشاكل في الدنيا، وتتوالى الضربات فوق رؤوسنا دون جريرة ارتكبناها، ونتعرّض للإهانة والاعتداء ظلمًا وعدوانًا، ولكن لا يغيبنّ عن بالنا أن كلّ هذه أمورٌ هيِّنةٌ مقارنةً بأهوال الآخرة، فمن لم يضع الآخرة في اعتباراته وحساباته فسيأتي يوم القيامة وقد استوجب لعنة الملائكة وسكّانِ الملإ الأعلى، وسيندم في الآخرة على ما فرّط في الدنيا، ولاتَ ساعةَ مندم.
والقرآن الكريم يعرض أمامنا مشاهد من الآخرة، ويحدثنا عن الذين خاب سعيُهم في الحياة الدنيا، واستولى عليهم الندم في الآخرة، ستجد كثيرًا منهم يقولون: “ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا! ليتني لم أبايع فلانًا المستبدّ! ليتني لم أتبع يزيدَ وهو يذهب إلى كربلاء! ليتني لم أكن في صفِّ الحجاج! ليتني لم أكن مع فريق أبي جهلٍ وعتبة وشيبة! ليتني لم أسدر في الغفلة والضلال! فيندمون في وقت لا ينفع فيه الندم.
ربما يعتري الجميعَ الندمُ في الآخرة؛ حتى المؤمنين يعتريهم شيءٌ من الندم لأنهم لم يؤدّوا الكثير من العبادات، ولم يحقّقوا الكثير من المكاسب الأخروية، فمثلًا يقول الواحد منهم: “ليتني صليتُ ثمانين ركعة في اليوم وليس أربعين فقط! ليتني لم أهمل صيام الإثنين والخميس بالإضافة إلى صيام رمضان! ليتني تصدقتُ بالمزيد!”، ولا شكّ أن “ليت” هذه التي يعبّر بها المؤمنون تختلف عن “ليت” التي يستخدمها الكافرون الذين يتعرّضون للهيب جهنم الحارق فيقولون: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ (سورة النَّبَأِ: 78/40).
الخسران الأخروي أم اللطف الإلهي؟
إن الأجل واحدٌ لا يتغيّر كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في كثير من آياته، وإن قدر الله نازلٌ لا محالة، وسيوافيك الأجل سواء كنتَ تعيش في أبّهةٍ وعظمةٍ وترقد على فراشٍ وثيرٍ، أو كنتَ معرَّضًا للإصابة المباشرة في معركةٍ ميدانية، إنْ كلُّ ما في السماوات والأرض إلّا آتي الرحمن عبدًا، وسيُحاسَب على ما فعله في حياته، وحينذاك سيظهَر مَن الفائز ومَن الخاسر.
فالذين يتعلّقون بأذيال أصحاب القوة والنفوذ في الدنيا، ويسلّون أنفسهم بالمقامات والمناصب التي منحها لهم المنحطّون؛ يفقدون كرامتهم وإنسانيتهم في الدنيا، ويعيشون خسرانًا ما بعده خسرانٌ في الآخرة.. أما الأبطال الذين لم يخنعوا أو يخضعوا أمام الدنيا وأهلها ووقفوا شامخين أمامها؛ فسيحظون بالألطاف الإلهية.
الصبر هو مفتاح الخلاص السحري، وهو ما يوصِّل الإنسان إلى ساحل السلامة في الدنيا قبل الآخرة.. قد تتعرّضون للظلم والقمع والضرب والحرمان من حقوقكم، لدرجةِ أن يجرّدوكم من جنسيتكم، لكن إياكم واليأس والانكسار، ولا تنسوا أن الليل يعقبه النهار، وأن الشتاء يعقبه الربيع، وكونوا على يقين بأن بساتين الشوك ستتحول إلى رياض ملأى بالورود والأزهار، وذلك عندما تتعهّدها يدُ الرعاية وتصبر عليها إلى أن يحين أوانها، فداوموا على السير في الطريق المستقيم، وما دمتم تحافظون على الطريق والمنهج فمهما حاول الآخرون الاستخفاف بكم وتدميركم؛ فسيمنحكم الله القوة لتنهضوا من جديد، ويُعلي سبحانه من قدركم ومكانتكم، فإذا كنتم قد دخلتم في حلبة الفوز هذه، فلا ينبغي لكم أن تنجرفوا وراء أقوال مَن لا غد لهم، ولا تنخدعوا بكلامهم.
ليس هناك ما هو أعظم من رحمة الله تعالى؛ لأن رحمة الله وسعت الأرض والسماء، والدنيا والعقبى، والإنسان والحيوان والجماد والملائكة؛ بل أحاطت بكلِّ شيءٍ، وعلى ذلك فلو توقّفَت الأسباب كلّيّةً، وأعرض الجميع عنا، ولم يعد هناك شيءٌ نتمسّك به فلا ينبغي لنا أن نيأس مطلقًا؛ كلّ ما يهم هو أن نوقن بأن الله هو ملجأنا الوحيد الذي نلوذ ونستعين به، ألم يقل سبحانه وتعالى: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/45).
من المؤسف أن الناس لا يستطيعون البقاء على نفس المستوى من الصمود في الأوقات التي يشتد فيها الابتلاء، فمنهم من ينخدع بما يفعله الظالمون، ويفكر أنّ كلَّ شيءٍ انتهى لصالحهم، فيخسر في الامتحان.. ومنهم من لا يتحمل شدة العاصفة، وينجرف أمامها مثل الأشجار التي لا جذور لها، فيسقط في الامتحان.. ومنهم مَن يغدر برفقائه الذين يشاركونه نفس الدرب، ويفتري عليهم، فيُمنى بالخسارة.. ومنهم من يفكر في الراحة والمزايا التي يكفلها له الوقوف في جبهة الظالمين، فيرسب في الامتحان.
البلاء الدنيوي وبلوغ المستوى
السنّة الإلهية تعمل بنفس الطريقة منذ قديم الزمان، وهي ثابتة لن تتغير، فالله تعالى يُخضع الناسَ في الدنيا لبعض الابتلاءات حتى يبلغوا المستوى المطلوب من النضج، ويتشكّلوا وفقًا لعالم الآخرة، ويكتسبوا الجدارة التي تؤهّلهم للفوز بالآخرة؛ إلى غير ذلك من الأمور.. ما يهمّ حقًّا هو أن يكون الإنسان قادرًا على اجتياز هذا الاختبار الغامض من خلال إظهار الموقف والسلوك الصحيح في هذه الأوقات الصعبة، وأن يحافظ على ثباته إذا انصرف الآخرون، وأن يسير في الطريق الصحيح دون أن يبالي بالشوك الذي يصيب قدميه، أو يبالي بالمطارق التي تنزل على رأسه، أو يتأفّف من المشاكل التي يتعرّض لها.
فإذا كان هدفنا هو الوصول إلى رضا الله ورضوانه، والفوز بالنعيم الأبدي في الآخرة، وإذا كانت الابتلاءات والمحن التي نتعرّض لها ستجعلنا ننال هذا النعيم، أوليس من الأفضل أن نتحمّس لها أكثر بدلًا من أن نتأفّف منها؟! قناعتُنا أن الآلام التي نعيشها هنا مقابل ما سنفوز به من نعيم الآخرة المبهر؛ ستتحول إلى مناقب جميلةٍ في الآخرة.. سيجلس أهلُ الجنة على سررٍ متقابلين في الآخرة يحدّث بعضُهم بعضًا عن مغامراتهم في الحياة الدنيا، وعن الآلام والمحن التي عاشوها فيها، ويرتشفون السكينة والطمأنينة، وسيتحوّل هرجُ ومرجُ الظالمين، وآهات وصرخات المظلومين في الدنيا؛ سيمفونيّات متنوّعةً في الآخرة.
بعض الناس يؤلّهون الدنيا لأنهم يحسبون أنها كلّ شيءٍ، فيطيش صوابهم أمام بريقها وبهائها، بيد أننا إذا فكرنا في القبر الضيق الذي يضمّنا تحت التراب وفي أهوال الآخرة؛ فسنفقد شهيّتَنا، وسندرك جيّدًا أن الراحة المؤقّتة التي نعيشها في الدنيا لا أهمية لها، وستصبح نعم الدنيا سمًّا قاتلًا بالنسبة لنا.. أما الذين ينظرون إلى الدنيا على أنها طريقٌ وجسرٌ وممرٌّ إلى الآخرة؛ فلا يغترون بالدنيا، وتتوجه نظراتهم دومًا إلى أعلى، وإلى ما هو أعلى الأعالي.. والذين يشتاقون إلى رؤية الله والفوز برضوانه، ويرغبون في رفقة أحبَّائهم، ويتحرّقون شوقًا للقاء ربهم، فلا يعانون من تعب الطريق، ولا يلتفتون إلى المشاكل التي يواجهونها هنا.
وفقنا الله جميعًا إلى أن نكون مهووسين بالدين، وإلى أن نجعل الإيمان والإخلاص جزءًا من طبيعتنا، وإلى أن نتعمّق في المعرفة، وإلى أن يكون تحبيبُ الله إلى خلقه أسمى غاياتنا!
[1] صحيح البخاري، الرقاق، 9.