سبل المحافظة على الحيوية والنشاط

سبل المحافظة على الحيوية والنشاط
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

سؤال: قد نفقد بمرور الوقت حيويتنا ونُصاب بالفتور والوهن ونشعر باللامبالاة في بعض الأمور، فكيف نحافظ على حيويتنا ونتجنّب هذه المزالق؟

الجواب: يجب التنويه بدايةً على أنه قد يحصل نوعٌ من السأم والملل حتى لدى مَن يشتغلون بأعمالٍ مبهرةٍ جذابة بسبب مزاولتهم العمل نفسه على الدوام؛ وذلك لأن فعل الشيء نفسه واستخدام نفس القوالب والأنماط على الدوام؛ يُفقد الإنسانَ حماسه ونشاطه للعمل.

 وكما يحصل هذا الأمر لدى الذين يشتغلون بالأمور الدنيوية فإنه يحدث أيضًا لدى الذين يشتغلون بالحقائق السامية التي تتعلّق بحياة القلب والروح، فإن لم تُراع بعضُ الأمور، ولو لم يحدث تجديدٌ في الشكل والأسلوب؛ فسيذهب بهاءُ هذه الحقائق السامية ويتلاشى لونها وتضيع جاذبيتها في نظر المشتغلين بها؛ وعند ذلك يخمد عشقهم وشوقهم ويضعف حماسهم ونشاطهم بمرور الوقت، ويتسبب هذا الوضع -والعياذ بالله- في الحرمان من فضل الله وعنايته.

وإنما تغشى رحمةُ الله وفضله الذين يستوعبون الوحي الإلهي بصورته الأصلية التي لا يشوبها الإلف والتقليد، وينقادون لأوامره ويعايشونها، ويجدّدون من أنفسهم على الدوام، ويغيِّرون القوالب والأنماط حتى وإن كانوا يزاولون الشيء نفسه، وبالتالي يحافظون على نشاطهم ونضارتهم دائمًا، ولا يقعون ضحية للإلف والتعود.. وحتى يتجنبوا ذلك الإلف والتعود ويحترزوا من الفتور والركود فإنهم يغيرون على الدوام من أنماط حياتهم، ويبحثون عن وسائل ومناهج جديدة يواصلون بها عشقهم وشوقهم، ويلجؤون إلى التنوع والتجديد في الشكل والأسلوب على نحوٍ لا يمس صورَ وجوهر العبادات التي وضعها الله ولا يتعارض مع روح الأوامر الدينية.

إلا أن نسيان مضمون الأعمال ومحتواها، والتمسّك بالمظاهر والأشكال، وإعطاء الأولوية للأنماط والإجراءات؛ يُطفئ جذوة الشوق والعشق لدى هؤلاء الناس بمرور الزمان.. وعلى سبيل المثال عندما يجتمع بعضُ الأشخاص لإصدار مجلة، فيجلسون ويتحاورون فيما بينهم، ويقيِّمون المقالات التي ترد إليهم، ويختارون المناسب منها، ويضعونه في مكانه، بعد ذلك يقومون بضبط صفحاتها، وتصميم غلافها، ويُعملون فكرهم في الإعلان عنها وبيعها وتسويقها؛ ربما يرون في صنيعهم هذا أفضل الأعمال التي يتقربون بها إلى الله، لكن بسبب انهماكهم في روتين العمل فإن المظاهر والأنماط تُشغلهم وتُنسيهم سبب اجتماعهم وهدف عملهم، فينسون ما اجتمعوا لأجله، ويبتعدون تدريجيًّا عن معنى ومضمون ومحتوى ما يشتغلون به، علمًا بأن الغاية من إصدار المجلة أو كتابة المقال أو طبع الكتاب هو التبليغ عن الله بشكل أفضل، والتعريف به بوسائل مختلفة، وإثارة مشاعر المخاطبين وحماسهم، فلو أن ما نكتبه أو نخطّه أو نقرؤه أو نفعله لا يقرّبنا مسافات من معرفة الله؛ فالأولى بنا أن نلقي بكل هذا في حفرة ونردم عليه.

بمرور الوقت ينسى بعضُ الذين سلكوا الطريق غايتَهم السامية التي يبتغون وجه الله ومرضاته من ورائها، وينخدعون بالتقدير والمديح، فتُظلم آفاقهم.. فمن عادة الناس أنهم إذا رأوا أحدًا يقوم بأعمال خيرةٍ مبهِرةٍ أقبلوا عليه، وصفقوا له، وتوجهوا إليه بالمدح والثناء، وخصّوه بالتحية والإكرام.. فلو أن القائمين على هذه الأعمال لم يمكِّنوا إخلاصهم، ويوطدوا علاقتهم بربهم؛ فليس من المستبعد أن تأخذهم سكرة التصفيق وتُغريهم نشوة المدح والتقدير، ومن المتوقع أن تحدث شقوق وصدوع في حياتهم الروحية والقلبية.

فينبغي ألا يثمل ويستولي على هؤلاء الذين يسيرون في طريق الحق شيءٌ سوى المعرفةِ والمحبة والعشقِ والشوقِ الإلهي، فإذا ما انهالت عليهم المدائح مثل قطرات المطر انزووا في ناحية وقالوا كما قال بديع الزمان سعيد النورسي: “يا رب! أنا غريب وحيد، ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي، الغوث الغوث! أرجو عفوك، وأبتغي مددك”[1]، وبهذه الملاحظات يحافظُ اللاجؤون إلى الله على حيويتهم ونضارتهم ويحمون أنفسهم من الذبول والانطفاء.

أما من عجزوا عن سماع صوت ضميرهم بسبب طوفان التصفيق، وغرقوا في بحار التقدير والمديح؛ فلا تكون لديهم القدرة على التفكير السليم، ولا النظر بموضوعية إلى المسائل، بل ولا يستطيعون إجراء تقييمات صحيحة حول عالمهم الداخلي والكون برمته، ولا يتمكنون من تقديم التحليلات الدقيقة؛ لأنهم لا ينظرون بشمولية إلى حيث ينظرون، ولا يدركون خلفية الأحداث؛ وذاك لأنهم أصبحوا صمًّا وبكمًا وعميًا من الناحية المعنوية.. أما الذين لا تدور رؤوسهم ولا تتكدّر نظراتهم ولا يصابون بالسكر بسبب الشهرة والثروة والقوة والسلطة؛ فإنهم يفكرون بشكلٍ أكثر حكمةً وتوازنًا، ويواصلون الأعمال التي يقوم بها العقلاء المتوازنون.

وعندما لا يحافظ الإنسان على متانة العلاقة بالله تتحول الشهرة والثروة والسلطنة إلى كوارث تشلّ روحه وترديه قتيلًا، والتاريخُ حافلٌ بالعديد من النماذج، فقد سلبت السلطة صفاء أولئك الناسِ وطهارتهم، وضيعت قوامهم المعنوي، فإن لم يحافظ المرء على قوامه المعنوي، وادَّعى المعرفة والمهارة؛ من الممكن أن يعرّض الناسَ إلى الخسارة في موضعٍ هم أدعى فيه للكسب، ويجرفهم أمامه ويفتك بهم مثل الريح العاتية، وهؤلاء تطغيهم الأنا لثقتهم في معارفهم ومكتسباتهم، والأنا صفةٌ لا يحبها الله تعالى، فلا وجود لاثنين من الأنا في مكانٍ واحد، ولا يصح الحديث عن الأنا في وجود الواحد الأحد سبحانه وتعالى، ولذلك سجن هؤلاء أنفسهم داخل دائرة ضيقة وقتلوا أنفسهم رغم أن الله خلقهم في أحسن تقويم.

ولو رجعنا إلى موضوعنا الأساسي مرة أخرى نقول: إن من يرغب في الحفاظ على نشاطه وحيويته عليه أن يجدِّد نفسه، وفكرة التجديد هي من أسباب الحفاظ على بنيتنا المادية، فخلايانا تموت بمرور الوقت، ثم تُستبدل بخلايا جديدة، وعند حدوث كسرٍ أو شرخٍ أو إصابةٍ في جسمنا لا يظل الأمر على حاله، بل تُجبر الكسور، وتلتئم الجروح والشروخ، ويتساقط جلدنا ويتجدد.. إننا مدينون جميعًا بحياتنا لمثل هذا التجدّد، ومن يدري لعل التغيرات والتجديدات التي تحدث في بنيتنا الفيزيقية بمنزلة إشارةٍ إلى ما ينبغي أن نفعله بخصوص حياتنا المعنوية.

وما دمنا استطردنا في الكلام فيجب أن نصل إلى الحديث عن ذكر الحبيب سبحانه وتعالى؛ لأن من الوسائل المهمة في التجديد تحويلَ كلِّ حوار إلى الحديث عن الله، فإذا اجتمعنا فلا ينبغي أن نهدر أوقاتنا في الأمور الدنيوية، أو حتى في الأمور الدنيوية التي تبدو أخروية في ظاهرها، بل يجب أن نتحدث في الموضوعات التي من شأنها أن تحيي حياتنا الروحية والقلبية، وأن نتذاكر المؤلفات التي تعلّمنا حقائق الإيمان، فإذا كانت لدينا مشكلات نعتزم حلّها فيجب أن نعتقد أننا يمكننا حلّها من خلال الجهود التي نبذلها للقرب إلى الله، وأن نرى أيّ شيءٍ آخر ثانويًّا حتى وإن كان خططًا ومشاريع تهدف إلى إحياء دولة أو منطقة بأكملها؛ لأننا حتى وإن قمنا بوضع الخطط والمشاريع العملاقة وبذَلْنا الجهود لتحقيقها دون أن نعيش تجديدًا في حياتنا الروحية، فإننا سنستغرق في جماليات هذه الأعمال، ولا ندري ما إذا كانت الخدمات التي نقدمها سيحيا بها الأفراد أو لا، أو يتأسس بها عالم جديد أو لا؟! لا يمكننا معرفة ذلك، ولكننا في النهاية سنبلى ونموت.

وهذا هو السبب الذي يجب لأجله أن نحوّل كلامنا دائمًا إلى الحديث عن الحبيب سبحانه وتعالى، وأن نوجه الاهتمام دائمًا إلى ذكر الله، وأن نعمل على غرس حب النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب، وأن نسير على نهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بهذا يمكن الثبات والصمود، فلو لم نتمسك بمراكز الجذب هذه، وانفصلنا عن قوتها الجاذبة؛ سننتشر في الفراغ الخاص بنا ونندثر فيه.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب السادس، ص 30.