موقف المؤمن من الظلم

موقف المؤمن من الظلم
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: يأمر ربنا سبحانه وتعالى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مواضع مختلفة من القرآن الكريم بأن يأخذ بالعفو ويأمر بالعرف ويُعرض عن الجاهلين؛ فماذا تعني هذه الأوامر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وما الجانب الذي يخصّنا منها؟

الجواب: خُصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الخصال والصفات؛ فكان يتعامل بحساسيّةٍ بالغةٍ ودقّةٍ عاليةٍ مع الأحداث التي تجري من حوله، ويتمتّع برقةٍ فائقة وذوقٍ رفيع، فكان يمثِّل خصال الكرامة والسمعة والشرف في أعلى صورها، لذلك لا بدّ أن ندرك مدى انزعاجه صلى الله عليه وسلم من الكلمات والأفعال غير اللائقة بناء على طبيعته الحساسة هذه، فبقدر ما كان يزعجه إلصاقُ التهم بجبريل الأمين عليه السلام؛ كان يسوؤه أيضًا أن توجَّه إليه الإهانات وتُلصَق به الافتراءات، فقد كانت فطرته النادرة تتأذّى كثيرًا من الأقوال القبيحة غير المتّزنة التي يتفوه بها المشركون والمنافقون.

علاوةً على ذلك لم يكن غير المؤمنين يستهدفون شخص النبي صلى الله عليه وسلم ونبوَّته فحسب، بل كانوا ينكرون أيضًا أركان الإيمان الأخرى التي يدعوهم إليها، ويعارضون الرسالة التي جاء بها، ويتطاولون على المقدَّسات الدينية، ويسيئون الأدب مع الذات الإلهية، كانوا يعبدون من دون الله اللات ومناة والعزى وإساف ونائلة وغيرها من الأوثان، فلا غرابة أن ينزعج النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الوقاحات، فإن لم ينزعج هو لأجل ذلك فمَن؟! لقد كان أهل الجاهلية يخرِّبون آخرتهم بهذه الأفعال، ويسيرون نحو الخسران الأبدي، وليس من الصعب أن نتخيّل مدى انزعاج النبي العظيم الشأن صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور، لا سيما بعد أن عُرج به إلى السماء، وشاهد جمالَ الجنّةِ الساحر، وعاين مشاهد الآخرة المهيبة، وتشرّف برؤية الذات الإلهية.

ولكم أن تتخيلوا أن هذا النبي الرحيم يرى أمام عينيه أناسًا يتّجهون نحو مجهولٍ غير معروف، وينجرفون أمام أهوائهم ورغباتهم وكأنهم أمام سيلٍ عرمٍ، ويخوضون في بحر العصيان؛ فلا يستطيعون أن يتنحّوا جانبًا ولا أن يصلوا إلى شاطئ السلامة، إزاء كلِّ هذا هل يمكن ألا يحزن أو يغتمّ صاحبُ هذه الروح السامية، فالمسألة لا تتعلّق بشخصه صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن تؤخَذ على أنها مساسٌ بكرامته، فهناك أناسٌ يخسرون آخرتهم أمام عينيه، وينجرفون نحو عاقبةٍ وخيمةٍ، بيد أن مهمّته هي تعريف الإنسانية بربها، وإرشادهم إلى الطرق المؤدّية إلى الجنة، وتخليصهم من الشقاء الأبدي، لا بدّ وأنه صلى الله عليه وسلم يتألَّم في داخله ويقول: كيف يحرم الناس أنفسهم من كلِّ هذه الجماليات ومن كلِّ هذه النعم الأخروية؟ وكيف يسيرون نحو عذاب جهنم الأليم؟!

من جانب آخر لم يكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشخص الوحيد الذي تعرَّض لأذى المشركين واضطهادهم، بل تعرّض أصحابه رضوان الله عليهم أيضًا لشتى صنوف العذاب، فقد كانت المطارق تنهال فوق رؤوسهم، ويُلقى بهم فوق الرمال الحارقة، وتوضع الحجارة الثقيلة على صدورهم كما فُعل بسيدنا بلال رضي الله عنه، أو يُقتلون بالحراب كما فعلوا بـ”سمية” وزوجِها “ياسر” والِدَيّ “عمار بن ياسر” رضي الله عنهم جميعًا، وآخرون كانوا يُصلَبون، وغيرهم كانوا يُسجنون، وآخرون يتعرّضون للتعذيب، وآخرون يُفرض عليهم الحصار.. لقد كان الظالمون في تلك الفترة مثل ظالمي اليوم لا يفرِّقون بين رجلٍ وامرأةٍ في إلحاق الأذى بالمؤمنين، فكان صلى الله عليه وسلم يشعر في وجدانه بنفس العذاب والآلام التي يعانيها أصحابه رضوان الله عليهم. وكيف لا يشعر بها وهو الذي سماه ربه في كتابه الكريم “رؤوف رحيم”؟! لقد كان صلوات ربي وسلامه عليه شفوقًا رحيمًا إلى أقصى درجة، يمتلك قلبًا رقيقًا يحتضن الجميع، يكتوي قلبه حزنًا أمام تلك المشاهد السلبية، كان ذا صدرٍ رحبٍ يحتضن الإنسانية جمعاء، حيثما وقعت النار أحرقته قبل أيِّ شخصٍ آخر، ومن ثَمَّ ليس من اليسير أن نتوقّع مدى الحزن الذي كان يستولي على هذه الروح الكاملة التي تتمتّع بهذه العظمة، والضمير الحساس، والقلب الممتلئ بالشفقة والرحمة عندما ترى كلّ هذه المشاهد!

وعند النظر إلى المسألة من حيث الأفق والروح المحمدية وليس من وجهة نظرنا القاصرة يتّضح لنا جليًّا معنى الآية الكريمة ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ من سورة يس وسورة يونس. ففي تتمة الآية في سورة يونس يقول ربنا تبارك وتعالى ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ (سورة يُونُسَ: 10/65)؛ لذلك فليقولوا ما يشاؤون من كلمات لا تليق بشأن الذات الإلهية، وليطلقوا الاتهامات الباطلة حسبما يرون، فإن النصر والعلوَّ والقوة كلها لله وحده، وكلام الكفار لا يمكن أن يُنقِص من أسمائه تعالى ولا صفاته ولا شؤونه ولا اعتباره ولا ذاته قدرَ ذرّةٍ واحدةٍ.

فرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفطّر قلبه من استهتار الكفار ووقاحتهم؛ فإنه كان يجد في هذه الآية الكريمة تسليةً وتعديلًا لموقفه، فضلًا عن ذلك كانت هناك آياتٌ كريماتٌ أخرى ترشده إلى كيفيّة التصرّف في مثل هذه المواقف؛ منها على سبيل المثال قول الله تعالى في سورة المزمل: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (سورة الْمُزَّمِّلِ: 73/10)، فإذا كانت مثل هذه الآيات تحمل أهمية كبيرة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان مضطرًّا لتحمّل صنوفٍ عديدة من الأذى والاضطهاد من قِبَل المشركين في العهد المكي خاصة، فإنها في الوقت ذاته توضح لأرباب الإرشاد الذين سيأتون من بعده إلى يوم القيامة كيف ينبغي لهم أن يتصرّفوا إذا ما واجهوا مثل هذه المواقف.

الصبر: هو اسمٌ لعشبٍ طعمُه مُرّ وفوائده جمة، فهو وإن كان يبدو سمًّا زعافًا في البداية فإنه يغدو شرابًا حلوًا في النهاية، فالصبر من هذه الناحية يشبه عملية إلقاء البذور في التربة؛ حيث يجب على مَن يرغب في جني الثمار من وراء محصوله أن يعدّ التربة، ويحرثها، ويسمّدها، ويروي الزرع، ويعتني به.. فإن تحمّلَ كلَّ هذه الجهود والمشقّات شقّت البذورُ التربة، ونمت، وأثمرت.. فإذا كنا نريد أن تتفتح الزهور في كل مكانٍ تطؤه أقدامنا، وتغرّد البلابل بجانب هذه الزهور فعلينا أن نتحمّل المشاق التي تواجهنا ونصبر عليها.. وما أجمل قول القدماء: “مَن صبرَ ظَفرَ”، فإذا استطعنا التعامل قدر المستطاع مع انتقادات وهجمات وإهانات بعض الأشخاص بكلِّ هدوءٍ وأدبٍ؛ فسنكون نحن الرابحين الحقيقيين في النهاية.

في عصر السعادة النبوي كانت ألسنة المشركين والمنافقين والظالمين تتفوّه بأقوالٍ تزعج المؤمنين لا سيما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليوم أيضًا يكرر المنافقون والملحدون الإهانات والافتراءات نفسها، فيقع على عاتق أتباع النبي صلى الله عليه وسلم أن يتأسّوا به، ويصبروا، ولا يردّوا بالمثل أبدًا، وأن يستمعوا إلى تعاليم القرآن الكريم، ويتجنّبوا قدر المستطاع الانخراط في مثل هذه السلبيات، وتكدير الأذهان الصافية بتصوير الباطل.

والآية الكريمة ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/199) تشير إلى هذه النقطة، ففي البداية تأمر الآية بالعفو عن الناس، وتدعو إلى التمسّك به بشدّة.

ثم تأمر بالسماحة تقول “وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ”، فكلمة “العُرف” وما يُشتق منها من ألفاظ المعروف لا تعبر عن أوامر الدين فقط، بل تشتمل أيضًا على الأعراف والعادات والتقاليد التي خضعت لتصفية الدين وتنقيته واستحسنها الناسُ، فالآية ترشد إلى ضرورة أن يستخدم الداعية في مخاطبته للناس أسلوبًا يتوافق مع أصول الدين والعقل، ويوافق الفطرة السليمة، ولا ينكره أحد.

وفي نهاية الآية يأتي الأمر بالإعراض عن الجاهلين، فمن يلتفت إلى هؤلاء على الدوام، ويصغي إلى كلامهم، وينشغل بهم لا بدّ أن ينزعج ويهتزَّ مما يصدر عنهم من أذًى واضطهاد، ولا يستطيع أن يركز في المهام الأساسية التي يجب أن يركّز فيها؛ مما يؤدّي إلى تعطيل الخدمات المبذولة، وهذا هو السبب في أن بديع الزمان سعيد النورسي ظلّ سنوات طويلة لا يمسك جريدةً ولا يستمع إلى وسائل الإعلام؛ لأن إعلام تلك الأيام كان مثل الإعلام اللعين اليوم؛ ينشر الأخبار الكاذبة والافتراءات والاتهامات، فلو اشتغل الأستاذ النورسي بهذه الأمور لما استطاع أن يغوص في أعماق القرآن الكريم، ويستخرج منه الدرّ واللؤلؤ.. فإذا أشغلتم قلوبكم وعقولكم بثرثرة الناس وكلامهم التافه وأقوالهم المنحطة، فإنكم بذلك تهدرون طاقتَكم وتستنفذون رأسمالكم في المكان الخطإ، وتُهملون المهام الأساسية التي يجب أن تركّزوا عليها.

وفي آية كريمة أخرى يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/91)، فإذا كان بعض الناس لا يكفّون عن الكذب والافتراء، ويلجؤون إلى الإهانات؛ لنقلِ قاذورات عقولهم وأرواحهم إلى عقول وأرواح الآخرين، فإن الواجب على المؤمن هو أن ينصرف ويبتعد عنهم ويذرهم في هذا المستنقع المظلم الذي غاصوا فيه.

فكل هذه الآيات الكريمة وإن كانت تبدو وكأنها تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقام الأول، فإنها في الحقيقة تخاطب كل المؤمنين في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدّم لهم دروسًا مهمّةً في حياة المؤمن وسلوكه.

  • https://s1.wohooo.net/proxy/herkulfo/stream
  • Herkul Radyo