İçindekiler
التمثيلُ هو: أن يحيا الإنسانُ بالقيم التي يؤمن بها، وأن يطبِّقَ بنفسه ما يقوله ويبلّغه للناس.. وهو إحدى الصفات المهمّة التي اتّسم بها الأنبياء العِظام عليهم السلام؛ حيث لم يقتصروا على تبليغ الناس ما أوحي إليهم من ربهم، بل قاموا بتمثيله أيضًا في حياتهم على أكمل وجهٍ، فلم يكتفوا بتعليم الناس العبودية لله، بل طبّقوا كلَّ ما يتعلَّق بالعبادة والطاعة في حياتهم الشخصية، وقد اضطلع التمثيل إلى جانب التبليغ بدورٍ مهمٍّ في تقبّل أقوامهم للدين، ومن ثم يمكن القول إن التمثيل لدى الأنبياء كان يتقدم التبليغ؛ وذلك لأن التمثيل هو الوسيلة الأهمّ لوصول التبليغ إلى هدفه، فإذا كانوا يريدون أن تنال قيمهم التي يؤمنون بها حسن قبول مخاطبيهم فعليهم أن يمتثلوها أوّلًا في حياتهم.
يجب أن يكون تمثيلُ المؤمن دائمًا متقدّمًا على تبليغه، وأن يطبّق في حياته ثلاثة أضعاف ما يقوله، فقد كان مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم يطبّق في حياته ربما عشرة أضعاف ما يكلّف به الناسَ من تكاليفَ والتزامات؛ ولهذا كان جديرًا بثقة من حوله، وكان كلامه يلقَى صدًى في قلوب الناس، فلو كان لدى الإنسان ملكاتٌ تؤهّله لإلقاء الخطب البليغة مثل الشاعر الفردوسي أو الخطب الفصيحة مثل الشاعر جامي أو الخطب المشحونة بالصدق والإخلاص مثل مولانا جلال الدين الرومي؛ فلن يكون قادرًا على إقناع مَن حوله بالقدر الذي تفعله قوة التمثيل، ويحذر القرآن الكريم المؤمنين من هذا الأمر بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (سورة الصَّفِّ: 61/2)، وهذا لا يعني “لا تقولوا ما لا تفعلون”، بل “طالما تقولون فطبقوا ما تقولون في حياتكم العملية”.
أبطال التمثيل الذين إذا رأيتَهم ذكرتَ الله
جاء في الحديث الشريف أن خير عباد الله هم الذين إذا رُؤوا ذُكر الله تعالى[1]، فهذا مقياسٌ رائعٌ يمكننا اعتماده عند تقييم عبودية الإنسان! فيجب على المؤمن أن يراعي الحقائق التي يؤمن بها، وأن يمثّلها في قيامه وقعوده، وبقلبه وقالبه، وفي داخله وخارجه، وفي كلّ أحواله، فإن رآه أحدٌ ذكرَ اللهَ تعالى، فرغم كثرة أعداد ذوي المعرفة الذين درسوا الأوامر التكوينية وتقدّموا في العلوم الطبيعية؛ فإن عدد الذين يعيشون ما يؤمنون به بحقٍّ قليلٌ جدًّا، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالكثير مِمّن يعتنقون الإسلام لا يطبّقون ما يؤمنون به في حياتهم، ومع ذلك فالأساس هو التمثيل، وحرصُ الإنسان على أن يكون قدوةً لغيره.
يمكنكم أن تطرحوا مناهج فلسفيّة رائعةً، وتؤلِّفوا نصوصًا أدبيّة متنوّعةً، وتحرّروا آثارًا في مجالات علميّةٍ مختلفةٍ، وتلقوا على الناس خطبًا بليغةً، وتضعوا أفكارًا طوباويّة لا مثيل لها، لكن لا سبيل إلى الدخول في قلوب الناس والتأثير فيهم طالما لم تطبِّقوا ما تسطره أقلامكم وينساب من أفواهكم، فكم من كلماتٍ منمّقةٍ قد أُلقيَت! وفلسفاتٍ قد طوّرت! ولكن أيًّا منها لم تبنِ عالَمًا، لقد قدمت الرسالة الإلهية التي جاء بها مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم نموذجًا يتجاوز بكثيرٍ ما صوَّرَتْه الطوباويات، واستمرّ تأثيرها حتى يومنا هذا، ولا يزال تأثيرها ممتدًّا في عصرنا حتى في الأرواح الميتة التي أسلمت نفسها إلى الاغتراب والعدم؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قدوةً وأسوةً حسنةً يُحتذى بها في كلِّ جانبٍ من جوانب حياته.
إثارة الغبطة لدى الآخر
إن السبب في خسارتنا لمدّة خمسة قرون، وربما لثمانية قرون هو ضعف قوّة التمثيل لدينا، فرغم ظهور ممثّلين أقوياء بين الحين والآخر في بدايات العهد العثماني أو عند السلاجقة والأيوبيين والإلخانيين؛ فإنهم لم يكونوا ذوي تأثيرٍ طويل الأمد، ومع مرور الوقت بدأ التراجع والانهيار في التمثيل، وفي النهاية سُحِقْنا نحن تحت الركام، وأصبحْنا بتعبير الأستاذ سعيد النورسي رحمه الله كالجنائز المتحرّكة، وبالتالي ضعفت قوّة تأثيرنا في غيرنا، ومن ثمّ فما يقع على عاتقنا هو أن نطبّق الإسلام على أكمل وجهٍ بلا تنازلاتٍ وبطريقةٍ لافتةٍ للنظر؛ من أجل إعادة إحيائه من جديد.
يجب ألا نخجل من إسلامنا، فليس في صلاتنا ولا في دعائنا ولا في منهج تفكيرنا ولا في معتقداتنا ما يدعو للخجل، فيجب ألا يضرّ حوارُنا مع الآخرين، ومصافحتنا لهم، وجلوسنا معهم على مائدةٍ واحدةٍ؛ بتمثيلنا.. فلا بد أن نجعل جماليّات ديننا جزءًا من طبيعتنا، وإذا كان لدينا نقصٌ أو ضعفٌ فعلينا معالجته، ثم نعمل على تمثيل هذه القيم في كلِّ مناسبةٍ؛ وبذلك سنكون مقنعين، ونوحي بالثقة لمخاطبينا.. ولا ننسَ أن بطل التمثيل الذي يحمل إيمانًا راسخًا ويعيش معتقداته بشكلٍ كاملٍ وصحيحٍ في حياته العملية؛ سيكون له تأثيرٌ أوقع من تأثير ألف خطيبٍ مفوّهٍ ومن ألف كاتبٍ وأديبٍ.
فإذا كنا نعتقد أننا بتشبّهنا بالآخرين سنبدو لطفاء بالنسبة لهم ونحبّب أنفسنا إليهم؛ فنحن إذًا مخطئون، والذين يتحرّكون من هذا المنطلق ينالون صفعاتٍ على عكس مقصدهم، فيجب أن نتوقّف عن تقليد الآخرين، وأن نثير فيهم الرغبة لمحاكاتنا بما نمثّله في حياتنا من قِيَم وجماليات، وإن كان لا بدّ أن نحاكي أحدًا فليس الآخرين، بل نحاكي قيمَنا الذاتية، لا بدّ أن نحافظ على ذاتيَّتنا ونبقى على طبيعتنا، فإذا نجحنا في ذلك، ومثّلْنا قيمنا بحقٍّ، وقوّينا جهازنا المناعي؛ فلا داعي للقلق بشأن التواصل مع الآخرين، وعندئذ لن نخسر شيئًا بإذن الله، أما من يشعر بالخوف من هذا الأمر؛ فعليه أن يُغلِق أبوابه ونوافذه تمامًا، ويحبسَ نفسه في مكانٍ ضيّقٍ خانقٍ، ولكن لماذا نضيّق ما وسّعه الله أمامنا!
الإخلاص والصدق في التمثيل
أجل، إذا أردنا أن نجد لقيمِنا صدًى في القلوب؛ فيجب أن نمثّلها بحقٍّ، ونعملَ على تجسيدها بأمانةٍ في سلوكياتنا وأفعالنا، لكن حتى في هذا الأمر لا ينبغي أن يتخلّله التكلُّف والتصنّع، فإن كان حبّ الظهور هو غرضنا من إظهار جوانبنا الإيجابية؛ فستضعف قوّة التمثيل لدينا، وإذا دخل الرياء والسمعة في أعمالنا التي تهدف إلى تقديم صورةٍ طيبةٍ لنا أمام الآخرين؛ فسيتعكّر صفاء إخلاصنا، فالأساس في التمثيل ألا يتخلّل أعمالَنا نقطةٌ من نقاط الضعف هذه، وإذا كانت لدينا بعض الجماليات، فيجب أن تنبثق من أفعالنا وتصرّفاتنا بشكلٍ طبيعيٍّ وصادقٍ.
قد تخمد روح الإخلاص عندما يتدخّل التكلّف في الأمر، فعلى سبيل المثال: التواضع ونكران الذات من أهم الفضائل التي يجب أن يتحلّى بها المؤمن، لكن المهمَّ هنا هو أن يصبح التواضع جزءًا من الطبيعة، وينعكس بشكلٍ طبيعيٍّ على السلوكيات والتصرّفات.. فمثل هذا الشخص لا يحتاج لبذل جهدٍ خاصٍّ ليكون متواضعًا أو ليبدوَ متواضعًا؛ لأن هذا الشعور الكامن في داخله سينعكس بشكلٍ تلقائيٍّ على أحواله وتصرّفاته، وإلا فإن اصطناع التواضع يدمّر التواضع، وإذا تدخّل التكلّف في سلوكياتك وتصرّفاتك خمدت روح العمل، ويمكنك قياسُ باقي الفضائل الأخلاقية على هذا المثال، فالأساس هو أن تتشرّب الروح هذه الفضائل وتصبح صدًى لداخلنا.. في هذه الحالة سيتأثّر حتى الأشخاص الذين لا يعرفوننا عندما يتعاملون معنا.
فالحقائقُ التي يؤمن بها الإنسان عليه أن يتشرّبها ويتضلَّعَ منها إلى أن تصبح اللونَ والنمط الحقيقي لطبيعته، بحيث يسير دائمًا على الطريق نفسه ويبدي ردود الفعل نفسها، ولا ينبغي أن يخالط سلوكياته وتصرفاته أيُّ نوعٍ من التذبذب؛ لأنه سيظلّ طوال حياته محلّ نظرٍ واختبارٍ من قِبَلِ الأشخاص من حوله، سواءً أكان يدرك ذلك أم لا، حيث يظلّ الناس يراقبون سلوكه وأفعاله لفترةٍ طويلةٍ، ويصنفونه وفقًا لذلك، وتذكروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نُعت بالصادق الأمين حتى من قِبل المشركين، لأنهم لم يعهدوا عليه كذبًا، ولم يشهدوا عليه سلوكًا مخالفًا، ولم يروا منه ما يخالف الواقع طوال أربعين سنة من حياته المباركة.. فكم من قلوبٍ كانت كالحجارة أو أشدّ قسوة أذابها التمثيل الرائع من النبي صلى الله عليه وسلم! وكم مِن المتمردين أخضعهم هذا التمثيل أيضًا!
وهكذا يجب على دعاة اليوم ومرشديه أن يبذلوا جهدًا كبيرًا في تجسيد القيم التي يؤمنون بها في حياتهم، وأن يعيشوا كرموزٍ للاستقامة وأبطالٍ للعصمة والعفّة؛ لأن الأشخاص الذين يصلون إلى هذا المستوى يبعثون الثقة والطمأنينة فيمن حولهم، ويُسمَع كلامهم، فإن رآهم أحدٌ قال: “هؤلاء هم من يُقتدى بهم”.
ورغم أن الإسلام في الوقت الحالي لا يُمثَّل بشكلٍ مثاليٍّ في بعض الأحيان؛ فما زال تأثيره في مخاطبيه قويًّا وملموسًا، فما بالنا إذا تمّ تمثيله بشكلٍ صحيحٍ، فمن يعلم كم من قلوبٍ ستهتدي؟! فإذا استطعنا التخلّص من الكذب والرياء والتظاهر، وطرد هذه الصفات المذمومة من أخيلتنا وأفكارنا، وعشنا حياةً مستقيمةً؛ فستتحقّق البشرى التي وردت في سورة النصر بكلِّ مجدها وعظمتها.
[1] سنن ابن ماجه، الزهد، 5.