مرض الكبر

مرض الكبر
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

الكبر داء عضال، أضلَّ الشيطانَ، وجعله يحيد عن الطريق القويم، وما زال يغوي تلامذتَه وأتباعه في كل عصر وحين.. بل يمكن القول: إن الشيطان يتوسّل بهذه الصفة الشنيعة التي أبعدته عن ربه لإغواء تلامذتِه وإضلالهم، فيزيّن لهم أنفسهم حتى يروها كبيرة، ويستولي عليهم جنون العظمة شيئًا فشيئًا، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يرغبون في أن يعترف الآخرون بعظمتهم، وأن يتوجهوا إليهم بالتصفيق والتهليل، وأن يُسمعوهم كلمات المديح والإطراء والمداهنة.

لا جرم أن الكبر مرضٌ نفسيٌّ وداءٌ قلبيٌّ، وليس من السهل لمن أصيب بهذا المرض ونخرت جرثومتُه في بنيته أن يظلَّ راسخًا وثابتًا على إيمانه؛ لأن الكبر من أخطر العقبات التي تحول دون دخول الإنسان إلى الدين، كما أنه عقبةٌ كؤودٌ تمنع الإنسان من الثبات على الدين، وإن هؤلاء المتكبرين لَيتجوّلون في وديان النفاق تارةً، ويتدحرجون رأسًا على عقبٍ في مهاوي الكفر تارة أخرى.

أجل، قد يبدو هؤلاء الذين أصيبوا بداء الكبر مسلمين شكلًا وقالبًا؛ يفعلون ما يفعل المسلمون، يصلّون كما يصلّون، ويصومون كما يصومون، ولكن صلة الأغلبية منهم بربهم إما ضعيفة للغاية وإما لا توجد تمامًا؛ لأنهم غافلون لا دراية لهم بماهيتهم، جاهلون لم يستطيعوا التعرّف على ربّهم بحق، مخدوعون لم يستطيعوا تحديد العلاقة بينهم وبين ربهم بشكلٍ صحيحٍ.

إن الصفات المذمومة مثل العُجب والفخر والغرور والكبر -على حد تعبير الإمام الغزالي- من المهلكات؛ أي إنها جراثيم تودِي بالإنسان إلى المهالك والكوارث، فإذا مرض الإنسان وانهزم أمام هذه الجراثيم فلن يُنجيه ذهابُه إلى المسجد وصلاتُه وصيامُه من العاقبة الوخيمة؛ لأن في وجود هذه الأمراض استجلابًا واستدعاءً لأمراض أخرى.. فهؤلاء الحمقى المتغطرسون الذين اعتادوا النظر إلى الآخرين من برجٍ عاجي ينتقلون من مرضٍ إلى آخر، ويدورون في دائرة مفرغة من الأمراض، فإذا ما أبحروا في مثل هذا المحيط أو بالأحرى في مثل هذا الغي مرةً؛ لا يمكنهم الرجوع مرة أخرى، ولا يستطيعون التخلّص من ذنوبهم الفكرية والبدنية التي ساقهم إليها كبرهم.. حفظنا الله!

الإسلام الحقّ

التواضع والخجل ونكران الذات مبادئُ أساسيةٌ ومهمّة للغاية في الإسلام.. لا سيما لمن كرّسوا حياتهم لخدمة الإيمان والقرآن، وذلك كي يعرفوا مكانتهم عند الله عز وجل، ويكونوا على دراية بفقرهم وعجزهم، ويكونوا قادرين على إنكار ذواتهم باستمرار، ويتحاشوا أيّ ادعاء أمام الله، ويتحلّوا بالتواضع، ويخفضوا أجنحة التواضع لجميع المخلوقات، حتى إذا ما وقفوا أمام المرآة، ونظروا إلى أنفسهم أو شاهدوا أنفسهم في مرايا وجدانهم بحسب بنيتهم الداخلية قالوا: “ألف ألف الحمد لله على هذا القدر الذي وصلتُ إليه، وكان من الممكن ألا أبلغه، فالحقّ أنني أقف بعيدًا عن الإنسانية الحقّة والإسلام المثالي، فشتّان ما بيني وبين الإسلام، وهيهات بين ما وضعني الله فيه وبين ما أتجول فيه الآن”.. ولكن من المهمّ ألا تكون هذه المشاعرُ مُصطنَعةً أو مجرّد كلامٍ يتفوّه به اللسان، بل يجب أن تكون نابعةً من صميم القلب.

والواقع أن وقوف المؤمن أمام الله خمس مرات في اليوم، وركوعه وسجوده له سبحانه وتعالى؛ رموزٌ تشير إلى التواضع ونكران الذات، والإنسان من خلالها يتذكّر موقعه أمام الله، ويدرك أن الكبر والغرور لا يليقان به؛ لأن الكبرياء والعظمة من صفات الله عز وجل.. وفي الحديث القدسي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ”[1]؛ لأن من يدّعي الكبر أمام الله يكون كمن جعل نفسه شريكًا مع الله.. بناءً على ذلك ينبغي لنا ونحن نصلّي أن نستشعر في وجداننا كلَّ المعاني التي تذكّرنا بها الصلاة، وأن نجعلها صدى قلوبنا، وجزءًا لا يتجزّأ من طبيعتنا.

أما من لم يستطع أن يجعل التواضع ونكران الذات جزءًا من طبيعته؛ فلن يستطيع أن يحدّد موقعه بشكلٍ صحيح، أو يعيش حياةً محورُها المحاسبة والمراقبة، وبالتالي لا يستطيع أن يرى أخطاءه وعيوبه، وطالما لم يستطع أن يراهما فسيظلّ يبحث عن المذنب في الخارج، ومن لا يرَى عيبَ نفسه يبحث عن عيب غيره، ومثل هذا الشخص يتخبّط في دوّامة الأنانية، ويلجأ إلى شتّى السبل للتّستّر على عيوبه وقصوره، وعند اللزوم يضع أجندات مصطَنَعةً، ويبحث عن مذنبين جددٍ، ويلقي بالتبعة عليهم، ويُشغل الرأي العام بهم، غرضُه من ذلك أن يوجّه الأنظار إلى اتجاهات أخرى حتى لا ينقِّب أحدٌ عن مساوئه، ويتهرّب من الأخطاء والذنوب التي اقترفها بشكلٍ أو بآخر.

المنافق أشدّ خطرًا من المشرك

بعض الأشخاص يحملون مرض النفاق بجانب الكبر، وكلُّ واحدٍ منهما يغذّي وينمّي الآخر، لكن أخطر هؤلاء الأشخاص هم الذين يُضمِرون العداء للإسلام والمسلمين رغم أنهم يشهدون الصلاة ويتظاهرون من المسلمين؛ لأنه من الصعوبة بمكان التعرّف على هؤلاء بوجوههم الحقيقية، وإننا لا نسيء الظنّ بمن يزاحموننا في الصف الواحد، ويركعون ويسجدون معنا، ويطوفون حول الكعبة ويعتمرون معنا، فمظهرُهم الصالح يخدعنا ولهذا كانوا أخطر أعداء الدين.

لقد عانى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة من أعداءٍ على شاكلةِ أبي جهل وعتبة وشيبة وابن أبي معيط، ولكن المعاناة تضاعفَتْ عندما انتقل إلى المدينة، فبعدَ أن كان يواجه الكفر الواضح بات يواجه المنافقين من ذوي الكفرِ الخفيّ وعلى رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقد كان يشهد الصلاة مع الصحابة رضوان الله عليهم، ويقول بما يقول به المسلمون، ويفعل ما يفعلون، وبالتالي لم يستطع أحدٌ أن يميّز هل الكلمات التي تنطلق من بين شفتي مثل هذا المنافق نابعةٌ من صميم قلبه أم لا؟!، إذ لا بدّ من فطنةٍ نبويّةٍ يمكنها التعرّف على حقيقة هؤلاء المنافقين؛ لأن هؤلاء كانوا ماهرين في التخفّي والتمويه، يتظاهرون أنهم ملائكةٌ رغم أنهم شياطين في الحقيقة، ولهذا كان يصدّقهم الكثير من الصحابة، فإذا ما همّ أحدٌ بمعاقبة المنافقين؛ دافعوا عنهم قائلين: “كيف تفعلون هذا بأخ ٍ لنا من المؤمنين؟!”.

إن ممّا يؤسَفُ له أنّ الكبر والنفاق انتشرَا كثيرًا في عصرنا الحاضر الذي يسميه بديع الزمان سعيد النورسي بعصر “السفياني”.. ولهذا العصر مراحل مختلفة لا يمكن الجزم متى ستنتهي، فستظل هذه المراحل وتدوم حتى اللحظة التي يتنبّه فيها المؤمنون ويميزوا بين الحقّ والباطل، ستظلّ شبكة النفاق تستميل المسلمين السذّج، وتجرّهم حيث تريد، وتستخدمهم وتجعلهم يفعلون ما تتمنّى، وبالطبع ستضيع أجيالٌ عديدة في هذه الفترة.

لهذا السبب فإننا بأمسّ الحاجة إلى الإنسان الذي ينقصم ظهره تواضعًا ومحوًا أمام الله، الذي يعنّف نفسه ويوبخها باستمرار، فالمؤمن الحقّ الذي يؤمن بالله صدقًا لا يأخذُه الغرور من عبارات المدح والثناء التي تنهال فوقه، بل إنه يعتبر المديح إهانةً وسُبةً له، ويشعر بالحرج عندما يُصارَح بنجاحاته التي حقّقها؛ لأنه يعلم أن صاحب كلّ هذه النجاحات هو الله سبحانه وتعالى، والذين يخدمون الإنسانية ويحاربون النفاق والسفيانية هم أبطال التواضع هؤلاء.

[1] سنن أبي داود، اللباس، 29؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 16.