تظهر شخصية الإنسان بشكل أكثر وضوحًا في الأوقات الصعبة؛ لأن منْ يعيشون في راحةٍ وسعةٍ يسهل عليهم امتلاك زمام ألسنتهم والحفاظ على استقامتهم، والحقيقة أنه عندما تبدأ المشاكل والمصائب يصعب الحفاظ على التوازن والاستقامة، وتحدث انحرافات مختلفة وفقًا لشدّة الضائقة التي يُعانى منها، فمثلًا قد ينزلقون إلى التشكيك في القيم الإيمانية، ويمكن أن يقعوا في أفكار غير لائقة في شأن الذات الإلهية.. وفي مثل هذه الحالة، يُحرم العبد من كل أنواع الثواب والأجر الذي يمكن الحصول عليهما من الصبر على المصائب، كما يمكن أن يرتكب ذنوبًا مختلفة بحسب درجة الانحراف، وهذا هو الخسران في الوقت الذي هو أدعى للكسب؛ لأن الصبر على البلاء مثل العبادة؛ يمنح الإنسان مكافآت كبيرةً ودرجات عاليةً لا يستطيع بلوغها في الأوقات العادية.
ومع ذلك فليس سهلًا على الإنسان أن يسيطر على نفسه، ويتحلّى بالصبر في مواجهة السلبيات التي يتعرّض لها؛ لأنّ هذا الأمر يتطلّب جهدًا وجهادًا حقيقيًّا، إننا بشر قد نتأثّر بمواقف الآخرين وسلوكهم، فننسى أنفسنا والقدَر أيضًا عند المشاكل والمصائب التي تحلّ بنا، ونرى كلَّ شيءٍ نابعًا من أخطاء الآخرين؛ فتضطرب نفوسُنا وتتشتّت أفكارنا جرّاء ما حدث، وربما نتلوّى ألمًا لذلك.. بل وقد تهاجم خيالنا وقلوبَنا وأذهانَنا -من وقت لآخر- مجموعةٌ من المشاعر والأفكار السلبية التي لا تتّفق مع عقيدتنا، وفي هذه الحالة يجب أن نعبّر عن إرادتنا بثباتٍ وإيمان حقيقيّين ونحاول التخلّص من هذه السلبيات في أسرع وقتٍ ممكن، وأن نتحكّم في خلايانا العصبية، وأن نُخضع أفكارنا للسيطرة دائمًا، ولا نسمح بمرور ما لا يرضي الله.. علينا أن نمنع الأفكار التي لا يمكن التوفيق بينها وبين نظامنا العقدي من الدخول إلى مشاعرنا وأفكارنا، وحتى أحلامنا.
إذا كانت مواقف الآخرين وسلوكياتهم غير الإنسانية تقودنا إلى أفكار وأفعال مشابهة، فهذا دليل على ضعف إرادتنا وضعف إيماننا، وإذا كانت الانحرافات التي يعيشها الآخرون تجعلنا نعيش نحن أيضًا انحرافات مماثلة، وكانت الضغوط والإهانات التي نتعرّض لها تضرّ أيضًا بقلوبنا وأفواهنا فهذا يعني أننا لم نستطع وضع أقدامنا على أرضيةٍ صلبة، ولا الثبات في الطريق الذي نسير فيه، ويجب أن يكون وردنا دائمًا وأبدًا ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/8).
كلُّ شخص يفعل ما تمليه عليه طبيعة شخصيته، دع الآخرين فليكتبوا ويرسموا ويتحدّثوا ويتصرّفوا وفقًا لطبيعتهم! بل ليكذبوا أشدَّ الكذب إن أرادوا، وليلجؤوا إلى جميع أنواع الافتراء والتشهير، وليأتوا بما لا يوصف من القبائح، وليغلوا في ظلمهم؛ ولكن يجب ألا تدفع أفعالُهم المنحرفةُ والخاطئةُ منْ نذروا أنفسهم بصدقٍ لخدمة الإيمان والقرآن إلى سلوكيّات مماثلة.. فكذبُ أحدهم مائة أو ألف مرة لا يبرر لك أن تكذب ولو مرة واحدة، واتصاف غيرك بالكفر أو ارتكابه جرائم مختلفة لا يبيح لك فعل ذلك، إن الحرام حرام دائمًا، وانغماس العالم كله في الحرام لا يُحللُ لك ذرّةً من الحرام، ولو أن الآخرين سرقوا الجمل بما حمل، فستخسر أشياء كثيرة إذا ما خالطتك قطرةٌ من الحرام.
نعم، إن القرآن الكريم يقول: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/84) بمعنى أن كل فرد يتصرّف وفق مزاجه وطبيعته نفسه، ويفعل ما تمليه عليه شخصيته، وفي بقية الآية يقول: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/84)، وبما أن الله هو من يعلم كلّ شيءٍ ومَنْ سيعاقب على أفعالنا أو يُثيب عليها، فيجب علينا أن نعدّل مواقفنا وسلوكنا تبعًا لذلك، وسيحصل كلُّ امرئ على جزاء ما فعل.. وإذا كان البعض يسلك طريق الاضطهاد والظلم، فسينال ما يستحقه في هذه الدنيا تمهيدًا للعقاب الذي سيلقاه في الآخرة. ومن يَسِمون الأبرياء اليوم بـ”الخونة والإرهابيين” ربما يتعرّضون أنفسهم للافتراءات نفسها ذات يوم؛ لأن الله عادل.. أنا أؤمن بعدالة الله بقدر ما أؤمن بوجوده.
عاقبة الظالمين
سترون قريبًا أن مَنْ أعدّوا مشاهد الظلم التي نشهدها اليوم، ومَنْ يُسلطون الناس بعضهم على بعض، ومَنْ يحاولون بناء مستقبلهم الخاص بدماء الآخرين ودموعهم سيعيشون في خراب ويبابٍ، وفي شتات وضياع، ويتعرّضون لصفعات القدر القاسية، حتى إنكم ستشعرون بالحزن لحالتهم البائسة وستقولون: “ليتهم لم يفعلوا الكثير من الشر في السابق، ولم يصيروا ألعوبة في يد الشيطان، حتى لا يكونوا من الخاسرين!”، عندما ترون أولئك الذين فعلوا بكم كثيرًا من الشر، واستساغوا كل أنواع القسوة بحقكم -عندما ترونهم- يهوون لاحقًا الواحد تلوَ الآخر مثل الأشجار التي ضربتها العاصفة، ويتساقطون مثل الأوراق التي تعصف بها رياح الخريف، وقد انهارت عروشهم على رؤوسهم؛ فكيف لكم ألا تقولوا: “آه، كم هو محزن!”، وكيف يمكن ألا تشفقوا على الشباب الذين انخدعوا وانهاروا في الشوارع وضاعوا بسببهم!
لقد مارسوا من الظلم والاضطهاد، وفعلوا من الشرور ما لا يمكن تصوّره لدرجة أنهم لم يتركوا وراءهم شيئًا يُذكر بالخير بعد ذلك، لقد أغلقوا جميع الأبواب التي يمكنهم اللجوء إليها وطلب المساعدة منها، وكم أتمنّى لو أنهم تركوا لنا على الأقل دافعًا لقراءة الفاتحة عليهم! لو أنهم تركوا علاقةً ولو بسيطة، لو أنهم لم يدمّروا الجسور تمامًا!
وبعد أن ينتقل هؤلاء الظالمون إلى الدار الآخرة فإنكم ستجدون صعوبة في العمل بحديث رسولنا صلى الله عليه وسلم: “اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ”[1]، وعندما تسمعون أسماءهم وتتذكّرون الآلام التي عانيتموها، ستفور مشاعركم بحسب طبيعتكم الإنسانية، وربما ستوفون إرادتكم حقّها عندئذ، وتتحكّمون في مشاعركم السلبية لئلا تتصرّفوا بما يخالف المبادئ الأساسية للدين، وستقولون مرة أخرى: “صبر جميل”، وستحاولون ضبط ردود أفعالكم الداخلية، فلن تشتموهم أو تلعنوهم، لأن شخصيَّتنا العامة تتطلّب أن نكون هكذا.
إذا كان كل امرئ سيفعل ما تمليه عليه شخصيته، فهذا يعني أن الظالمين سيواصلون قسوتهم حتى يُطاح بهم، ولن يترك الفاسقون فسقهم وفجورهم، ولن يتخلَّى المنافقون عن النفاق، وسيستمرّ هذا الحال حتى ولو تغيرت الأسماء والأشخاص.
وعليه فإنه يقع على عواتق المؤمنين الذين كرسوا حياتهم لخدمة الإيمان والقرآن أن يتعاملوا بإيمان ويحافظوا على أحوالهم وأفعالهم التي تليق بالمؤمن، ويجب علينا أن نفي بمقتضيات شخصيتنا، رغم كل الصعوبات، وألا نتخلَّى عن موقفنا الأخلاقي، وأن نعمل على تجاوز الأزمات والصعاب التي نمر بها ثقة بالله وتسليمًا وتوكّلًا وتفويضًا له، كما ينبغي ألا تقودنا الدناءات والشناعات المرتكبة إلى فعل قبائح مماثلة، بل ألا تَرِدَ في أحلامنا ولا تخطر ببالنا فكرة الانتقام، وألا نسمح أبدًا للأحقاد والكراهية أن تدُبَّ في داخلنا، لأننا -رغم كلِّ الظروف- مطالبون بالحفاظ على نزاهتنا الروحية والفكرية والحسية.
يجب أن نعلم جيّدًا أنه كان هناك دائمًا من يؤذون ويهينون، ويزدرون أناسًا ليس لديهم أيّ هدفٍ سوى إعلاء مُثُلهم الدينية وتحقيق أحلامهم النبيلة، وسوف تقابلون أمثال هؤلاء الأشخاص دائمًا، ومن جهةٍ سيقوم أفراد الخدمة الذين يتعرّضون لهذه الأمور بتطوير إستراتيجيات لدفع المكائد التي تعترضهم، مثل المصارعين المحترفين، ومن جهةٍ أخرى سيسعون إلى مواصلة خدمتهم دون تردد.. فإن تهدروا كلَّ أوقاتكم بالضربات القادمة من اليمين واليسار، ومن الأمام والخلف؛ فستخسرون.
قد يواجه المخلصون في أثناء محاولتهم تعمير قلعةٍ خربةٍ منذ عدّة قرون وإصلاحها، عقباتٍ وهجماتٍ من البعض، وبحسب حجم الهجمات، قد يحدث دمارٌ وانهيارٌ في البنية من موضعٍ لآخر، وربما تُغتصب المؤسسات التي أقامها المؤمنون المخلصون بعرق جبينهم ودموعهم وكثيرٍ من الجهود بهدف حماية الأجيال الشابة، فيجب علينا في مواجهة كل ذلك أن يكون لدينا إيمانٌ وأملٌ وتصميمٌ وعزمٌ يؤهّلنا لتحقيق عشرة مكاسب مقابل خسارةٍ واحدة، وأن نواصل طريقنا من خلال إيجاد طرق بديلة جديدة، وإذا ما انتزعوا منّا واحدًا، علينا أن نُسهم في إيجاد عشرة يلتفّون حولنا، ينبغي أن يزداد حماسُنا وحذرُنا كلّما هاجمنا الظالمون واعتدوا علينا، وأن نخصّص المزيد من الوقت لخدماتنا ونزيد من سرعتنا أكثر فأكثر.
سيأتي يوم ينظر الحق تعالى فيه بألطافه السبحانية الربانية إلى مثل هذا العزم والتصميم وروح التضحية، ونحظى بنعمٍ وألطافٍ إلهيّة أكثر بكثيرٍ وكثيرٍ من الأعمال التي عملناها وفاءً بحقّ إرادتنا، بل وعلى نحو يستحيل شرحه وتفسيرُه وفق مبدإ تَنَاسب العلية.
الحقّ والعدل والاستقامة
جوهر الأمر هو الحقّ والعدل والاستقامة، إننا مطالبونا باحترام الحق والحقيقة لدرجة الخضوع أمام الحق حتى ولو كان ذلك ضدّ أنفسنا ومصالحنا، يجب ألا نبتعد عن العدل ولو لحظةً واحدةً، نحن مكلفون بالعيش في استقامة تامّة، ويجب أن نتحلّى بحساسيّة ودقّة بالغة في عدم التعدي على حقوق الأفراد والأمة ما حَيِيْنا، وألا نتخلَّى عن فكرة الإخلاص ولو للحظة، وألا نوقف خدمة الإيمان والقرآن أبدًا، حتى ولو أقبلت علينا الدنيا بكلّ أبّهتها وزهوها فيجب أن نكون عازمين لأن نفضّل عليها الخدمات التي نضطلع بها حاليًّا، ونفضّل فتح القلوب ودخولها على سلطنة العالم.
عندئذ سيرد الله تعالى عليكم الخيرات التي قدمتموها أضعافًا مضاعفة، ويجازيكم أَضعاف جهودكم، سوف يمنُّ عليكم بفتوحاتٍ غير متوقّعة، وسيقيم بأيديكم القيم الإنسانية العالمية التي تتوقّعها البشرية، كيف لنا أن نعرف كل هذا؟! لأن هذا هو نهج النبي ونهج الصحابة، والله لا يتخلَّى عمن يسلكون سبيله، ولا يصيبهم بالعطب.
أما بالنسبة لمن تركوا الحق والعدل والاستقامة، وانخدعوا بمناصبهم وسياستهم وسلطتهم وقوتهم وقدرتهم فسيخسرون -عاجلًا أو آجلًا- حتى ولو حقّقوا بعض الانتصارات والنجاحات المؤقّتة، وسيتعرّضون للمهانة والاحتقار بينما هم لا يزالون في الدنيا، وسيرتجفون من الخوف، ويبحثون عن حفرة يهربون إليها، وهم نادمون على ما فعلوا.. إن الأشياء التي يفعلها منْ يلوثون حياتهم الروحية ويعيشون في اللوثيات سوف تُردُّ عليهم ذات يوم، وعندما ينتقلون إلى الآخرة، ستكون حالتهم بائسةً، ولن يُمنحوا الأمان.
نعم، فالعاقبة للمتقين، على حدّ قول الآية القرآنية، لكن انتظار ذلك يتطلّب صبرًا حقيقيًّا، وهذا أمرٌ ثقيلٌ للغاية، ولكن المكافآت التي سيتم الحصول عليها في النهاية أثقل وأكبر، وستضيف وزنًا إلى الوزن الذي في كفة الحسنات.. يكفي أن نستطيع مواجهة حتى أكثر الأمور إيلامًا بقلبٍ منشرِحٍ صادقٍ، وأن نقول: “الحمد لله على كل حال سوى الكفر والضلال” حتى ونحن نتألم، فالحمد والشكر لله الذي لم يعرّضْنا لهفوات وسقطات شيطانية رهيبة، ولم يجعلنا نضحّي بقلوبنا وحياتنا الروحية طمعًا في السلطة، وحفظنا من السرقة والنهب، ووقانا من التصفيق والتهليل للظلم والظالمين.
[1] سنن أبي داود، الأدب، 49؛ سنن الترمذي، الجنائز، 34.