(كنزُ (لا أسألكم عليه أجرًا

(كنزُ (لا أسألكم عليه أجرًا
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

إننا نعيش في فترةٍ لا يُعرَف فيها الله بشكلٍ صحيحٍ، ويُجهَل فيها جوهر الدين وروحه، فللأسف انهزمنا أمام المظاهر والأشكال، وانخدَعْنا بالدنيا، ومن ثم تحتاج القلوب إلى تجديدٍ حقيقيّ، وإلى الشعور بالوحي غضًّا طريًّا وكأنه ما زال يتنزّل من السماء، نسأل الله أن يهبنا الأصوات الصادقة والنفوس المخلصة التي تمكّننا من هذا التجديد؛ لأن الأعمال التي تُقدّم باسم الدين، والكلمات المبذولة لتبليغ الدين، إذا تخلّلها الرياء والعُجب والفخر والأنانية -وإن بدت كبيرةً من حيث الظاهر- فإنها لا تعبر في الحقيقة عن أيِّ شيءٍ بالنسبة للدين والإيمان.

 فلا يُتصوَّر أن تفيد هذه الأعمال والكلمات شيئًا لأصحابها أو للمستمعين لها، ولا يمكن أن تكون وسيلةَ ارتقاءٍ ينسلخ الناسُ بها من الحيوانية، ويتجرّدون من المادية، ويرتقون إلى مدارج حياة القلب والروح، فمثل هؤلاء الناس الذين لم تصدُق قلوبهم يدبدبون في أماكنهم دون أن يتحرّكوا خطوتين إلى الأمام، بل يسيخون وينغمسون في الأرض أثناء محاولتهم الصعود إلى أعلى.

من كان همّهم الدنيا

لقد أخبرنا النبي الصادق صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي في آخر الزمان أقوامٌ يقرؤون القرآن بأفواههم ولا يجاوز حناجرهم، فقال: “يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، ‌يَمْرُقُونَ ‌مِنَ ‌الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرمية[1]؛ وهؤلاء يمكن أن نطلق عليهم أرباب الاستعراض الصوتي أو ملوك الحناجر، هؤلاء الذين يسعون من وراء الآيات التي يتلونها والقصائد والمدائح التي ينشدونها إلى إثبات ذواتهم وإبراز مهاراتهم، بيد أن الكلمات التي تنطلق من أفواههم لا تنبعث من قلوبهم؛ لأنهم يعيشون حياةً مزدوِجَةً، قلوبُهم شيءٌ وعقولُهم شيءٌ آخر، إننا للأسف نعيش في عصرٍ يسوده مثل هذا الحرمان والفقد، فقد فقدنا كثيرًا من جوهر الدين وجمالياته، ولهذا باتت الحاجة ملحّة إلى بذل المزيد من السعي والجهد طويل الأمد من أجل ترميم ما تم تدميره.

فلا طمانينة حقيقيّة لمَن كانت غايتُه الدنيا، فمَن كان همُّه الدنيا كان عنده من الهمِّ بقدر الدنيا، فناشدوا ضمائركم، وأعيدوا النظر في حياتكم وبيئتكم والدنيا التي تعيشونها، عندها ستجدون كثيرًا ممن ابتُلوا بالدنيا يتلوّون في دوامة من المشاكل والهموم، فهؤلاء يحوّلون حياتهم إلى جحيم من أجل البقاء في الدنيا لفترةٍ أطول، وفي سبيل التمتّع بها لوقتٍ أكبر، والإكثار مما يملكونه من متاع الدنيا، وبينما يحاولون إعمار حياتهم في الدنيا يستنفذون زاد آخرتهم دون أن يدركوا ذلك..

 أحيانًا يسير بعض المتدينين في إثر هؤلاء من أهل الدنيا، وينصتون لكلامهم، فيأخذون دون إدراك منهم في الابتعاد عن الحقائق السامية، والانجراف تدريجيًّا بعيدًا عن موقعهم، وإذا لم يثوبوا إلى رشدهم، ويعيدوا التفكير في حالهم؛ فلربما يسقطون -حفظنا الله- إلى أسفل سافلين.

وإلى جانب هؤلاء الذين يكون همُّهم الدنيا، هناك أيضًا من يكون همُّهم الآخرة، وهؤلاء يُقرّ عيونَهم ويُثلج صدورَهم؛ رضا الله ورضوانه ولقاؤه.. فالذين يركضون وراء الدنيا يعيشون في بؤسٍ وقلقٍ وخوفٍ وإن كانوا يسكنون الفيلات والقصور، أما الذين يعيشون من أجل الله فيستمرّون في تجرّع السكينة والطمأنينة وحتى لو سجنوا أو صُلبوا أو اعترض طريقَهم الغيلان وأحاطت بهم من كلِّ مكان.

الذين تعثروا في الطريق

هناك أيضًا مَن يتعثرون ويتساقطون أثناء السير في سبيل رضا الله تعالى ورضوانه، وهؤلاء هم الذين وصلوا في ارتيابٍ وترددٍ إلى منتصف الطريق. وكما ورد في بعض الآيات الكريمة إن من سنة الله تعالى أن يُخضع الناس أحيانًا إلى امتحانات شتى حتى يميز الخبيث من الطيب، والفحم من الألماس، والتراب من الذهب، عندها يسقط الذين لم يتجاوز الإسلامُ ألسنتَهم وشفاهَهم، ولم تستوعبْه قلوبُهم، ولم يترسّخ في أفئدتهم، ولا شك أن الذين يعشقون الدنيا وليس الحقائق السامية يتساقطون في منتصف الطريق.

يقول مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَار“، ندعو الله أن يوفق جيلنا والأجيال التي ستأتي بعدنا لتحقيق هذا الهدف السامي العظيم! فمثل هذه الوظيفة المقدسة لو خالطَتْها مصلحةٌ دنيويّةٌ ولو بقدر أُنملة دنّستْها، حتى ولو كنتَ تقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتقوم بعباداتك على أكمل وجه.. فلو أنك مثلًا ربطتَ هذه الوظيفة المقدّسة ببعض المصالح والمنافع الدنيوية مثل كسب النفوذ والقوة، ونيل تقدير الناس وإعجابهم، والحصول على شيءٍ من متاع الدنيا، وخالفتَ طريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فستتعثر وتتساقط في الطريق.

فيروس الطمع

إن الذي لا يفتأ يردّد الأنا في كلامه، ويهتمّ بحساباته، ويتجاهل الآخرين، ويركض وراء أغراضه الشخصية؛ لا يستطيع أن يفكّر بحقٍّ في الآخرين.. فإذا كنتم تفكّرون دائمًا في مصالحكم الشخصية؛ فلن تتمكنوا من تحقيق نجاحٍ دائمٍ مهما كانت خدماتكم من أجل الإنسانية نافعة وجميلة وخيّرة، فإن الذين تحرّكهم المصالحُ والمنافعُ لا تَعِدُ خدماتُهم بشيءٍ مستقبليٍّ حتى ولو صعدوا بالناس إلى عنان السماء، ونصبوا المعارج إلى الجنان؛ لأن مثل هذه المشاعر والأفكار والأطوار والتصرّفات تتعارض مع نهج الأنبياء عليهم السلام؛ فالله عزَّ وجلَّ قد بيَّن الطريق المستقيم للأنبياء العظام، وقد التزموه على الوجه الأكمل، ولهذا السبب أقنعوا الآخرين، وتركوا أثرًا في القلوب، ودامت الآثار التي خلّفوها.

وإذا كنت ترغب في خدمة دينك وقيمك ومبادئك وبلدك، وأن تكون مفيدًا للإنسانية، فيجب عليك في البداية أن تنسى نفسك ومصالحك الشخصية، وأن تنكر ذاتك وتفني نفسك، فإذا كان لديك فضيلةٌ جديرةٌ بالتقدير لما تبذله من جهد وسعي وما تتمتّع به من علمٍ وفكرٍ، فدَعِ الآخرين يقدّرونها، وإذا كنت تؤمن بأنك تسير في سبيل الله، فاعلم أن أعظم رأسمالٍ لديك هو عدم التشوّف إلى مقابلٍ أو أجرٍ.

قد يعود عليك التشوفُ إلى الأجرِ والحساباتُ الشخصيةُ ببعض المنافع، ولكن لا تغفل عن حقيقة أنها منافعُ دنيويةٌ، ومن ثم فإنها مؤقّتةٌ، فضلًا عن أنها غير مضمونةٍ؛ لأن العديد من الطغاة والمستبدين الذين ملكوا زمام السلطة وضعوا مصلحتهم الشخصية في المقام الأول بدلًا من أن يخدموا الناس ويفكروا في مصالحهم، فكانت العاقبة أن أضرّوا بأنفسهم وأنهكوها، وكما دمّرت هذه الأرواحُ الأنانيةُ النرجسيّةُ المولعةُ بالمصالح الشخصية والسلطة والأبّهة والعظمة آخرتَها؛ فكذلك فشلوا في إحياء دنياهم. أجل، إن جعْلَ كلِّ شيءٍ يعتمد على المصالح الشخصية، بما في ذلك الخدمات المبذولة في سبيل الله، هو مرضٌ عضالٌ أخطر من السلّ والسرطان.

فالذين يربطون وظائفهم بالحصول على الأجر أو تحقيق بعض المطامع يفشلون لا محالة، فالطمع مثل فيروسٍ لا علاج له، ويودي بالإنسان إلى الموت المحتّم، يتسلّط هذا الفيروس على بنية عالم الدين كما يتسلّط على السياسيين، وكما يصيب الفنانَ يصيب رجلَ العلم، وكما يؤثّر في القائدِ يؤثّر في القاضي، إن الذين أصابهم مثل هذا الفيروس قد انتهى أمرهم في الحقيقة وإن بدا أنهم ناجحون في الظاهر، وكما ذكرنا في البداية قد يكونون وسيلةً لبعض الخيرات والجماليات، لكن هذه الجماليات لا تبقى على الدوام.

حسبنا الله!

وقد ورد في مواضع متعدّدةٍ من القرآن الكريم أن عدم التشوّف إلى الأجر هو مبدأٌ أساسيٌّ للأنبياء عليهم السلام وورثتهم الكاملين، فمثلًا في سورة “يس” يتحدّث القرآن الكريم عن أصحاب القرية التي جاءها المرسلون، ورغم أن الاعتقاد العام يشير إلى أن هؤلاء الرسل هم الحواريون فإننا لا نملك معلوماتٍ قاطعةً في هذا الشأن، من المحتمل أن يكون هؤلاء الرسل قد أرسلهم رسولٌ آخر، أو أرسلهم الله عز وجل مباشرة.

لقد أرسل الله تعالى اثنين من الرسل لدعوة أهل هذه القرية إلى الحقِّ والحقيقة، فكذبوهما، فعززهما اللهُ تعالى برسولٍ ثالثٍ، فقال أهل القرية: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ (سورة يس: 36/15)، واتهموهم بأنهم يجلبون الطيرة والشؤم، وهددوهم بالرجم والعقاب، فنهض لدعم هؤلاء الرسل رجلٌ من أقصى القرية ربما يكون قد آمن من قَبلُ بالرسالة الإيمانية واطّلعَ على الحقّ والحقيقة، وقال: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (سورة يس: 36/20-21).

ومع إعادة النظر في هذه الكلمات وفي الإطار العام لمفهوم الهداية يمكننا أن نقول بشيءٍ من التفصيل: كيف لا تتبعون هؤلاء الرسل وهم الذين لا يسألونكم أجرًا ولا يرجون منكم منفعةً على إرشادهم إياكم وقيامهم بوظيفتهم نحوكم؟ فضلًا عن أن هؤلاء يسيرون على هدًى وعلى طريقٍ مستقيمٍ، أهدافُهم معلومةٌ، وطرقُهم واضحةٌ، ويسيرون في مسارٍ سلميٍّ آمنٍ، وليس في الحقائق التي يحدّثونكم بها ويدعونكم إليها ما يتعارض مع الطبيعة البشرية أو يخالف المنطق الإنساني أو يثير ضمائركم ومشاعركم، وإذا نظرتم إلى الأمر بشكلٍ معقولٍ؛ فلن تجدوا في الطريق ما يُرهبكم أو يُحدِث لديكم ردّة فعلٍ سلبيّة؟ فهل مثل هؤلاء الناس لا يُتبَعون؟ ولا يُهتَدَى بهداهم؟!

وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة بمفهوم المخالفة نقول: لا تتبعوا الذين يسألونكم أجرًا على ما يعدونكم به، ويربطون خدماتهم بأطماعهم، وأصبحوا يستمتعون في الفيلات والشاليهات رغم أنهم نشؤوا في العشوائيات، يجب أن يكون من تستمعون له وتتبعون طريقه ممن يقولون أثناء سيرهم إلى الله: “عزفَت نفسي عن الدنيا، ولم يبقَ لي فيها بيتٌ ولا مأوى!”.

فالمؤمن الحقيقي الذي يتوجّه إلى الله تعالى بكلِّ قلبه يكون أملُه كلُّه في الله، يكفيه رضا مولاه، والذي يحرص على الرضا لا يأمل أن يتوجّه الناس إليه بالإعجاب والتقدير والتصفيق حتى وإن قدّمَ خدماتٍ رهيبةً في سبيل غايته فإذا شعر بالامتنان لشخصٍ ما، فإنه يكون ممتنًّا لمن ينتقده، وليس لمن يقدّره؛ لأنه يعتقد أن التقدير والإطراء يجعلان الإنسان مغرورًا ويلويان عنقه؛ فينظر إلى من يكاشفونه عيوبه بشكلٍ ظاهرٍ أو خفيٍّ على أنهم يلفتون نظره إلى وجود عقربٍ فوق عنقه، وبذلك ينقذونه من خطرٍ محتومٍ؛ لأن عدم اعتراف الإنسان بعيوبه هو مؤشِّرٌ كبيرٌ على أنانيّةٍ فظيعةٍ.

[1]  صحيح البخاري، فضائل القرآن، 36؛ صحيح مسلم، الزكاة، 154.

  • https://s1.wohooo.net/proxy/herkulfo/stream
  • Herkul Radyo