الزهد والجود والحرية

الزهد والجود والحرية
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

سؤال: يقول الإمام الغزالي رحمه الله رأس الزهد السخاء، فهل هناك علاقة بين الزهد والجود؟

الجواب: الزهد باختصار هو ترك متع الدنيا وملذاتها، وخلع الدنيا وما فيها من القلب بالكلية، ويُقال لمن ترك الدنيا زاهد، والزاهد هو مَن يحدد علاقته بالدنيا وفقًا لمعايير الحاجة والضرورة، ويحاول الحصول على ما يلزم من قوّةٍ وطاقةٍ بقدر ما يعينه على أداء عباداته، والانفتاحِ على العوالم المعنويّة، والتوجّه إلى الباب الذي يتوجب عليه التوجّه إليه.. غرضُه الأساسُ من ذلك الظفرُ بمرضاة الله، ونيلُ السعادة الأخروية، مع علمه أن السير باستقامةٍ نحو هذه الأهداف يتطلّب تلبية بعض الاحتياجات الجسمانية مثل الراحة، والأكل والشرب، وإشباع بعض الرغبات والمشاعر الفطرية؛ لذلك لا يسلك طريقًا يتعارض مع الفطرة.

ويمكن تعريف الزهد بهذا القول النفيس لبديع الزمان سعيد النورسي: “ترك الدنيا قلبًا لا كسبًا”. ومثل هذا الشخص الذي يترك الدنيا قلبًا يراعي الأسباب قدر المستطاع، ومهما كان العمل الذي يقوم به فإنه يعمل ويجدّ ويجتهد للحصول على النتيجة، ويستغلّ قوّته العقلية وقدراته واستعداداته حتى النهاية، ولكن لا يتعلّق بالنتائج، وحتى ولو لم يحصل على مقابلٍ لمجهوده لا يشعر بخيبة أمل، ولا يأسى على ما فاته من الدنيا ولا يفرح بما كسبه منها، ولا تنفك عن شفتيه هذه الكلمات إذا أصيب في ماله أو نفسه أو ولده أو صحته: “الحمد لله الذي أعطاني كل هذا، والآن استرده، إن لله ما أعطى وله ما أخذ”. هذا هو موقف الرجل الصالح الذي بلغ مرتبة الزهد تجاه كلّ حالةٍ ووضعٍ يواجهه سواءً كان إيجابيًّا أو سلبيًّا.

أما بالنسبة للعلاقة بين الزهد والجود فلا يُتصوّر من إنسانٍ قطع علاقته القلبيّة بالدنيا أن يكون شحيحًا، بل على العكس لا يتوانى في إنفاق كلِّ ما يملك في سبيل الله، وعلى ذلك نجد أن الزهد والجود متلازمان.. وعند النظر إلى المسألة من جانبها الآخر يتبدّى لنا أن الزهد لا يتحقق في الإنسان إلا إذا قدرَ على الإنفاق طواعية، وحتى يصل إلى درجة الإيثار فعليه أن يكون جوادًا بما يكفي لإيثار إخوانه على نفسه حتى ولو كان به خصاصة.

والجواد اسم من أسماء الله، وهذا الاسم الشريف وإن لم يرد ضمن الأسماء الحسنى التسعة والتسعين التي أحصاها الحديث المشهور فقد ورد في حديث آخر قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ جَوادٌ يُحبُّ الجُودَ[1]. وفي “الجوشن الكبير” ورد هذا الاسم الشريف في ثلاثة مواضع بلفظ “ذو الجود”، وفي موضع آخر بلفظ: “يا أجود من كل جواد”، وبعض العلماء يستخدمون صيغة “الجوّاد” بالتشديد على سبيل المبالغة؛ لأن خزائن الله واسعةٌ لا تنفد، وعطاءَه لا حدود له ولا حساب.. ومن ثم فإن الذي يجعل من الجود خُلُقًا له يكون قد تخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى.

ولا نفهم من الجود أنه مقصور على تقديم الطعام والشراب، أو المساعدة المادّية للآخرين؛ لأن دائرة الجود أوسع بكثير، فالجود يشمل كلَّ أنواع العطاء المادّي والمعنويّ، وكلَّ نيّةٍ طيبةٍ ودعوةٍ صالحةٍ للإخوة.. على سبيل المثال، عندما يسأل الإنسانُ ربَّه سبحانه وتعالى أن يهبه الإخلاص والرضا والرضوان والشوق والاشتياق، ثم يقول: اللهم ارزق إخوتي كلَّ هذا؛ فهذا نوعٌ من أنواع الجود، وبالمثل يمكننا اعتبار كلِّ التصرّفات التي تتمخّض عن أسمى أشكال الإيثار من ضمن أنواع الجود، والإنسان الذي يتحلّى بهذا الخلق العالي يتعامل بجودٍ وكرمٍ مع إخوانه حتى في الآخرة، فمن الممكن أن يقول: “ليعبر أخي الصراط، ويدخل الجنة، ويفوز برضا الله أولًا، ثم ألحق أنا من بعده”.

ويمكننا ربط الجود بمفهوم الإحياء الذي دائمًا ما نتناوله ونركّز عليه، فالشخص الذي يحيا من أجل إحياء الآخرين، ويبذل كلّ التضحيات حتى يمكّن الآخرين من القرب إلى الله، ويكرِّس حياته لإزالة العوائق بين القلوب وبين الله؛ هو مَن يمثّل الجود والزهد في أبهى صورةٍ وأجملِ حُلّةٍ

وأخيرًا فإنّ الزهد هو طريق الحرية الحقيقية، فالذي لا يعلّق قلبه بمُلك الدنيا ومتعها الدنيوية؛ لا ينحني أمام أحدٍ، ولا يخضع لأحدٍ، ولا يتملَّق أحدًا، ولا يطيع أحدًا بلا قيدٍ أو شرطٍ؛ لأنه يعرف أن العبودية لله هي أشرف المقامات، أما العبودية لغير الله فهي شركٌ بالله.. وحتى لو عرضوا عليه كلَّ متاع الدنيا ما صرفه ذلك عن منهجه شيئًا؛ لأن المنهج الذي يسير عليه ليس بالشيء الذي يمكن استبداله بأشياء دنيوية، ولا هو بالذي يمكن شراؤُه بالفيلات الفاخرة، ولا يمكن لصاحب هذا المنهج والمسار أن يتملَّقَ أحدًا بغية الوصول إلى المقام والمنصب، فعلى الناذرين أنفسهم لله الذين استهدفوا الحياة الأبدية الطويلة ألا ينخدعوا بتصرّفات وسلوكيات البسطاء ممّن يعيشون يومهم فقط، ولا يكترثون بغدٍ أو مستقبلٍ. وأختم موضوعنا بتلك الأبيات:

سؤال الناس يُشعرنا بالحرج على الدوام

سؤال الناس بالنسبة لمن ييمّم وجهه للحق عذاب وسخام

لم نرجُ من أحدٍ إحسانًا تفوح منه رائحة المنّ والأذى والضرّ

فالإحسان المشوب بالمنّ عذابٌ بالنسبة لصاحب الضمير الحرِّ.

[1] سنن الترمذي، الأدب، 41.

  • https://s1.wohooo.net/proxy/herkulfo/stream
  • Herkul Radyo