الوعي بالتاريخ

الوعي بالتاريخ
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: كيف يمكن إكسابُ أجيالِ الشبابِ الوعيَ بالتاريخ دون استحضارِ خصوماتٍ وقعَت في الماضي؟

الجواب: لا يمكن بناء مستقبلٍ بدون ماضٍ؛ لأن الماضي لأيّة أمّةٍ بمثابة الجذر والأساس، فلا يمكن بناء المستقبل إلا عليه، بل ولا يمكنه أن يتفرّع ويتشعّب إلا بالاعتماد عليه، ولهذا قال يحيى كمال بكلماته الموجزة: “أنا مستقبل جذوره ضاربة في الماضي”.. إن ما قاله يحيى كمال ذو مغزًى عميق؛ لأنه ينبغي للأجيال التي ترغب في بناء مستقبلٍ راسخٍ أن تحافظ على اتصالها بجذورها.

إن ما يُكَوِّنُ شخصيَّتنا هو قِيَمُنا وجذورُنا الروحية والمعنويّة، وعندما استخدمناها مجتمِعةً واتَّكأنا عليها ارتفعنا كناطحات السحاب، وصرنا عنصرَ توازنٍ في ميزان الدول، وسَرَتْ كلمتنا على العالم، وصرْنا وسيلةً لأن تعيش البسيطة حقبةً من السلام بدءًا من الجزر الأيرلندية إلى فرنسا، ومن هناك إلى المحيط الهندي.. لدينا ماضٍ نفتخر به، وجذورٌ قويّة نقف عليها كنصبٍ تذكاري، ولا يمكننا أن نتجاهل هذا.

نعم، لا يمكننا بناء مستقبلٍ من خلال إنكار الماضي والإعراض عنه؛ لأن بذور بوتقة قيمنا ثاويةٌ في الماضي، ومَن بَذَرَ تلك البذور في قلوبنا هم الأنبياء العظام عليهم السلام، وسلطان الأنبياء ومفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ومِن بعدهم الخلفاءُ الراشدون، والصحابة الكرام والتابعون الفخام، والمجتهدون العظام، والمجددون الكرام… وإن جذورَنا لتمتدّ فتصل إلى هؤلاء العظماء، وتجاهلُنا لهم يُعرّضنا لنوعٍ من افتقاد الأصالة، وعندما ننقطع عنهم، نستحيل أشجارًا بلا جذورٍ، أو أوراقًا تساقطت عن أغصانها، وحملَتها الرياح فلا تدري أين ومتى وكيف ستسقط.. إذا أردنا الثبات والصمود في مكاننا حتى في مواجهة أعتى العواصف، ونشر نسمات البعث فيما حولنا؛ فيجب أن نتمسّك بهذه الجذور الراسخة ونعضّ عليها بالنواجذ.

لا يمكن للمجتمعات التي بعُدت عن جذورها وفقدت ماضيها أن تستمرّ في طريقها بشكلٍ مستقرٍّ وحازم؛ ولأنهم لا يستطيعون السير على أرضية ثابتة، فإنهم يترنّحون هنا وهناك، ويأفلون واحدًا تلو الآخر.. هذه المجتمعات غير المستقرّة تشبه تمامًا الأفراد الذين لا يستطيعون تحديد مكانهم واتجاههم؛ فينتقلون من حالةٍ مزاجيّةٍ إلى أخرى حسب ظروف اليوم وملابساته، وما يقولون إنه صحيحٌ اليوم يقولون عنه غدًا إنه خطأ؛ فيدافعون اليوم عن فلسفةٍ أو أيديولوجيةٍ معيّنةٍ، وغدًا عن فلسفةٍ أو أيديولوجيةٍ أخرى؛ إذ يفتقرون إلى الأسس الثابتة والمبادئ الأساسية التي يمكنهم أن يحيكوا الوقت عليها كالنسيج.. إذا كان مقدرًا لنسيج روح الأمة أن يُحبك، فلا يمكن لهذا أن يتحقّق إلا بناءً على مجموعةٍ من المبادئ الثابتة، وإذا كنا نريد أن نقيم صرح روحنا مرة أخرى، فإن ذلك يعتمد على الالتفاف حول قيمنا الذاتية التي تشكّل شخصيّتنا.

والمصادر الرئيسية لتراثنا الثقافي هي؛ أولًا: الأدلة الشرعية الأصلية -الكتاب والسنة والإجماع والقياس- ثم الأدلة الشرعية الفرعية مثل: الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع التي هي تعتمد على مصادر الاجتهاد المخلِص والصادق للسلف الصالح، والمبادئ العلمية مثل الكلام والتصوف.

بالطبع، لدينا ثروات أخرى تشكّل ماضينا وثقافتنا وقيمنا: وهي المكتسبات المتحقّقة من نتاج العقل، والمُكتشفة بفضل سعة الصدر، والمبتكرة من خلال التجربة، والمحصّلة بإمكانات العلم؛ وتقاليدنا وعاداتنا وأعرافنا الموروثة عن أسلافنا وأجدادنا، وقد فُسّرت هذه المكتسبات وفقًا للزمن من ناحية، كما أُخضعت لمصفاة “أمهات” و”محكمات” الكتب التي يمكن اعتبارها المبادئ الأساسية من ناحية أخرى، ونُقّح منها ما خالف القرآن والسنة، وما لم يتفق مع روح العصر.

وعندما نتحدّث عن جذورنا الروحية والمعنويّة، وعن الوعي بالتاريخ، ونوصي بالحفاظ على الارتباط بالماضي؛ فإننا نقصد المحافظة على كلّ ذلك، وعلى القيم الأساسية للثقافة والحضارة التي تشكّلت بناءً عليه، ونستخدمه أساسًا وقاعدةً في بناء حاضرنا ومستقبلنا، وبالتالي فإن الأفراد والمجتمعات التي تتبنّى الوعي بالتاريخ بهذا المعنى، وتفهم في الوقت نفسه العصر الذي تعيش فيه تَعِدُ بالمستقبل.. إنهم مثل الأشجار العظيمة الضاربة جذورها في أعماق الأرض، الناشرة أغصانها في عنان السماء؛ فهي لا تتأثر بالعواصف أو التسونامي لأن جذورها قوية، بل إن أعنف الأعاصير لا يمكنها أن تقتلعها من جذورها. ولا يمكن للقرون المتعاقبة أن تضرّ بشجرةٍ راسخةٍ على هذا النحو، ولا يمكن لتغيُّر الزمان وتحوّل القرون أن يجعلها تجفّ.. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/24-25).

أما بالنسبة للشعوب والمجتمعات التي انقطعت عن ماضيها فهي كالأشجار التي لا جذور لها؛ إذ لا يمكنها الصمود في مكانها؛ فيُظلِمون مستقبلهم أيضًا مثلما يضيّعون حاضرهم، يعيشون كلَّ شيءٍ وفقًا لليوم فحسب، وبالتالي يمكن اعتبارهم أشخاصًا بلا مستقبلٍ بمعنًى ما؛ لأنه لا مستقبل للحركات التي لا تُبنى على ماضٍ سليم.

عداوات الماضي

من الأهميّة بمكانٍ -أثناء إكساب الأجيال الشابة الوعيَ بالتاريخ- عدم فتح جراحات الماضي وصراعاته، وسواء اعتبرنا أنفسنا على صوابٍ أو على خطإٍ، فينبغي ألَّا ننقل سلبيات الماضي إلى الحاضر، كيلا نفتح الطريق أمام عداوات جديدة.. لقد اندلعت حروبٌ عظمى في الماضي لأسبابٍ ودوافع مختلفةٍ، ووقعت أحداثٌ اجتماعيّة كبيرةٌ أدّت إلى مآسٍ عظيمة، وأثيرت الحشود نفسيًّا في بعض الأماكن، ونُشرت الضغائن والكراهيات في بعض المناطق، وجُعلت الاختلافات سببًا للقتال هنا وهناك، ومن ثم ظهرت صراعات عديدة، ممّا أدى إلى انتشار المظالم وأعمال القمع والإدانات.

واجبنا اليوم ليس تكوين عداوات جديدة عبر نَكْءِ تلك الجراح التي كانت في الماضي، بل علينا ألا نحوّل الأحداث السلبية التي وقعت في الماضي إلى أسبابٍ لصراعاتٍ جديدة.. قد يهدّد البعض حياتنا وعفّتنا وممتلكاتنا، ويغزو وطننا، أو يطعننا من الخلف؛ ولكن لا فائدة من ربط أخطاء أناسِ اليوم ببعض الأخطاء التي ارتكبها أسلافهم.. على العكس من ذلك، فإن مثل هذه الاتهامات وعزو الجرائم يثير مشاعر الكراهية والاستياء لدى الناس، ويدفعهم إلى العداء أكثر فأكثر.. علينا أن ندفن العداوات التاريخية مع أصحابها وزمانها الغابرين، ونضع عليها صخورًا ضخمةً فلا تخرجنَّ، ونحول دون استعادة العداوات والأحقاد والخصومات من جديد.

الحقيقةُ أنه ليس من السهل نسيان بعض الأحداث التي وقعت في التاريخ ولا التغاضي عنها، من الطبيعي أن نتألّم وتنفطر قلوبنا عندما نفكّر في بعض الأحداث المؤسفة، ولا نتمالك أنفسنا من التحقيق في بعض الشرور والخيانات؛ فنشعر بغضبٍ تجاه مرتكبي هذه الجرائم، ونقول: لماذا فعلوا ذلك؟! ولماذا فعلوا هذا؟! ولكن بدلًا من الانشغال بذلك، وإضرامِ نيران الأحقاد التاريخية، وإثارةِ العالم، واستفزازِه، وخلقِ جبهات عدائية جديدة؛ يجب علينا أن نتعلّم من التجارب السابقة، ونفهمَ الدرس، ونقوم بدورنا في عالم اليوم، فلا نسمح بتكرار المأساة مرّةً أخرى.

نعم، لا ينبغي الخلط بين امتلاك وعي تاريخي وبين تحويل الأحداث الماضية إلى أسباب لصراعات جديدة، فعلى الرغم من أهمية امتلاك الوعيِ بالتاريخ كي نستطيع استجماع أنفسِنا والوقوف على جذورنا الروحيّة والمعنوية؛ إلا أن مراعاة كَون الأحداث والعِبَرِ -التي سنأخذها من الماضي إلى الحاضر- مفيدةً لنا وللآخرين؛ تمثّل أحد أركان هذا الطريق.

من ناحية أخرى، لا يمكننا أن نعرّض سلامة الطريق للخطر بمواقفنا وكلماتنا وأفكارنا، فلن يكون من الحكمة أبدًا تحويل الأشخاص الذين نقابلهم على الطرق التي نسير فيها إلى وحوش، فنجعلهم يهاجموننا؛ لأنه لم يثبُت حتى الآن أن أفادت الأحقاد والأضغان والغضب والغيظ البشريةَ بأيّ شيءٍ.

نحن نريد السلام في عالم المستقبل لا الحرب، ونتحرّك في هذا الاتجاه، لذا علينا أن نتعامل ونتعايش بشكلٍ جيّد مع الجميع، وبدلًا من خلق أعداء جدد، يجب أن نسعى بطريقة ما إلى تكوين صداقات حتى مع أولئك الذين هم على خلافٍ معنا، وأن نفتح صدرنا للجميع، وأن يكون لدينا ضميرٌ رحبٌ يكفل لكلِّ مَن دخل إليه أن يجد له مكانًا مناسبًا فيه.. علينا أن نفعل كلّ ما يلزم لتحفيز هذا الشعور لدى الناس؛ فلا يمكن إقامة عالم يسوده السلام في وقتٍ تمارِسُ فيه البشرية فظائعَ مختلفةً بواسطة أسلحةٍ مرعِبةٍ؛ فإن تعذّر ترسيخُ قيمٍ مثل الحبّ والتسامح والأخوّة والسلام، فيمكن لهذه الكرة الأرضية الجميلة التي تحيا عليها البشرية أن تتدمّر من تلقاء نفسها، وتُعجّل قيامتها بيديها.

إننا لا ندري هل سيمكننا الله سبحانه وتعالى من تحقيق كل هذا أم لا، والواقع أن البحث في هذا الأمر ليس من شأننا، إننا مكلّفون ومأمورون بأن نوفّي موقعنا حقّه، وأن نكون أمناء حقًّا على الأمانة التي تحمّلْناها ما حيينا، فنوصل هذه الأمانة إلى حيث نستطيع، ثم نسلّمها إلى الأجيال القادمة من وراءنا، وبما أن كلَّ شخصٍ يقدّم أشياء طيبة في حدود رحابة أفق نفسه؛ فإننا نفعل الشيء نفسه؛ فنحاول أن نزيل العقبات التي تعترض طريق البشرية كي تعيش في أمن وسلام، ونقلّلَ المشاكل والمصائب، ونتوكّل على الله ربّنا بعد أن نفعل كلّ ما في وسعنا، ونلجأ إلى عنايته، ونظلّ نرقب الإجراءات السبحانية للمولى المتعالي وحالُنا يقول: “لنرَ مولاي ما يفعل … ما يفعله هو الأجمل!”.