التواضع والتكبُّر

التواضع والتكبُّر
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

تتوالى التغيّرات والتحولات في حياة الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، منها ما يتجه نحو التقدّم والتطوّر والنموّ، ومنها ما يتّجه نحو الاضمحلال والتدهور والانقراض؛ وبعضها تذروه العواصف، وتجرفه السيول كجذوع الشجر، ويتعفّن ويتلاشى مثل الورق الذي يسقط على الأرض؛ وبعضها ينبت مثل البذور التي تُلقى في التربة، فينمو ويمتدّ بأغصانه إلى عنان السماء، وفي النهاية يؤتي أكله كل حينٍ بإذن ربه، وثمة تغييرٌ يحدث عند بعض الناس فهو يتجه نحو الخير والجمال، وتغييرٌ آخر يتّجه نحو الشر والفساد، وإذا ألقيتم نظرة حولكم فستجدون أمثلةً لا تحصى من كلا النوعين.

ورغم جميع هذه التغيرات والتحولات الإيجابية والسلبية التي يتعرّض لها البشر، فإنهم يتوجهون في النهاية نحو الذات الأجلّ الأعلى المنزّه عن التبدّل والتغيّر والأشكال والألوان، إلا أن المهم في هذا التوجه هو أن يتوجه الإنسان دائمًا ويتغير نحو الخير والجمال، وأن يحرص على أن يكون كلّ توجّه وتغير في سبيل القرب من الله سبحانه وتعالى.

فالذين نذروا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن، وجعلوا مهمّتَهم في الحياة إعادةَ الإنسان إلى أفق الإنسانية من جديد من خلال تزويده بالقيم التي يحتاجها؛ يواصلون السعي والركض دون توقّف لتحقيق هذه الغايات المثلى، وفي مقابل هذا لا يتشوّفون لشيءٍ سوى الفوز برضا الله سبحانه وتعالى، وحتى لو اجتازوا الصعاب وخرقوا الجبال في سبيل تحقيق غايتهم المثلى لا يبتغون عوضًا ولا يقصدون حمدًا ولا شكرًا، ديدنُهم الاستغناء والتواضع ونكران الذات، وكل جهودهم ومساعيهم هدفها إطلاع الأرواح على أسرار أحسن تقويم، إنهم وهم يرحلون عن الدنيا يعدّون أنفسهم لتقديم حساب عن كل ما خلّفوه وراءهم، وتلك هي أهم سمةٍ في مسألة تكريس الإنسان نفسه لحمل غاية سامية، وهذا هو درب الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين الصادقين.

وكما جاء في الحديث الشريف: مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي ‏‏عِلِّيِّينَ،‏ ‏وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ[1]، والشخص المصاب بمرض الكِبر يصير مهووسًا بالتصفيق والتقدير، إذا دخلَ على قومٍ رغب أن يقوموا له إجلالًا، وأن يعقدوا أيديهم أمامه خضوعًا وتذللًا، وإذا تحدّث تمنّى أن ينهمر عليه التصفيق من كل مكان.. إن هؤلاء في الواقع صِغارٌ في أنفسهم، لذلك يحاولون أن يبدو عظماء، وهذا دليل على ما مُنوا به من عقدةٍ دونيّةٍ.

إن الكبر هو قذارة نابعةٌ من القلوب القذرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: لا يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ[2]، وهذا يعني أن تعظيم الذات ليس فقط عائقًا أمام الإيمان، بل هو أيضًا شيءٌ مروِّعٌ يمكن أن يدفع الإنسان الذي دخل في دائرة الإيمان إلى خارج هذه الدائرة.. فالتكبر واحتقار الناس والاستخفاف بهم ذنبٌ عظيم يُبعد الإنسان عن بيئة الإسلام النقية، فالكبرياء ليس لأحد سوى الله تعالى، والمؤذنون يصدحون بذلك من فوق المآذن كل يوم خمس مرات بقولهم: “الله أكبر، الله أكبر”، فواجب الإنسان أن يكون صِفرًا لا منتهى له أمام الكبير الذي لا حدّ له.

إن قارون كان من قوم موسى عليه السلام، لكنه اعتمد على عقله وفراسته وكياسته وثروته، فخُسِف به وبداره الأرض، والسامري كان يختال بعلمه وعرفانه فحُكم عليه أن يعيش وحيدًا في الصحراء، وفرعون أعْمته قوّتُه وسلطته فغرق في البحر ومن تبعه من الجنود، فدمّر عالمه، ودمر عالمَ الذين اتبعوه بسفاهة، فإن لم يلزم الإنسانُ حدّه، ولم يُطع خالقه، ولم يعرف المصدر الحقيقي للنعم؛ صارت القوة والثروة والعلم وغيرها من النعم بمثابة السمّ الزعاف بالنسبة له.

أجل، القوة والنفوذ، والمال والثروة، والمقام والمنصب، والنجاح والفلاح، وغير ذلك من الأمور تشبه المخدرات من ناحية ما، فإذا فُتن الإنسان بسحرها ووقع تحت تأثيرها بدأ يتخدّر ويتسمّم دون وعيٍ، ثم يأتي يومٌ ويُصاب بالشلل التام وعندها يكون قد فات الأوان.

ومن ثَمّ يجب على الإنسان أن يزيد من تواضعه ونكران ذاته كلما زادت قوته وقدرته، ومقامه ومنصبه، وعلمه وحكمته، وماله وثروته، وما شابهها؛ حتى يتخلّص من سمّها القاتل، ويحافظ على نفسه، لا بد أن تكون ثقة الإنسان كاملةً في قوة الله المطلقة، لا في قوة نفسه وإمكاناتها المحدودة، فلا يكون مهووسًا بالنجوم التي على كتفيه، ولا بالدرجات التي منحها له الناس، فإن ما أهلك الفراعنة والمستبدّين عبر التاريخ هو الغرور والتكبّر، فقد تكبّروا وتفرعنوا في البداية، ثم رزحوا تحت وطأة كبرهم الموهوم، وانسحقوا، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل جرّوا الجماهير التي تبعتهم بسذاجة إلى الهلاك والدمار.

فكما هو معروف فإن العجز والفقر والشوق والشكر؛ يشكّلون أهم مبادئ رسائل النور.. فالإنسان مهما كانت الإمكانات التي في يده، ومهما كبرت المناصب التي يشغلها؛ فلا ينبغي أن تفارقه فكرة: “الكل حسنٌ والقبيح هو أنا والكل قمح والتبن هو أنا”، فيجب أن يعتبر الإنسان نفسَه عبدًا عاديًّا لله على الدوام، ويتجنب فكرة أنه أفضل من الآخرين وأعلاهم شأنًا حتى لو طار في السماء مثل الطيور، ويُقنع نفسه أنه إنسان عادي بين الناس، ويعتبر ما لديه من عشق وشوق أعظمَ منحةٍ إلهية وهبها الله له جزاء جهده وسعيه، ويتوِّج هذا بالشكر، ولا يتطلع إلى غير ذلك من التكريمات.

فإذا أراد الإنسان أن يُغلق الأبواب على مصاريعها أمام شتى أنواع الكبر والغرور؛ فعليه أن يعتبر حتى الإشادة به نوعًا من الشرك، وأن يشعر بالتقزّز والنفور إذا نسبوا إليه النعمَ والألطافَ الواردةَ من الله تعالى، وأن ينظر إلى ثناء الناس عليه على أنه نوعٌ من الإهانة الموجّهة إليه، هذا هو السبيل إلى غلق الأبواب على مصاريعها أمام الأمراض القلبية مثل التكبّر والغرور والعُجب والرياء، فإن لم يستطع العبد أن يغلق الأبواب دونها فلن تُفتح له أبواب الجنة، إنه وإن ظن أنه يسلك طريق الجنة بأن التزم المسجد وحافظ على العبادات، لكنه لم يتخلص من الكِبر وكان يلهج دائمًا بأنانيته ظاهرًا وباطنًا؛ فلا بد أن تنغلق أمامه الطرق التي تؤدّي إلى الحقّ والحقيقة، وهذا يشير إلى سوء العاقبة والعياذ بالله، حفظنا الله بواسع رحمته من هذه العواقب الوخيمة!

 

[1] مسند الإمام أحمد، 18/250.

[2] صحيح مسلم، الإيمان، 147.