المجتمع المثالي

المجتمع المثالي
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: “إذا لم تكن هناك غاية ومثلٌ عليا، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت، تحولت الأذهان إلى (أنا) -الأفراد- ودارت حولها”[1]، ليلفت بذلك الأنظار إلى أهمية أن يعيش الإنسان بغاية مثالية سامية، فإن لم يكن له هدف سامٍ، أو نَسي هذا الهدف، أو تناساه، تحول ذهنه إلى جرم يدور في فلك الأنا، فمن لم يحدّد لنفسه هدفًا ساميًا في مخيّلته، ولم يسْعَ إلى تحقيقه، يصبح بمرور الوقت إنسانًا أنانيًّا أو مركزًا للأنانية، فيربط كلّ شيءٍ بشخصه ومصالحه وحاضره ومستقبله.

ولا يمكن للإنسان أن يتجرّد عن نفسه وينسلخ من أنانيته، إلا بأن يكرّس حياته لإقامة مجتمعه وفق أحكام الدين، والحقيقة أن الإنسان كلما اقترب من شيء، ابتعد بالقدر نفسه عن ضده، فمن اقترب من نفسه، ابتعد عن المُثل العليا، مثل هذا الشخص لن ينذر نفسه ولن يكرّس حياته من أجل إحياء الآخرين، إذ من الصعب على من لم تكن لديه غاية مثالية عالية أن ينسلخ من الدنيا، وألا يركض خلفها، وألا يتلوث بلوثياتها.

والمجددون والمجتهدون هم رجالُ دعوى صادقون، لديهم غاية مثالية، ويرتبطون جيدًا بالوحي، وتغلب سماويتُهم دنياويتَهم، ويطالعون حتى الأوامر التكوينية ضمن نطاق سماويتهم.

ورجال الدعوى الصادقون هؤلاء الذين لديهم غاية مثالية، ويجعلون رضا الله تعالى والآخرةَ وإعلاءَ كلمته عزّ وجلّ غايتَهم ومقصدهم؛ ليس لديهم هموم أو أهداف تتعلّق بالدنيا، فقد استفادوا من الدنيا بقدر الحاجة والضرورة فحسب ليتمكّنوا من تمثيل الدين الإسلامي المبين بتوازن واعتدال، فكل متاع الدنيا من مأكلٍ ومشرَب وملبس ومال وملك، إنما هو في نظرهم بمثابة البنزين الذي يوضَع للسيارة، فكما أن السيارة تحتاج إلى البنزين من أجل الحركة، فإنهم أيضًا يحتاجون إلى مثل هذه الأشياء الدنيوية حتى يتمكنوا من السير من أجل تحقيق غايتهم المثالية، وإلا فليست أي من هذه الأشياء في نظرهم جديرة بأن يتعلق بها قلوبهم، أو أن يركضوا خلفها، أو تكون مقصدهم الأساسي.

فمن الصعب على رجل قلبه معلق بالدنيا أن يصير رجلَ دعوى بالمعنى الحقيقي للكلمة، فإن الإنسان الذي يزعم أنه يخدم الدين، وهو في الواقع يركض في إثر المتع الدنيوية والمصالح الشخصية، يزعزع شعور الثقة والأمان تجاهه، بل ويفتح السبيل أيضًا إلى الاستخفاف بالقيم الدينية التي يلهج بها لسانه دائمًا ويدافع عنها صباح مساء. والوظيفة المنوطة برجل الدعوى في هذا الصدد هو ألا يكون له أي تشوّف دنيوي، وأن يجعل القناعة والاستغناء دستورًا له، فالرجل الذي لديه غاية مثالية، يسعى ويجد ويجتهد ويبذل قصارى جهده من أجل إقامة صرح الروح، بينما الإنسان الذي يزعم أنه يخدم الدين وهو يفكر في الحصول على شيء من عرض الدنيا، فهو يتظاهر بخدمة الدين ليس إلا.

ففي الوقت الذي تتطور فيه الخدمات إن أصاب الجمودُ حياتنا القلبية والروحية؛ فسوف ننجرف إلى قنوات الزفت والقطران دون وعي منّا، ولا سيما الرخاء الذي يجلبه هذا التطوّر، فإنه سيصيبنا بالجمود والشلل.

إنه يدفعنا إلى التجارة، ويسوقنا إلى التشوّف لمقابل دنيوي، ويجعلنا نركض خلف حساباتنا الشخصية، فنطلق لأنفسنا العنان شيئًا فشيئًا، ونحصل على موقعنا بين أولئك الذين يأكلون ويشربون ويرقدون وينامون.

حتى ولو كان الجميع يفكرون في أنفسهم، ويطلبون الدنيا، ويركضون خلفها، فليس هذا مقياسًا بالنسبة لأصحاب الغاية المثالية، فلو كان العالم بأقواله وأفعاله وأحواله منحرفًا ملتويًا، فليس هذا ذريعة لهم تحول دون تحرّكهم بشكلٍ صحيحٍ نحو غاياتهم، وحتى ولو كان الناس جميعًا في ضلالهم يعمهون، عليهم أن يبحثوا عن طريق الهداية، فإنه لا تزر وازرةٌ وزر أخرى، وسيسأل الله عز وجل في الآخرة كلَّ امرئٍ عما كسب.

المجتمع المثالي والعثمانيون

كانت الدولة العثمانية العلية منذ نشأتها تتبنّى غايةً مثاليةً ساميةً، فقد كان عثمان غازي -مؤسس الدولة العثمانية- سدًّا منيعًا أمام الحكام الصليبيين، فرغم أن الدولة السلجوقية كانت تعاني العديد من التشقّقات والنزاعات فقد حال بينها وبين المخاطر التي يمكن أن تأتي من الغرب ودول البلقان.

ومن هذه الجهة فإن المهمة التي اضطلع بها عثمان غازي، لا تقل أهمية عن فتح القسطنطينية على يد السلطان الفاتح، بل ربما هو أفضل، لأنه حقق للدولة الوجود من العدم، وأرسى دعائم ثابتة وأسس نظامًا راسخًا في وقت سادت فيه الفتن والصراعات، فاستطاع أن يرسي دعائم دولة مباركة أنجبت سلاطين عظامًا أمثال “السلطان مراد” و”محمد الفاتح” و”سليم الأول” و”سليمان القانوني”، ورغم كل هذا فقد عاش دون تشوّفٍ لمقابل، ولم ينزل عن صهوة جواده، ولم يتخلف عن جنوده في الجهاد حتى آخر لحظة في حياته.. إنه إنسان استثنائي من هذه الزاوية، ومن ناحية الوظيفة التي أداها فهو لا يختلف عن سيدنا خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، وعقبة بن نافع رضي الله عنهم أجمعين، فإن كان لهم فضل أكبر منه فإنه بسبب بلوغهم أوج الكمالات الإنسانية لتشرفهم بصحبة مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم.

يمكن أن يرد على الأذهان سؤال من قبيل: هل يوجد في يومنا الحاضر جماعةٌ مثاليّةٌ كهذا أم لا؟ والسبيل لإدراك ذلك هو النظر في هل أننا على خُطى الصحابة أم لا؟ وهل نحن على خُطى السلف الصالح أم لا؟ وهل نؤدّي المهمّة التي أداها عثمان غازي والفاتح وسليم الأول أم لا؟ إذ إن الأمانة الثقيلة والمهمّة العالية يجب أن تُحمَلَ في أي وقتٍ من الأوقات بنفس القوة التي كانت تُحمل بها في الماضي، والوظيفة التي تؤدّى بقوّةٍ وطاقةٍ معيّنة في فترة ما، لا يمكن أداؤها بقوّة وطاقةٍ أقلّ في فترةٍ أخرى، ومن ثم فإنكم إن أردتم أن تكونوا جماعة مثالية، وأن تقفوا بين هذه النماذج المشرقة في نفس الصفّ، فعليكم أن تتمتّعوا بقوامٍ وشدٍّ معنويٍّ وقوّة إيمانيةٍ وغايةٍ مثاليّة مثلهم، وأن تكونوا زاهدين في الدنيا راغبين عنها غير مبالين بها مثلهم.

إن الإنسان الذي تسلّل حبّ الدنيا إلى قلبه، وتعلّق بحبالها يكون أسيرًا لها بوجهٍ ما، ومن كان أسيرًا للمال والمنصب والمسكن والملذات شقّ عليه أن يكرّس حياته في سبيل الغايات السامية، لأن من كانت عينه على ما في الخلف، لا يرى أمامه، فمن تشوّف لمقابل لا يمكن أن يكون رجل دعوى، ولا يمكن لمن عاش أسيرًا أن يحمل على عاتقيه الأمانة المقدسة التي ورثناها من سلفنا الصالح.

يمكننا القول: إن الأوائل الذين كانوا كالهالة حول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وكذلك الناذرين أنفسهم للخدمة الذين هاجروا إلى بقاع العالم دون التفكير في أهليهم ووطنهم، إنهم جماعة مثالية، فقد انفتحوا على مختلف دول العالم دون أن ينظروا خلفهم، وشاركوا بأنفسهم في إنشاء المؤسسات مثلهم مثل العمال، ومرت بهم شهور دون أن يتقاضوا مرتباتهم، ومع ذلك لم يقصروا في خدماتهم، ولم يهملوا عملهم، ولم يسيئوا الظن، وآثروا إحياء الآخرين على حياتهم.

أما مسألة: ما إذا تم الحفاظ على هذا القوام وهذا المستوى في الأعوام التالية أم لا؟! فلا يمكنني قول شيء في هذا الصدد، لا أدري هل استطعنا حقًّا أن ننشئ الجيل الذي يستطيع حمل هذه الأمانة المقدسة أم لا؟ والحقيقةُ فإن هذا الأمر يشغلني ويقلقني كثيرًا.

المحافظة على القوام والمستوى

لا أريد بكلماتي هذه أن أُحبط أحدًا، أو أن أطفئ جذوةَ العشق والشوق لدى أحد، ولكننا باعتبار حالتنا العامة والموقع الذي نقف فيه، ينبغي لنا إعادة النظر مرارًا وتكرارًا إلى أنفسنا، وأن نواجه أنفسنا ونحاسبها، فإن كنّا قد ربطنا أنفسنا بغايات مثالية، فعلينا أن نتحلّى بالقوام والمستوى المطلوب، وهذا أيضًا مرهون بالتحلّي بالإيمان القوي، وتزكية النفس وترويضها، ولهذا يحتاج الجميع إلى التربية والتعليم الجيد، وإلى التشجيع والتحفيز المستمرّ، وتقوية صلتنا مع الله تعالى في جميع شؤوننا، وتعميق فكرة أن نكون أمة محمَّديَّة.

وإنّ مما يصقل الإنسان ويقوّي ساعده هو أن يذوق المحن في سبيل الدعوى التي يتبناها، إذ إنه من الصعب على الإنسان الخام الذي لم يتعرّض للمحن والابتلاءات والمصائب والصعوبات أن يتجرّد من نفسه ويفكّر في الآخرين.

إن آفة العالم الإسلامي اليوم هو نقص رجل الدعوى ورجل الغاية المثالية، وقد أصبحنا اليوم نعاني من تبعات هذا النقص، فالعلم يمكن تحصيله من الكتب، وبالتعليم الجيد يمكن تنشئة أناس مثقفين وواعين، أما إذا أردنا تنشئة أناس مهيئين لبلوغ أوج الكمالات الإنسانية، فالسبيل إلى ذلك هو منحُهم غاية مثالية عالية إلى جانب العلم، وذلك بتنشئة مسلمين مؤمنين، ناذرين أنفسهم لخدمة الدين، قادرين على تمثيل الحقائق السامية التي تعلموها دون تقصير ولا نقصان، وحريصين على نشرها ورفعها إلى أعلى القمم.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، نوى الحقائق، ص 574.