الانهزام أمام نقاط الضعف

الانهزام أمام نقاط الضعف
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

تكمن في طبيعة الإنسان آلياتٌ مهمّة تتعلّق بالجانب الروحي لممثّل الإرادة والإحساس والشعور واللطيفة الربانية والسر والخفي والأخفى؛ كما توجد أيضًا آليّاتٌ سلبيّة تتعلّق بالنفس يمكن للشيطان أن ينفذ منها، يمكن أن تسمّى هذه أيضًا نقاط الضعف البشرية.. ولقد تناول بديع الزمان سعيد النورسي أبرز هذه الآليات السلبية ونقاط الضعف في رسالته “الهجمات الست”[1]، وحذرنا منها؛ وهي “حبُّ الجاه والشهرة” و”الخوفُ” و”الطمعُ” و”العنصريةُ” و”الأنانيةُ” و”حبّ الدعة والراحة”، ولا جرم أن نقاط الضعف لا تقتصر على هذه فقط، فمن الممكن ذكر العديد من النقاط المتعلّقة بهذا الشأن.

قد تختلف هذه الميول ونقاط الضعف التي تتعلّق بالنفس من شخصٍ لآخر، بمعنى أن ابتلاء كلّ شخصٍ يختلف عن الآخر، فمثلًا قد يُبتلى البعضُ بحبّ المنصب، وحتى يحافظ على هذا المنصب ويستفيد من قوته؛ يرتكب الكثير من الجرائم والآثام.

ومع هذا فهناك أناس لا يعانون من هذه المشكلة ولا يرومون إلى تقلّد المناصب والمقامات، وحتى وإن عُرضت عليهم بعض المناصب مثل الإدارة أو الإدارة العامّة أو عضوية البرلمان أو الوزارة ؛ يُعرضون عنها ولا يلتفتون إليها، لكن قد يكون لديهم ضعفٌ أمام المال والثروة، وفي سبيلهما يجثون ويخضعون، ويسلكون كلّ الطرق المشروعة وغير المشروعة، ويملؤون جيوبهم وخزائنهم دون تحرٍّ للحلال والحرام، وينتهكون حقوق الآخرين، ويتنازلون حتى عن أسمى قيمهم.

وهناك آخرون لا يتغلّب عليهم حبُّ المنصب ولا حبُّ المال، ولكنهم يستسلمون لأهوائهم ورغباتهم الجسمانية، ويخضعون للحيوانية الكامنة في ذواتهم، ولقد ذهب أناسٌ كثيرون حتى اليوم ضحيّةً لهذا الضعف، وما أكثر العائلات التي تشتّتَتْ والمجتمعات التي تعفّنت من الداخل بسبب هذا الضعف!

وقد يقع الكثيرون أيضًا في أيامنا في أَسر الشهوة، وبالتالي يصبحون عرضةً لاستغلال الآخرين من شياطين الإنس والجن الذين يستغلون هذا السلاح في تقييد حركة العديد من القامات السامقة وإرغامهم على فعل ما يريدون، فإذا ما اقترفت هذه القامات ذنبًا ناشئًا عن هذا الضعف سارعوا مضطرين إلى أن يأخذوا على أنفسهم العهود والمواثيق حتى لا يفتضح أمرهم؛ ولهذا لا يقدرون على التصدي للظلم والقهر، بل لا ينبسون ببنت شفةٍ، وعند ذلك يُفسح المجال أمام الذين قيدوا ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم مستفيدين من هذا الضعف؛ لتقديم مسرحياتهم اللعينة ومؤامراتهم الخبيثة براحةٍ واطمئنان.

وهناك أناس لا يغلبهم أيٌّ من نقاط الضعف المذكورة آنفًا، فلا يركنون إلى متاع الدنيا، ولا يركضون وراء المنصب، ولا يتعلقون بالحياة البوهيمية، ولكن أكبر ضعفهم هو الخوف، وبسببه لا يُظهِرون أدنى مقاومةٍ أمام أيّ تهديدٍ أو خطرٍ بسيطٍ، بل يخضعون على الفور، ويفعلون كلَّ ما يُفرَض عليهم خوفًا من أن يقعوا ضحيةً لفاعلٍ مجهول، أو تضيع ما في أيديهم من الفرص المتاحة لهم، ورغم أن أصحاب النوايا السيئة قد عجزوا عن تقييدهم بالمال فإنهم بسبب ما يستشعرونه من خوف لديهم يجعلونهم عديمي التأثير والفاعلية، بل ويسلسلون أيديهم وأرجلهم، ويستخدمونهم كالخدم والعبيد.

ومن نقاط الضعف البشري المهمة أيضًا الجشع والطمع والشره، وكم أفلس أناسٌ بسبب هذا الضعف الناشئ عن توهّم الخلود، وطول الأمل! وهو ما أشار إليه مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بقوله: “لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِن مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّراب”[2].

ومن نقاط الضعف الأخرى التي تُعتبر اختبارًا للإنسان حبُّ الشهرة، ولقد انزلقت أقدامُ كثيرٍ من الناس بسبب رغبتهم في أن يُشار إليهم بالبنان، وأن يكونوا محلَّ تقديرٍ واهتمام من الآخرين، وحرصهم على أن يتركوا ذكرًا جميلًا وراءهم، وقد يقوَى هذا الشعور لدى البعض ويشتد، فيرغبون في أن تدوم شهرتهم حتى بعد وفاتهم وليس في حياتهم فقط، فيرغبون مثلًا في أن تشارك الجموعُ الحاشدة في تشييع جنازتهم، وأن يُدفنوا داخل مقابر مقببة ومنمقة ومزخرفة، بل ويعتنون عناية خاصة بما يُكتب على شواهد قبورهم بعد وفاتهم، ولا أدري بمَ ينتفع الميت من هذا الأمر، فمنكرٌ ونكير لا يلتفتان لهذه الأمور! أجل، إن حبَّ الشهرة قد أذلّ كثيرًا من الناس حتى اليوم، وجعلهم يرتكبون الكثير والكثير من الآثام.

والذين راحوا ضحية هذه النوعية من نقاط الضعف لم ينصفوا إنسانيتهم، بل انهزموا أمام حيوانيتهم، وأصاب الشللُ والقصور خصائصَهم البشرية، فهذه النوعية من نقاط الضعف تنخر في جسد الإنسان مثل السوس في الشجر، وتمنعه من أن يعبر عن نفسه بقوة وشجاعة، أو أن يصدح بالحق والحقيقة، ولهذا يتحوّل إلى شيطان أخرس أمام الظلم والجور، ولقد كُتب على الكثير من البائسين أن يعيشوا مثل المفلوج الذي عجزت يداه عن الحركة في هذه الدنيا البائسة التي انطفأ نورها وأظلم نهارها وتجمد ربيعها، وهذا هو سبب تحوّل الدنيا إلى عالمٍ من الظلم والقهر والاضطهاد، ويرجع ذلك إلى نقاط ضعفنا وثغراتنا وأخطائنا وعيوبنا.

والواقع أن خَلق الإنسان بفطرة مهيأةٍ لمثل هذه المشاعر ليس شرًّا مطلقًا، فثمّة مواضعُ يجب أن تُصْرَف فيها هذه المشاعر، وَجِهاتٌ لا بد أن تُصَرَّف عنها، ولذا أُدرِجت في ماهية الإنسان، لكنها تحوّلت إلى نقاطِ ضعفٍ بسبب صرفها في الاتجاه الخاطئ.. فلو أن العبد تمسّك بأركان الدين الأساسية التي هي منبع الهداية، ودخل في كنف ربه بالتقوى، وتمتّع بالدقة والحساسية في اجتناب المحرمات وأداء الفروض؛ فسيستقرّ كلُّ شيءٍ في مكانه الصحيح، ويتفادى العبدُ نقاط الضعف هذه وما يلحقها من أضرار، ويصبح إيمانه وتقواه بمنزلة الدرع الذي يقيه الذنوب والآثام، بل وينال ثواب العبادة بمجاهدته نقاط ضعفه هذه.

أجل، علينا أن نتوخّى الحيطة والحذر دائمًا ونحن نتعامل مع صنوف الابتلاء التي ذكرناها آنفًا أو التي لم يسعنا المجال لذكرها. ومن ثَمَّ يجب أن نفحص -باستمرارٍ- الأسوار التي تقينا حيل الشيطان ودسائسه وهمزاته ووساوسه، ونرمّمها على الدوام؛ حتى نسدّ الشقوق والثغرات، ولا نسمح للشيطان بالدخول من أي منفذٍ كان، علينا ألا نسمح بتغلغل شياطين الإنس والجن بيننا، وتسلُّلهم إلى عالمنا القلبي والروحي، وتحريكهم لأنفسنا الأمارة بالسوء، يجب أن نعطي الإرادة حقّها عند التصدّي لرغباتنا وأهوائنا، وأن نقاوم الذنوب والآثام بشجاعةٍ وقوّة، لا ينبغي أن نكون عبيدًا للإمكانات المادّية، والمقامات والمناصب، والصيت والشهرة، والجسمانية والشهوة… يجب ألا نتعلق بنعيم الدنيا الزائل، بل نرنو بأبصارنا إلى النعيم الأبدي، ولْنعلمْ أن الملذّات والأذواق المشروعة تكفي لمتعتنا وإشباع رغبتنا، فلا داعي ولا موجب لمباشرة الحرام.

وهذا من شأنه أن يقي الإنسانَ من الوقوع في دركات الحيوانية، ويجعله يحلّق في سماء الكمالات الإنسانية، وهذه هي أركان الطريق المؤدي إلى أفق الإنسان الكامل.

 

[1] هو القسم السادس من المكتوب التاسع والعشرين من كتاب “المكتوبات” للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي.

[2] صحيح مسلم، الزكاة، 117.