أعتقد أن المسلمين لم يكونوا قط بهذا القدر من انعدام الأفق، والافتقار إلى الغاية، والتشرذم، والأنانية.. لقد صاروا جماعات مشردةً لا تحيطهم عناية، ولا تشملهم رعاية، كل منهم ينزع إلى تيار وأيديولوجية مختلفة، وكما يقول شاعر الإسلام محمد عاكف:
إن لم يجد الوطنُ معينًا ونصيرًا فحقيقٌ به أن يموت غريقًا
فذُدْ عنه واحمِه كي لا يجد الغرقُ له طريقًا
لكننا مع الأسف لم نشمله برعايتنا ولم نحطه بعنايتنا حتى الآن؛ لأن القائمين عليه لم يحملوا هذا الهم، ولم تشغلهم هذه الفكرة، ولا يزالون على ذلك! بل وحتى تراهم ينظرون إلى كل جهود الآخرين ومساعيهم في هذا المضمار وكأنها نوعٌ من الاستعراض والمخاطرة التي لا جدوى منها، ويربطون كل المبادرات القائمة على مساعي الأمة بمسوغات يرفضها حتى منطقهم، ولا يكتفون بذلك بل يلفّقون ضدها التّهم والافتراءات التي لا أساس لها من الصحة، وإن الإنسان عندما يُفكر في هذه الصورة الحالية لا يستطيع أن يُمسك نفسه من الوقوع في الحزن والانكسار، وتسيطر عليه حالةٌ من الانفعال والاضطراب، ويختلُّ تناغمُ قلبه عندما يضع في اعتباره كل هذا الدمار الهائل.
إن الآخرين لم يدَعوا شيئًا لم يفعلوه في سبيل تنظيم العالم وتغييره، فمن جانب درسوا الطبيعة ودقّقوا النظر فيها، وأظهروا تطوّرات مذهلةً في شتى ساحات العلوم والفنون، ومن جانب آخر جعلوا الجميع -من إفريقيا وحتى الشرق الأقصى- عبيدًا لهم، فمسخوا من يمكنهم مسخه، وقهروا من يقدرون على قهره، واستعمروا من استطاعوا أن يستعمروه، واستعبدوا من قدروا أن يستعبدوه.. أما نحن فقد تجاهلْنا كلَّ هذه الفجائع والفظائع، والواقع أنه من الصعب حتى أن نصِفَ ردَّ فعلِنا هذا بالانفعال الصامت، فلقد استغرقنا في عدم الاكتراث، واللامبالاة، وظللْنا ساكنين بلا حراك طالما لم تقترب النار من بيوتنا، وكأن تلك العبارة الأنانية التي تقول: “ما لنا والحريق؛ ما دام بعيدًا عنا”؛ أصبحت منهجَ حياتنا.
إن مثل هذه الأفكار التي يطلقها أناسٌ ذووا أفقٍ ضيق؛ لا أصل لها ولا نسب؛ وذلك أنها لا تنتمي إلى جذورنا الروحية والمعنوية، ولا تتغذى عليها، ولا تمتّ إليها بصلة؛ والأساس أن المؤمن يحترق بالنار أينما اندلعت، ولا يُتصوَّر منه أن يقف صامتًا بلا حراك أمام تلك النار لا سيما إذا كانت تحرق أطلس عقيدته وعالم قيمه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف: “مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ“[1].
قحط الرجال
كان القدماء يعبرون عن ندرة الرجال العظماء بـ”قحط الرجال”، وهذا هو الواقع بالفعل في أيامنا؛ فلا وجود الآن لأصحاب الأفق الرحيب، وقلّ كذلك أن تجد أصحاب الأرواح العالية الذين نذروا أنفسهم لغاية سامية؛ حيث لا توجد بيئة ثقافية مواتية لتنشئة مثل هؤلاء الأشخاص.. وإن ما دفع بـ”نظام الملك” لإنشاء المدارس النظامية في عهد السلاجقة هو الرغبة في تنشئة أناس متمرّسين مؤهّلين، والحقّ أنه قد نشأ في هذه المدارس الكثير من المتميّزين، ولقد كان ذلك العهد مباركًا للغاية، وفي العصور التالية راح الناس يُقبلون على دراسة الأوامر التكوينية والتشريعية، لكن توقّف الأمر بعد مدة ما نظرًا لبعض العوامل الخارجية مثل هجمات المغول والحملات الصليبية، إلى جانب حالة الفوضى والاضطراب التي استولت على ديار المسلمين، ولم يتمكنوا من استعادة القوة مجدّدًا، واليوم أيضًا أصبح من الصعب أن نتكلّم عن وجود بيئة فكرية علمية مواتية لتنشئة أناس مؤهلين على معرفةٍ بعصرهم ودنياهم.
ولا داعي لإساءة الفهم هنا؛ فإننا لا نستهين بالأعمال والدراسات التي تُجرى الآن في ساحات العلوم المختلفة، ولكن قيام رجال العلم بأبحاث تتعلّق بمجالهم وتحريرهم مؤلفات تتماشى مع ساحاتهم شيءٌ، وقراءة الكون قراءة صحيحة، وتأسيس علاقة بين الإنسان والكون والرب سبحانه وتعالى، والقيام بما يلزم وفقًا لمتطلبات العصر شيءٌ آخر.. فمثل هذه الأمور تتطلب تجهيزًا مميّزًا وأفقًا مختلفًا، وليس من اليسير تنشئة وتربية مثل هؤلاء الناس، فعدد هؤلاء وإن كان قد بلغ الآلاف في العصور الأولى للإسلام فقد قلّ تدريجيًّا في العصور اللاحقة.
فما يقع على عاتقنا الآن هو إيقاظ شعلة الحماس وحبّ الاستطلاع لدى الناس، وغرس الأفكار والمثل العليا في نفوسهم، ومكافأتهم على نجاحاتهم، وتهيئة البيئة المواتية لتنشئة أناس ذوي أفق رحب وجاهزية فائقة. أجل، ينبغي لنا تنشئة أناس يزاولون أعمالهم العلمية والفكرية في نشوة تشبه نشوة العبادة، موقنين أن هذا سيصل بهم إلى رضا الله تعالى، وإلى صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى إحراز النعيم الأخروي، ومن ثمّ يعتزمون على تحويل الدنيا إلى جنة للوصول إلى هذا الهدف.
إعادة دراسة الكون بمنظور جديد
من جانب آخر إذا تمّ تناول المسألة بجانبها المادي والدنيوي فقط، ولم يرتبط عشق البحث والعلم بغاية سامية؛ فستتعثر هذه الدراسات وتتوقّف عند نقطة معينة، ولو أن الإنسان قصر نظره على الأوامر التكوينية فقط ودرس قوانين الطبيعة بشكل جيد؛ فلن يستطيع أن يتجاوز حدود مذهبَي الوضعية والطبيعية، ولو حدث ذلك فستظل مساعيه ناقصة في البحث عن الحقيقة، الأصل والأهم هو الوصول بعشق العلم إلى أعلى المقامات، ودراسة الأوامر التشريعية والتكوينية على حد سواء؛ لأن الوصول إلى الله مرتبط بهذا، فلو أوقفتم أطلس فكركم على هذا البعد فستحظون بألطاف الله وإحساناته المتنوعة في الآخرة.
وكما ذكرنا في مناسبات عديدة فإن الغربيين قد قطعوا مسافات كبيرة في العلم والتكنولوجيا من خلال سبر أعماق الأشياء والحوادث، وليس بالإمكان تجاهل مثل هذه الأعمال والدراسات التي قاموا بها، ولكن لأنهم يجهلون معرفة الله بذاته وصفاته وأسمائه تعلقوا بالأسباب وتوقفوا عندها، ولم يستطيعوا تجاوز حدود المذهب الطبيعي، بل أخذ البعضَ منهم العزةُ بالإثم فراحوا -والعياذ بالله- يؤلّهون الأسباب التي خلقها الله تعالى لحكم كثيرة. أجل، قد تبدو هذه الأسباب هي الفاعل، ولكن ليست هكذا في الحقيقة، لأن الفاعل الحقيقي الذي خلق وأوجد وأبقى على وجود ما أوجد؛ هو الذات الأجل الأعلى صاحب القدرة المطلقة، والإرادة النافذة، والمشيئة التي لا منتهى لها.
لن يستطيع العلم أن يتخلص من مخالب الوضعية والطبيعية والمادية ما لم يشارك المؤمنون في الدراسات العلمية، وسيضطر المسلمون أيضًا إلى تقبّل المنطق العلمي المفروض عليهم باسم العلم، فضلًا عن ذلك سيلقِّنون هذا المنطق لطلابهم المسؤولين عن تعليمهم وتربيتهم في دور العلم، وستعمل كذلك مختبراتهم ومراكزهم البحثية وفقًا لهذا المنطق، ومن ثم لن يستطيعوا التخلّص من التقليد، ولا الحفاظ على ذاتيتهم.
فللأسف بدأ التدهور يدبّ في أوصال الحياة الفكرية والعلمية منذ القرن الخامس الهجري، وبعد مدة معينة أصبح المسلمون وكأنهم يمشون نيامًا، ولكن مع ذلك يمكن القول بوجود نوع من الصحوة في زماننا الحاضر؛ حيث ظهر بعض العلماء من أمثال بديع الزمان سعيد النورسي؛ ففتحوا آفاقًا فكرية جديدة، وابتكروا مناهج مختلفة لقراءة الكون.. انطلاقًا من هذا باتت الحاجة ملحّة للكشف من جديد عن ماهية الأسباب، والتعريف بمسبب الأسباب سبحانه وتعالى على الوجه اللائق، والتعريف بالوظيفة الأساسية للإنسان بشكل صحيح، وتأسيس العلاقة بين الإنسان والكون والرب سبحانه وتعالى على نحو سديد.
بالتشجيع تنمو المهارات
وهذا يتوقّف على تهيئة بيئة علمية مناسبة، وتوجيه الناس إلى العلم، ومكافأتهم على نجاحاتهم، وفي الحقيقة فإن أعظم مكافأة هو أن يكون العلم وسيلة إلى المعرفة، والمعرفة وسيلة إلى المحبة، والمحبة وسيلة إلى رضا الله عز وجل، ولذلك يجب توجيه الناس بدايةً إلى هذه الأهداف السامية، وإلى جانب ذلك لا ينبغي إغفال الجانب المادي؛ فبحسب التعبير المتداول: المهارة تنمو بالمدح والثناء والمكافأة.
وكثيرًا ما كنتُ أعترضُ على هذا الكلام؛ لأن الأساس أن يكون المدح والثناء تابعًا للمهارة؛ أي لا ينبغي أن تتوقّف الأعمال على أي مقابلٍ سوى رضا الله عز وجل، ولكنني بعد ذاك اقتنعتُ بأنَّ الناسَ ليسوا جميعًا على هذه الدرجة من الفضيلة، ولا يسدّد جميعُهم النظر إلى مثل هذا الهدف، ولا يكون رضا الله عز وجل هو الأساس الأول عندهم؛ ولهذا لا بدّ من تشجيعهم على الدراسة والبحث والإنتاج بالمكافأة والدعم والتقدير، فلا يغِبْ عن بالنا أن الأكثرية في حاجة إلى مثل هذا الدعم والتأييد، ولو جاز التعبير يجب توصيل أصحاب المواهب والقدرات بدينامو لشحنهم وشحذِ طاقاتهم؛ ابتغاء تحريكهم وإثارة حماسهم.
للدعم المادي والمعنوي أهمية بالغة في قراءة الأوامر التكوينية قراءة صحيحة، وفي الوصول إلى الأفكار الصحيحة والإستراتيجيات السليمة، والارتقاء بالعلم المتوارث من السلف إلى مكانةٍ أعلى وأسمى، وفتح آفاق جديدة للعلم والدراسة، وتهيئة بيئة مواتية لأن يفكر الذين يأتون بعدنا بشكل أعمق وأكبر.. فإن الأفكار المرهونة بالأيديولوجيات والعلمانية والأنانية لا تجدي نفعًا، المهمّ هو توجيه الناس إلى الأهداف السامية من جانب، وتزويدهم بجميع أنواع الدعم من جانب آخر، فلو أنكم أعددتم البيئات المناسبة لهذا الغرض وقمتم بالمسؤوليات الملقاة على عاتقكم؛ فسينشأ على أيديكم أناس على أعلى المستويات من الأهلية والجاهزية والقدرات، فإن لم تفعلوا صار من المتعذّر عليكم تنشئة رجالِ علمٍ عاشقين للحقيقة، وظللْتم دائمًا عند النقطة التي تقفون فيها لا تبرحونها ولا تتقدمون إلى الأمام.
***
[1] الطبراني: المعجم الأوسط، 1/151؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/365.