الوفاء هو وردةُ ربوعِنا وزهرتُها، والوفاء مع الناس يعني ألا ننسى معروفهم أبدًا، فكما لا يجوز أن ينسى المرءُ ذنوبَه فكذلك لا يليق به أن ينسى المعروفَ الذي أُسدِي إليه، أما ما صنعه هو من معروفٍ فلا ينشغل به وينساه على الفور.
الوفاء مع الله عز وجل
وهناك أيضًا الوفاء مع الله، وعلينا جميعًا أن نكون مفعمين بالوفاء لربنا سبحانه وتعالى من رأسنا حتى أخمص أقدامنا، فهو الذي خصّنا بالعديد من النعم؛ أخرجَنا إلى عالم الوجود، وبثّ فينا الحياة، ورفعَنا إلى أفق البشرية، وشرّفنا بالإيمان، وعرّفنا بالخدمة الإيمانية والقرآنية، وألهمَنَا الشعورَ والتفكيرَ في المعاني المستوحاة من هذه البيئة، والانشغالَ بها في حلّنا وترحالنا، فيجب علينا إزاء كل هذه الألطاف التي أحسن الله بها إلينا أن نتذكرها على الدوام، وأن ننحني بالذل والخضوع له سبحانه وتعالى انطلاقًا من شعور الوفاء لصاحبها.
الوفاء مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبالمثل يجب أن ينتاب المؤمنَ شعورٌ غامر بالوفاء والتقدير لمفخرة الإنسانية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يغيب صلى الله عليه وسلم عن بالنا مطلقًا؛ فبفضله سمعنا ما كنا في حاجة إلى سماعه، ولولاه لما تشكّل لدينا تصورٌ صحيح عن الله تعالى، ولا علمنا شيئًا عن الحشر والنبوة، ولولاه لما نظرنا بأمل إلى المستقبل، ولا اعتبرنا الآخرة خريطةً ترشدنا إلى سواء السبيل، ولا علمنا ماهية الطريق الذي سنسير فيه، صحيحٌ أن الله هو الذي علَّمَنا كلَّ هذا، ولكن جعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سببًا ووسيلة وواسطة، وهدانا على يديه.
إنّ الله تعالى وضع في ثنايا العبادات بعضَ الأدعية المرشدة إلى السبيل الذي يمكّننا من التعبير عن مشاعر الوفاء لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلًا بعد ترديد الأذان نرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سائلين المولى عز وجل أن يُؤْتيه الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده، وكذلك في التشهد نصلي ونسلم على سيدنا محمد وفي كل موضع نذكر فيه اسمه صلى الله عليه وسلم، وبذلك نكون قد قمنا باستثمار مهمّ في الدنيا من أجل نيل شفاعته صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وفي الوقت ذاته نكون قد عبّرنا عن وفائنا له صلى الله عليه وسلم.
الوفاء مع الدِّين
وثمة جانب آخر من وفائنا له صلى الله عليه وسلم وهو رفع راية الدين الذي أتانا به واستودعنا إياه، فإن لم يكن لهذا الدين ثقلٌ في التوازن بين الأديان على وجه البسيطة؛ فهذا يعني أننا لسنا أوفياء له صلى الله عليه وسلم رغم أننا من أمته، ولو لم يتَلوَّ المؤمنون كمدًا وأسًى وانكسارًا عندما يرون الراية التي يمثّلها مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم قد صارت ترفرف تحت الرايات الأخرى؛ فهذا يعني أنهم لم يتعاملوا بشعور الوفاء معه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لو أن المسلم أمضى عمره دون أن يفعل شيئًا من أجل الدين، ولم يبذل جهده ومساعيه في سبيل توسيع دائرة الإرشاد؛ فهذا يعني أنه لا يحمل مشاعر الوفاء لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لحقيقة الإسلام التي بلغها صلى الله عليه وسلم لنا، أفلا يقتضي الوفاء من المؤمنين الذين يسيرون على نهج نبيهم أن يعرّفوا الآخرين به قدرَ ما يستطيعون، وهو الذي ترك الجنان كي يأخذ بِيَدِ أمّته ويدلّها على طريق الفلاح؟!
الوفاء مع الناس
وفي الوقت ذاته فإن كل هذا سيساعد في تكوّن وتوطّن خُلُق الوفاء عندنا؛ لأن من يحمل شعور الوفاء لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم لا يغدر أبدًا بمن حوله، ومن لم تنمُ مشاعر الوفاء عنده تجاه الناس لا يُنتظر منه أن يحمل الوفاء لله عز وجل ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لمْ يشْكُر النَّاسَ لَمْ يشْكُر الله“[1].
أجل، المهم هو أن نجعل الوفاء جزءًا من طبيعتنا، فالإنسان المبرمج على الوفاء يرى أن فنجانَ القهوة له خاطِرٌ يُشكَرُ عليه الشخص أربعين سنة، فلا ينسى الإحسان أبدًا، وكلما رأى صانعي المعروف -حتى ولو كان معروفُهم فنجانًا من القهوة- أظهر امتنانه وشكره لهم، ولا يقصر في مقابلة إحسانهم بالإحسان؛ لأن السلوكيات التي تغدو جزءًا من طبيعة الإنسان تأخذ طابع الديمومة، فلا يجد المرء صعوبة في الإتيان بها؛ إذ إنه لا يصطدم مع طبيعته، ولا يحيد عنها.
أجل، إن الشيء الذي يُضفي جمالًا خاصًّا إلى الخصال والسلوكيات الحميدة ويعمّق من أبعادها هو المداومة؛ بمعنى جعلها جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ“[2]، وإلا فإن الإنسان قد يقوم بأعمال جميلة وحميدة للغاية فترةً من الزمن، ولكن سرعان ما ينصرف عنها حيث إنْ لم يجعلها جزءًا من طبيعته.
واكتسابُ العادات والخصال والسلوكيات الحميدة والمداومة عليها يتوقّف على التربية والتعليم؛ أي يلزم -منذ البداية- بذلُ الجهود والمساعي واستيفاء الإرادة حقّها حتى تغدو هذه الخصال الحميدة جزءًا من طبيعة الإنسان، فإذا كان الوالدان يريدان أن يتحلى أبناؤهما بالقيم الأخلاقية الرفيعة مثل الوفاء والصدق؛ فعليهما متابعتهم عن قرب، وتوجيههم على الدوام، وإظهار القدوة الحسنة لهم بأفعالهم وتصرفاتهم؛ وعندها ستترسخ كلُّ هذه القيم في فطرتهم، فإذا كانا يتعاملان بوفاء فيما بينهما ومع أبنائهما، ولا يفرطان في أدنى إحسان أُسدِي إليهما، وَجَدّا بالفعل في مسألة إكساب الأخلاق لأبنائهما؛ فسينجحان في تنشئة أبنائهما على المستوى الذي يرتضيانه لهم.
ومن الأهمية بمكان أن يكون الوفاء موجودًا بين الأصدقاء المقربين، وبين أفراد الأسرة، وبين الذين يحملون هَمّ الدعوة معًا، وحتى يجد المرء ما يأمله من وفاء ينبغي له أولًا أن يكون وفيًّا، فلو أنكم تعاملتم بوفاء مع مَن حولكم فستلقون المعاملة نفسها منهم؛ يعني على قدر العمل يكون الجزاء، فمثلًا يجب على الزوج أن يكون وفيًّا مع زوجته وشريكة حياته، بحيث إنه لو وقعت عيناه سهوًا على امرأة لا تحل له عدّ ذلك خيانة كبيرة لزوجته واستغفر ربه عليها؛ لأن دوام السكينة والمودة في الأسرة يرتبط بحرص الزوجين على الوفاء لبعضهما.
الوفاء مع القضية التي نذر نفسه لها
وإن الحفاظ على قوام أي حركة منتشرة في كل أنحاء العالم يرتبط بعامل الوفاء، فإذا أراد رجال الخدمة الذين يعيشون بين أصحاب الثقافات المختلفة أن يواصلوا خدماتهم دون أن يصيبهم تشوُّهٌ أو يتعرّضوا لأي ذبول وضمور وتبدّل فعليهم أن يكونوا أوفياء مع فكرة الدعوة التي ارتبطت بها أفئدتهم، وأن يكونوا أوفياء مع رفاق دربهم الذين يسلكون معهم نفس السبيل، الأهم من كل هذا هو أن يكونوا أوفياء مع مسألة الدعوة والإرشاد، ولا ينساقوا وراء الدنيا الفاتنة، ولا يقولوا: “دعونا نعتنِ بأنفسنا قليلًا”، إن فدائيي المحبة لا ينبغي أن يغيب عن بالهم: أنهم دلّالون على القرآن شهداء لله، وبِفهم الصحابة رضوان الله عليهم: لا ينبغي لهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة[3]، فإنهم إذا خلدوا إلى المال والراحة وتركوا فكرةَ الدعوة ورفاقَ دربهم وخدماتهم ولو قليلًا فقد ينزلقون ويهلكون معاذ الله!
فمن أراد أن يُعامَل بوفاء في حضرة الله فعليه في البداية أن يتحلى بالوفاء مع ربه عز وجل ومع نبيه صلى الله عليه وسلم ثم مع من حوله، فلا يجد منه أفراد أسرته ولا أصدقاؤه ولا رفاق دربه ما يدل على الخيانة وعدم الوفاء، ولا جرم أن هذا منوطٌ -كما ذكرنا آنفًا- بأن يجعل الإنسانُ الوفاء بعدًا من طبيعته، وأن يجري شعورُ الوفاء مجرى النفَس على الدوام، وأن يحرص الإنسان على الوفاء في حله وترحاله، وكما لا يمكن الحفاظ على لمّ شمل الأسرة التي لم يترسخ شعورُ الوفاء داخلها فمن المتعذر كذلك على الذين اتحدوا حول غاية واحدة أن يقوموا بخدماتهم على النحو المرجو؛ لأن شعور الصدق والوفاء إن لم يترسخ لدى هؤلاء فقد ينفصلون عنكم ويخذلونكم في أي موضع بالطريق إذا رنت أعينهم إلى أي منفعة أو مصلحة، وتسببوا في خذلانكم، ولا شك أن انفصال أي فرد عن القافلة يسعد مخالفيكم، ويُحدث نوعًا من الانكسار والخذلان فيكم.
فيجب ألا تذهب المكتسبات التي حصّلناها حتى الآن ضحيةَ عدم الوفاء، فالله هو أوفى الأوفياء، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/111)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عظيم الوفاء؛ حتى إنه تعامل بوفاء مع المشركين وهم الذين لم يتورعوا عن كل أنواع الإساءة إليه، فسامحهم جميعًا عند فتح مكة، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يتعاملون بوفاءٍ منقطعِ النظير مع مفخرة الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومع القيم التي استأمنهم عليها، بل حرصوا على الحفاظ عليها حتى وإن كلّفَهم ذلك أرواحهم، ثم جاء من بعدهم السائرون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوا شعور الوفاء دأبَهم وحديثَهم في حلِّهم وترحالهم.
وعلى السائرين في طريق هؤلاء الأوفياء أن يتعاملوا بالوفاء مع الجميع، وألا يقصِّروا في وفائهم مع الأوفياء العظام الذين تعرضوا للإهانات والطرد من أمام الأبواب، ومع ذلك لم يتخلوا عن سعيهم وبذلوا كلّ جهدهم في سبيل تسليم الراية لهم.. لا ينبغي لهم أن ينسوا الذين فتحوا الطريق أمامهم، ومهدوا لهم السبل للانتشار في كل بقاع العالم، ودعموهم وساندوهم، ولم يضنّوا عليهم بأي دعم مادي أو معنوي، بل لا بد أن يُتوِّجوا بهم رؤوسهم، ولا يجعلوا أحدًا يقول عنهم كما قال الشاعر:
بينما كنت آمل الوفاء من الحبيب والخلانِ
فاضت عيناي بالدموع بسبب الهجرانِ
ويئِستُ من العثور على الدواءِ
فهل ينتهي الأمر الآن بالخذلانِ؟!
ليس ذلك فقط بل يجب أن يتحلوا بالوفاء مع عديمي الوفاء، وأن يعلّموهم ما معنى الوفاء، وحتى وإن غدروا بهم مرات ومرات فلا يقصروا -بسبب غدرهم- من مشاعر الوفاء.
فهذا هو نهجُ سيد الأنبياء وصرح الوفاءِ عليه الصلاة والسلام، فالخير كل الخير فيما نبذله من جهد وما نقطعه من مسافات في طريقه صلى الله عليه وسلم! فإن أدينا الوفاء حقه وفَّانا الله حقَّنا، وما تخلى عنا ولا ترَكَنا وشأنَنَا.
***
[1] سنن الترمذي، البر والصلة، 35؛ مسند الإمام أحمد، 12/472.
[2] صحيح البخاري، الرقاق، 18؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 218.
[3] عن أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ القسطنطينية، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه فَقَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَتُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ الله الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا، فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا! فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/195)، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا، وَتَرْكَنَا الغَزْوَ”، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ. (سنن الترمذي، التفسير، 3؛ سنن أبي داود، الجهاد، 23)