سؤال: ما الموقف الذي ينبغي اتخاذه لاتقاء الظلم، لا سيما في هذا الزمان الذي شاع فيه هذا الأمر بكل أنواعه؟
الجواب: ورد مفهوم الظلم بشكل واسع للغاية في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وهو يعني باختصارٍ: تجاوزَ الحدّ وانتهاك حقوق الغير.. ولا ريب أنه على درجات متفاوتة؛ فمثلًا قتلُ النملة يُعدّ ظلمًا؛ فلا حقَّ لأحدٍ أن يسلب حيوانًا حقَّه في الحياة دون وجه حق، والأفظع من ذلك أن يجري هذا الظلم في حقّ إنسان، والأكثر خطرًا وفداحة ًمن ذلك أن يُرتكَب هذا الظلم في حق طائفة أو فئة معيّنة.
فالظلم أيًّا كان نوعه هو ضلال وانحراف نبَّهَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مردوده الأخروي بقوله: “اِتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ“[1]، أي إن كلَّ ظلم ارتكبه الإنسان سواء كان في حق إنسان أو حيوان أو في حقٍّ من حقوق الله تعالى سيتمثّل له آلامًا وعذاباتٍ في الآخرة، وما من ظالمٍ إلا وسيجازيه الله تعالى في الآخرة.
ولقد اعتبر العلماء المحققون الظلم واحدًا من العوائق التي تحول دون الإيمان، وهذا أمر جدير بالوقوف عنده، فكما أن الظلم يعيق صاحبه من الدخول في دائرة الإيمان بالله فهو كذلك يعتبر عاملًا مهمًّا للخروج منها.
منع الظلم
وبما أن الظلم أمر قبيح وفظيع إلى هذه الدرجة بالنسبة للإنسانية فلا بدّ من الحيلولة دون ارتكابه ومقاومته، كلٌّ حسب سلطانه وطاقته وموقعه، كما يقول الحديث الشريف: “مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِلِسَانِهِ، فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ“[2]، وقد اشتهر الأثر الذي يقول: “السَّاكِتُ عَنِ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ”.
وإن منعَ بعض أنواع الظلم البسيطة قد يكون في استطاعة ومقدور الأفراد، إلا أن هناك صنوفًا من الظلم لا يمكن قمعها إلا بيد الدولة، بل والأدهى من ذلك أن هناك ظلمًا يُرتكَب في عالم اليوم الذي تسوده العدالة والديمقراطية -وإن كانتا لا تتحققان على الوجه الأمثل- لا تقوى حتى الدول على التغلب عليه، ولذلك فإن منع هذا الظلم الذي تنشأ عنه شلالات الدماء، والذي تُهدّم بسببه البيوت ويُيتَّم الأبناء وتُرمّل النساء، وتتوالى فيه الفظائع والشناعات؛ لا يتأتى إلا بقوة مؤسساتٍ وهيئاتٍ دولية معينة، وعلى ذلك فإن سكت الأفراد أو الدول أو المؤسسات الدولية -كلٌّ حسب موقعه- على الظلم غدا كلٌّ منهم شيطانًا أخرس، وصار مشاركًا في هذا الظلم لأنه غض الطرْفَ عنه على الرغم من قدرته على التصدي له، وسيحاسب على ذلك في الآخرة.
وكما أن اتخاذَ موقف ضدّ الظلم والعملَ على مقاومته ومنعه أمرٌ مهمّ للغاية فإن اتباع إستراتيجية سليمة في هذا الصدد وتجنّبَ الخطإ في أسلوب ومنهج مقاومته لا يقلّ أهمية عن ذلك، فعلى الإنسان منذ البداية أن يحدد متى يستطيع منع هذا الظلم والجور، وأن يكون على وعي بإمكانياته، وألا يتسبب في وقوع فتن أكبر بينما يحاول منع الظلم؛ أي عليه أن يتحاشى عمل المنكر عند تقديم المعروف.
بالظلم يتعذر الوصول إلى أي غاية
يعتقد البعض أن بإمكانهم الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم عبر ارتكابهم الظلم والاضطهاد، وإنّهم لَعَلَى خطإٍ كبير، فما أقِيم حقٌّ أو تم التوصل إلى هدف حتى اليوم من خلال الظلم.
من جانبٍ آخر فكما لا تتحقق أيُّ غايةٍ سامية بارتكاب الظلم فكذلك لا يمكن إعادة الحقوق المسلوبة من خلاله، ولو حدث خلاف ذلك لأدى هذا إلى وقوع ظلم جديد وانتهاكٍ وتدميرٍ للحقوق والعدالة، ولذلك فإن كانت الغاية هي سيادة الحق وتحقيق العدالة فلا بد من التعلق بالحق من بداية الأمر إلى نهايته، ويمكن أن نعبِّر عن ذلك بقولٍ طالما ذكرناه في مناسباتٍ عدّة: “وكما يجب أن يكون الهدفُ مشروعًا فلا بدَّ أن تكون الوسيلةُ الموصلةُ إليه مشروعةً أيضًا”.
حسنٌ، فهل من سبيل لمنع هذا الظلم المستشري بكافة أنواعه في أيامنا الحالية؟ وإلى أيّ مدى يمكننا النجاح في ذلك؟ لا نعلم هذا، ولكن المهم هو السير في طريق الإصلاح والتعمير.. وما يقع على عواتق سالكي هذا الطريق هو تمثيلُ الحقّ والحقيقة على الدوام، وفتح الصدور للجميع، وتحاشي مقابلة الظلم بمثله، كما يقول الشاعر نابي:
لا تضايق أحدًا بظلمك
ولا تظلمه وإن ظلمك
ولا تطرق بالشكوى بابَ الملك
وفوِّض أمر من ظلمك إلى ربك
أن نكون مثل مولانا جلال الدين الرومي!
ربما أننا كثيرًا ما نذكر -بشيء من الحماسة والفخر- كلًّا من مولانا جلال الدين الرومي ويونس أمره وأحمد يسوي أو حاجي بكتاش ولي، ونشير إلى تسامحهم، بيد أن ذكر مولانا سهل، ولكن أن نكون مثله فهذا صعب، فهل تستطيعون فعلًا احتضان واحتواء من يُهينكم ويشتمكم بينما تتحدثون عن مولانا جلال الدين الرومي؟ هل إذا ما ظُلمتم بحثتم عن سبل لحل تلك المشكلة بشكل لطيف؟ هل تستطيعون أن تقربوا إلى أنفسكم من أعتدى عليكم وظلمكم؟ هذا هو أن نكون مولانا حقًّا.
ثمة حكاية تُروى بشأن تسامح مولانا؛ إذ جاءه تلميذ جِلف ذات يوم ينتقد قوله “لي قدم في قلب الإسلام، وأخرى في اثنتين وسبعين أمة”، ويتهمه بالزندقة وتضليل المسلمين ويعيب عليه قوله ذلك.. ودون أن يقطع مولانا كلام ذلك الرجل ظل يستمع إليه في هدوء ووقار منحهما الله تعالى إيّاه، فلما رأى أن ذلك التلميذ قال ما أراد قوله ولم يبق لديه شيء آخر ليقوله؛ سأله: “هل انتهى كلامك؟” فأجابه “نعم”، عندها قال له مولانا بصوت لين ورقيق للغاية “أقبِلْ، فصدري مفتوح لك أنت أيضًا”.
هنا مربطُ الفرس وبيتُ القصيد؛ ففي موقف كهذا تذوب وتنمحي جميع المشاعر السلبية التي يُكِنُّها الطرف الآخر، ويتحوّل ما بداخله من الأحقاد والضغائن إلى أطياف من المحبة تغمركم من مفرق رأسكم وحتى أخمص قدميكم، وبينما ثمة سبل ومناهج لإمطار الأنوار على هامات الناس فلماذا نمطرهم شُهُبًا ونيازك؟!
إن ظلَمَكم وبَغَى عليكم من يُعادونكم مرة أو أكثر.. فإنهم سيتخلون عن ظلمهم وجورهم هذا بعد مدة حينما لا يجدون منكم رد فعلٍ على ما اقترفوه بشأنكم.. وبينما حلُّ المشكلات بطريق الحِلمِ واللين ممكنًا فلماذا اللجوء إلى طرق من شأنها أن تثير مشاعر الحقد والبغض وتُذكِي نارَها؟!
ولكنني أرى ثمة فائدة في توضيح أمر سبق الحديث عنه في مناسبات مختلفة، ألا وهو أننا نستطيع التخلي عن حقوقنا الشخصية والتسامح فيها.. ولكننا لا نستطيع اتخاذ الموقف نفسه حين يُهاجم دينُنا ومقدساتنا وقيمُنا أو بلادنا.. وما يجب فعله هنا كالتالي: أولًا شرحُ الأمر بشكل معقول لمن يمارسون تلك الشرور ضدنا، ثمّ السعي إلى تصحيح أخطائهم، فإن عاندوا كذّبنا ما يدّعونه، فإن لم يتراجعوا عن أخطائهم، وواصلوا تمردهم وبغيانهم توجهنا للقضاء ليحكم بيننا.
بيد أنه ينبغي لنا في أثناء فعل هذا كله الالتزام بالحدود التي وضعها لنا القانون والأخلاق، وعدم التضحية بالشهامة والأخلاق السامية أبدًا، وأن نتصرف بصورة إنسانية دائمًا، وعلينا إبَّان القيام بمجموعة من الشروح والتصحيحات وتكذيب الافتراءات أن نجتهد دائمًا كي نقدم إلى الطرف الآخر رسائل إيجابية عبر أقوالنا وتصرفاتنا ونظراتنا وأسلوبنا في التعبير، وألا نتنازل أبدًا عن شخصيتنا وهويتنا، وأن نتحدث ونتكلم بصوت جبريل عليه السلام وأنفاسه، وليس بمزامير الشيطان ووساوسه؛ فَظُـلْـمُ الآخرين واعتداءاتهم تكشف عن شخصياتهم، وعليه ينبغي ألا يمنع ذلك الموقفُ أولئك الملتزمين بالقيم الإنسانية العالمية وفكر الإسلام ومبادئه من أن يفعلوا ما تُملِيه عليهم شخصيتهم وهويتهم.
هل يجدُر ارتكاب هذا القدر من الظلم؟!
أرى أن هذه الحياة الدنيا القصيرة لا تستحق ظلم الآخرين ولا حتى مقابلة ظلمهم بمثله؛ فنحن جميعًا ضيوف فيها؛ إذ إننا بعد إقامة محدودة في دار ضيافة الدنيا الفانية سننتقل إلى الآخرة الأبدية كي نُحاسب عما فعلناه، فهل تستحق العراك والشجار؟! هل تستحق إثارة الفرقة والاختلاف؟! هل تستحق ارتكاب الظلم والجور؟! إنها لا تستحق أيًّا من ذلك.. وفي قول مجهول صاحبه قيل عن الدنيا وفنائها:
انظر بعين العبرة إلى الدنيا فهي دار ضيافة
ليس فيها مقيمٌ؛ فما أشدّ فتنتها الجارفة!
رأسمال السيد والعبد فيها كفنٌ في النهاية وفي نفس المكان يُدفنون
فإن لم يكن المغرور بها مجنونًا فماذا عسى أن يكون؟!
وكي يستطيع الإنسان حلّ المشكلات التي واجهها حتى اليوم فقد استغلّ مشاعر الحقد والبعض مرات عديدة، ويا ليتنا من الآن فصاعدًا نستخدم مشاعر الحب والتسامح بدلًا منها! ليتنا نستطيع فتح قلوبنا للجميع، وليت كلَّ داخل فيها لا يخاف من ألَّا يجد لنفسه مكانًا فيها! ليتنا نستطيع التعامل مع الجميع بشعور عميق من الاحترام والتقدير! ليتنا نستطيع أن نقرأ مشاعر الناس والبيئات الثقافية التي نشؤوا فيها قراءة صحيحة عبر شعور حقيقي من التعاطف، وليتنا نتصرف تجاه الجميع وفقًا لهذا! ذلك أن نمط التصرف الذي نرجوه من الآخرين هو عينه الذي يرجونه وينتظرونه هم منّا.. فإن كنا ننتظر احترامًا من الآخرين فعلينا أن نُباشرهم به، وإن كنا نريد أن تُراعى حقوقنا فعلينا أن نراعي حقوق الجميع.
من المفيد معرفة أن مشكلات اليوم أصبحت معقدة للغاية بحيث يستحيل على أصحاب الفكر الضيق والمتحجر القيامُ بحلها، وكذلك أصحابُ الأفكار الراديكالية الذين تحرّكهم مشاعر التعصب لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا لصالح فتح القلوب وتحقّق السلام الإنساني.. ناهيك عن عدم قدرتهم أساسًا على استثارة مشاعر احترام قيمهم الذاتية في قلوب الآخرين، إنهم عاجزون عن تحبيب مفخرة الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم إلى الآخرين؛ لأنهم أسرى أنفسهم.
ولهذا السبب فإن حلّ مشكلات البشرية اليوم تتطلَّبُ ضمائر حيّة رحبة، وقلوبًا عامرةً غنيّة، وأفكارًا عميقة.. وكما استطاع مولانا جلال الدين الرومي أن يجمع -قبل حوالي سبعة قرون- شمل المسلمين من جديد بوصفات معقولة وضعها إبّان فترةٍ شهد فيها المسلمون انحطاطًا وتشرذمًا حادًّا؛ فإن الواجب على القلوب المؤمنة اليوم أن تستحضرَ وتُـحْيِـيَ روح مولانا جلال الدين الرومي من جديد، لا سيما في هذا العالم الذي تفكّكت فيه الإنسانية، وسلك البشر فيه اتجاهات معاكسة لبعضهم، وتأسست العلاقات بينهم على النزاعات والأعمال العدائية.. وما لم يتمّ ذلك فلن يتسنى منعُ مظاهر الظلم والعدوان المنتشرة في مختلف أنحاء العالم.
إننا إذا فكرنا في الطغاةِ ومطامعهم ومدى الخطورة التي يتعرض لها السلام والأمن العالمي بسبب الأسلحة المرعبة التي يعملون على إعدادها انتقامًا وثأرًا؛ حينها يتبين مدى عظم المسؤولية الواقعة على ذوي القلوب الفدائية الذين نذروا حياتهم لتحقيق الحب والتسامح.
[1]صحيح البخاري، المظالم، 9؛ صحيح مسلم، البر، 56.
[2]صحيح مسلم، الإيمان، 78؛ سنن الترمذي، الفتن، 11.