سؤال: يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ“[1]، فما المسؤوليات التي تقع على عاتق المسلمين حتى يتمّموا تحقيقَ هذه الغاية؟
الجواب: تكلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العديد من أحاديثه عن الأحداث المستقبلية، ولا جرم أن هذه الأحداث التي شاهدها بعين الغيب وأنبأ بها هي دليلٌ آخر على نبوته عليه الصلاة والسلام، ولو أردنا تناول المسألة ضمن وجهة نظرنا العامة التي ما زلنا نتبنّاها حتى اليوم نقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهدف بحديثه عن الأحداث المستقبلية إعلامَ أمّتِه بها، بل كان يستهدف في الوقت ذاته أن يضع نصب أعينهم هدفًا أعلى يسعون إلى تحقيقه ويرشدهم إلى ما يحقِّق ذلك الهدف، ولقد فهم سلفنا هذه الأخبار الغيبية على هذه الشاكلة، وحاولوا القيام بالمسؤوليات التي تقع على عاتقهم في هذا الصدد.
فمثلًا يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثٍ له: “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ“[2]، فالنبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول يخبر عن حادثةٍ ستقع، وإلى جانب ذلك يحضّ أمته على تحقيق ذلك الهدف المنشود ويرشدهم إليه.
ورغم أنه تكلم عن وقوع هذا الفتح بشكلٍ واضحٍ وقاطعٍ فإن سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم والمسلمين من بعدهم لم يقعدوا منتظرين وقوع هذا الأمر، لكنهم بدؤوا منذ عصر السعادة يسدِّدون أنظارهم نحو إسطنبول، حتى إنهم شدّوا الرحال إليها وصارعوا أسوارها، حتى استشهد بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام تلك الأسوار، ومن هؤلاء سيدنا خالد بن زيد المشهور بأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ورغم أن هذا الصحابي الجليل كان قد تجاوز الثمانين من عمره فإنه قطع طريقًا يبلغ مئات الكيلومترات إلى إسطنبول عسى أن يحظى بتحقيق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه استشهد عند مشارف المدينة، ودُفن حيث استشهد، وكأنه بقبره قد سجّل المكان الذي استشهد فيه باسمه، وكأن إسطنبول لما رأت حسنَ استضافته لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته من مكة إلى المدينة فتحت له أحضانها واستضافَتْه وهي تقول: “استضفتَ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم فضيّفناك”.
السبيل إلى أن نكون ذكرى جميلة
وعلى هذا فإذا كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن هذا الأمر سيبلغ ما بلغ الليل والنهار؛ فالواجب علينا السعي إلى تحقيق هذا الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بخبره الغيبي هذا قد أرشد أمته إلى هدف منشود، من هنا يجب على المؤمنين -بدلًا من أن ينتظروا تحقُّقَ هذا الأمر- أن ينظّموا هجراتٍ إلى كلّ أرجاء العالم، وأن يعمِّقوا هجراتهم بروح الإرشاد، ويسعَوا إلى تحقيق هذه الغاية المثلى.
للأسف الشديد تعذّر تحقيق هذا الخبر الغيبي الذي أنبأنا به النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى التام حتى الآن؛ وهذا يعني أننا نحن المسلمين لم نبذل غاية ما بوسعنا في سبيل تحقيق هذا الأمر، ولم ننفتح على العالم، والواقع أننا لو فشلنا في تحقيق هذا الأمر في الوقت الحالي فسيأتي مَن خلفنا ويحمِّلوننا وبال ذلك، وكما نسعى إلى أن يُذكر أجدادُنا بالخير دائمًا وتُعَدَّدَ محاسنهم وألا توجد في حياتهم ثغرات ولا عليها ملاحظات؛ فعلينا كذلك أن نساعد الأجيال القادمة من بعدنا في أن يذكرونا بالخير، وألا نسوقهم إلى سوء الظن بنا بسبب بعض إهمالنا وكسلنا، وألا نجعلهم يقولون عنا: “تبًّا لأجدادنا الذين استسلموا للدعة والخمول ولم ينفتحوا على العالم”.. من أجل ذلك يجب أن نحول دون ذكرهم لنا بهذه الكلمات الشديدة على النفس يومًا ما، وأن نسعى بأقصى جهدنا ونعمل كل ما بوسعنا للانفتاح على كل أرجاء المعمورة.
ويمكن القول إن هناك محاولات على هذه الشاكلة الآن، فقد جاب رفقاؤنا في الخدمة معظم دول العالم، والحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا كثيرًا، فلقد لاقوا حسن القبول في كل مكان ذهبوا إليه، ولم توصَد دونهم الأبواب، ولقد كان الأستاذ النورسي يرى وجودَ طالبٍ واحد من طلاب النور في مكانٍ ما كافيًا لتجدَ المشاعرُ والأفكار الإيمانية حسنَ القبول هناك، وهو هنا يذكِّرنا بأهمية التمسّك بالأفكار والغايات السامية، وينصحنا بإعلاء همتنا، وأن نقوم بما يجب علينا في كل مكان نذهب إليه في سبيل تحقيق غايتنا المثالية تلك مهما كلفنا من ثمنٍ.
فإن لم تتمسكوا بالغاية المثالية حيث تذهبون، ولم تعيشوا وفقًا لها، فمن الصعب أن تتخلصوا من أسارة الأنانية، وستتردون في هوة النرجسية، ويمكن أن نرجع أساسَ هذا الأمر إلى الحقيقة التي يذكرها فضيلة الأستاذ النورسي رحمه الله في قوله: “إذا لم تكن ثمة غايةٌ ومثلٌ عليا، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت؛ تحوّلت الأذهان إلى “أنا” -الأفراد- ودارت حولها”[3]، والواقع أن هذا يُعدّ بمثابة عقاب الله للإنسان؛ لأن الإنسان إذا لم يسعَ لتبليغ القيم التي نذر حياته في سبيلها فسيوكله الله إلى نفسه، عندها يشرع ذلك الإنسان في السعي إلى إظهار نفسه بأقواله وأفعاله وتصرّفاته ومشاعره وأفكاره، ولا شك أن هذا عقابٌ آخر يسلطه الله على الإنسان، وسبيل النجاة من هذا الأمر هو تسديد الأنظار إلى الأهداف السامية.
وأما النقطة التي يمكن أن يصل إليها المتحرّكون في سبيل مثل هذه الغاية السامية فهي شيء آخر، والله تعالى هو من سيقدّر هذا.. المهم هو أن نحيا ونموت في مدار ذلك الهدف المنشود.
لقد خرج أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه غازيًا في سبيل الله، ومسافرًا من أجل فتح إسطنبول، لكنه استشهد على أسوارها وقد تعذر عليه الوصول إلى غايته المنشودة، إلا أنّ التوفيق حالف قائدًا آخر جاء بعد ذلك فيسّر الله الفتح على يديه، وما يجب على أجيال اليوم هو السعي إلى إنجاز غايتها المثالية، ومن المتعذر علينا أن نعلم كم سيقدّر الله تعالى لهم من الإنجازات في هذا السبيل، ولكنهم يستلمون الراية فيصلون بها إلى نقطة معينة؛ فيأتي خَلَفُهم فيستلمونها من حيث تركوها، ويتقدمون بها إلى الأمام أكثر فأكثر.. وحين يقومون بهذا يذكرون تلك الأجيال بالخير؛ أي إنكم ستُصبحون ذكرى جميلة وستنتشر سيرتكم الحسنة بين الأجيال القادمة.
وكما أن الفدائيين المتحلقين حول غاية مثالية لا يتشوّفون من وراء الخدمات التي يقومون بها إلى أن يجنوا ثمارها ويروا خيرها بأمّ أعينهم؛ فإنهم لا يرهنونها برؤية الآخرين إياها ولا مدى معرفتهم بها وتقديرهم لها، إنهم يسعون دائمًا إلى ضبط تصرفاتهم وسلوكياتهم وفقًا لصوت قلوبهم، ويفكرون في رضا الله تعالى فحسب، ولكن الله جل جلاله يُجري ذكرَهم بالخير على ألسنة اللاحقين بهم دون أن يتشوّفوا هم لذلك أصلًا، وهكذا فالطريق التي تُؤدّي بالسابقين إلى أن ينالوا دعاء اللاحقين وثناءَهم تتمثل في الاستفادة لأقصى درجة من الإمكانيات والقدرات التي منَّ الله تعالى بها.
مِن حُلمٍ خَرِبٍ إلى واقع عَامرٍ
أجل، إن كنا نرغب في أن يتحول حلمنا الخرب الممتد من الماضي إلى واقع عامرٍ في المستقبل بعد أن تحطم في وقت سابق، وأن تتعرف الأجيال اللاحقة بقيمنا، وأن تذكرنا بالخير فيجب علينا من الآن فصاعدًا أن نستخدم إمكانياتنا كلها ودون استثناء، فننفّذ بحساسية ودقّة المهامَّ المترتّبة علينا في سبيل تحقيق غايتنا المثالية، وعندما نؤدي ما يجب علينا القيام به فإن الله تعالى لن يضيع جهودنا تلك، وسوف يسوق إلينا مواسم ربيعية جديدة بعد هذا الشتاء الطويل.
لقد أخذت العلامات تظهر والأمارات تتوالى تباعًا، وراحت ديكة الفجر تؤذّن مبكّرة، وبدأ الفجر الصادق يتنفّس.. فلا نَنْسَ أنَّ الولادات العظيمة غالبًا ما تصحبها آلام مخاضٍ شديدة، وكما أن بعض حالات الولادة تودي بحياة الأم؛ فإن الولادات العظيمة على المستوى المجتمعي قد تودي بحياة جيل كامل، ولكن هذا ليس أمرًا مهمًّا للغاية؛ إنما المهمّ هو أن تتمّ الولادة بنجاح.. ثم ماذا يحدث إن فنينا نحن أو لم نفنَ! ألسنا سنرحل من هذه الدنيا إلى الآخرة يومًا ما؟ إذًا فلا أهمية لِمَا إِن كنّا سنتذوق لذائذ الدنيا ومتعها أو أننا لن نتمكّن من ذلك.
بل وهناك ما هو أكثر من ذلك؛ فقد يُحوِّلُ بعضُ الظالمين والمعتدين الحياة إلى سجنٍ لنا؛ حتى إنه قد تتوالى حالات الهجرة والنفي والاعتقال والسجن والظلم.. ولا يسمحون لكم بأن تتذوّقوا شيئًا من متع الدنيا على الإطلاق، بيد أنه ينبغي لنا أن نقول فورًا: “إنّ كلّ هذه الأمور لا تعني شيئًا ألبتة بالنسبة لمسؤوليّتنا؛ فلقد حُدِّدت غاية فطرتنا ونتيجة خلقنا، وما يقع على عاتقنا هو التحرّك من أجل تحقيق ذلك، وإن كلّ هذه الأشياء لن تعني لنا شيئًا بعد أن نحقّق غايتنا!”.. غير أنكم إذا ما فارقتم هذه الدنيا دون الاضطلاع بشيء في سبيل إعلاء اسم الله تعالى وإيصال اسم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالم أجمع فإنكم ستنتقلون إلى الآخرة وكلكم حسرة على ما فاتكم فعله فيها.
وعليه فثمة حاجة في يومنا إلى فدائيين مستعدين للتضحية بمشاعر الفيوضات المادية والمعنوية، أوفياء لرسالتهم مخلصين لها بحيث يكون إخلاصهم بذلك القدر الذي عبر عنه الأستاذ سعيد النورسي في قوله “إن رأيتُ إيمان أمّتنا في خيرٍ وسلام فإنني أرضى أن أُحرق في لهيب جهنم، إذ بينما يحترق جسدي يرفلُ قلبي في سعادة وسرور”[4]، وإلا فإن هذه الرسالة لا يمكن تحقيقها بالتركيز على الأنانية الذاتية أو الجماعية أو اللجوء إلى انتماءات متعدّدة تحت مسميات شتى بعيدًا عن اللب والجوهر.
وأرى أن المهم هو الالتزام بالقواعد والمبادئ النابعة من الوحي؛ قرآنًا وسنّةً، بدلًا من تعزيز الأنانية الشخصية عبر الافتخار بالشهرة والصيت أو الانتساب إلى فلان أو علان..
وكما أن هناك مَن يرغب في الوصول إلى مواقع أو مراكز معينة عن طريق قتلِ الآخرين؛ فنحن بأمس الحاجة إلى أرواحٍ نذرت نفسها للحق وتفانت تضحيةً وفداءً أثناء سيرها في الطريق حتى ينقطع صوتها ونفسها وتموت وهي على منوال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كاد أن يُهلك نفسه من أجل إحياء الآخرين، فخاطبه ربه قائلًا: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)..
وفي ظل هذه الأرواح المُضحِّية القادرة على التخلي عن متعها الجسمانية وراحتها الشخصية في هذا السبيل، والقادرة على الاستغناء عن الأطماع المادية والفيوضات المعنوية سوف يصبح حلمنا واقعًا معمورًا من جديد.
إنّ مجرّد السير في طريقٍ ضحى الأنبياء بحياتهم من أجله وفيه؛ لهو شرفٌ عظيم، وأيّ شرف! لأن من يسير خلفهم على الطريق نفسه ويشاركهم الغاية المثالية عينها فسيكون معهم في الآخرة أيضًا، وسوف يرتقي معهم إلى المرتبة ذاتها، وكما فهمنا من بعض الأحاديث النبوية الشريفة فسوف يُصنَّفُ الناس ويُقسَّمون إلى فئات مختلفة في الآخرة، وهكذا يُحتمل أن يُوضع من أنفقوا أموالهم، ومن هاجروا في سبيل الله، ومَنْ عمّقوا تلك الهجرة وعززوها بالإرشاد… إلخ في فئات مختلفة.
وكذلك فإن الساعين في طريق إعلاء كلمة الله سوف يجتمعون بمن ساروا وسَعَوا معهم، وأيًّا كانت الفئة التي يتجانَسُ الإنسان معها بحسب أعماله في الدنيا فإنه سيُحشر معها في الآخرة، ومن ذا الذي لا يريد أن يُحشَر مع أشخاص عظام كالأنبياء والعلماء من أمثال الإمام السرهندي ومولانا خالد البغدادي والأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي! ومهما يقدم الإنسان من أجل الحصول على مثل هذه النتيجة فإنها تستحقه وتجدرُ به.
[1] صحيح مسلم، الفتن، 19؛ سنن الترمذي، الفتن، 14.
[2] الحاكم: المستدرك، 4/468؛ أحمد بن حنبل: المسند، 4/335.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، نوى الحقائق، ص 574.
[4] بديع الزمان سعيد النورسي: سيرة ذاتية، ص 492.