سؤال: ما المقصود بعبارة “إدمان الخدمة” التي يتكرر ذكرها في دروس الوعظ، وما هي خصائص مدمني الخدمة؟
الجواب: إن إدمان الخدمة بإيجاز شديد يعني أن يُكرّس المرء نفسه لغاية مثالية معينة، فإذا كان الإنسان يفكر في الخدمة ليل نهار وفي قيامه وقعوده، ويضع الخطط والمشاريع في سبيلها أيضًا فهذا يعني أنه قد صار مدمنًا للخدمة، كما أن ذهابه إلى المدرسة أو دراسته أو كتابته أو تسطيره شيئًا ما يكون دائمًا من أجل الخدمة، إنه مستعد للتضحية بما يملك من مشاعر الفيوضات المادية والمعنوية من أجل تبليغ الحق والحقيقة للصدور المحرومة، وإنقاذ الناس من لوثيات العصر، والأخذ بيد من سقطوا في مستنقع الوحل فيخرجهم منه.
وبتعبير آخر: فإن إدمان الخدمة يعني أن يرهن الإنسان تصرفاته وسلوكياته كلها برضا الله ومرضاته، وأن يستخدم كافة القدرات والإمكانيات التي يمتلكها في سبيل أن يُعرِّف الإنسانية جمعاء بالله عز وجل.
يصير البعض مدمنين للمواد الضارة كالسجائر أو المسكرات أو المخدرات؛ بينما يدمن الآخرون تناولَ ثلاث وجبات يوميًّا، واحتساء الشاي أو القهوة ثلاث أو أربع مرات في اليوم.. هذه الأنواع من الإدمان هي تعبير عن الضعف البشري، والحقيقةُ أنه يجب على المؤمن ألَّا يكون مدمنًا لأي شيء بهذا المعنى؛ إذ ينبغي له أن يعدّ نفسه ويدرّبها بحيث يستطيع البقاء على قيد الحياة في ظل أقسى الظروف، وأن يقدر على تحمل الظروف الصعبة عند الضرورة، وأن يعرف كيف يعيش بأقل القليل في أسوإ الظروف. ومع ذلك فإنه ليس في الاستفادة من النعم المباحة على وجه العموم أيُّ ضرر على دين المرء وتدينه، ذلك أنه لن يكون سهلًا على مَنْ أدمنوا بعض الأمور، واعتادوا الرفاهية والراحة أن يكونوا متحدثين باسم الحق مُتَبَنِّين للحقيقة في الأوقات الصعبة والحرجة.
عندما يتعلق الأمر بإدمان الخدمة فإنه لا يعني تعبيرًا عن ضعف ما؛ بل على العكس، إنه خصلة سامية يمكن الحصول عليها بجهد وسعي جادّ وحقيقي، فمثلما يجب على المرء في بداية الأمر أن يضغط قليلًا على نفسه ليصير مدمنًا للعبادة، فإن إدمان الخدمة أيضًا مرهون بتصميم وعزم جادّين منذ البداية. ويذكر سيدنا صلى الله عليه وسلم أنه يستمتع بعباداته، كما نستمتع نحن بالأكل والشرب[1]، ولا أدري إن كان من الصحيح أن يُقال عنه عليه الصلاة والسلام أنه “مدمن العبادة”، أم لا؟ إنني شخصيًّا أتحرّج من استخدام مثل هذا التعبير بشأنه صلى الله عليه وسلم، ولكننا إذا استثنينا سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، أمكن أن يُطلق تعبير”مدمن العبادة” أو “أسير العبادة” على من يعيشون متعة روحية على هذا المنوال أثناء العبادة.
إن مدمن الخدمة يرهن حياته لإعلاء كلمة الله؛ فكلّ مشاعره وأفكاره ومشاغله هي: “اللهم وفّقني للخدمة في سبيل أن يرفرف الاسم الإلهي الجليل، والروح المحمدية العظيمة خفّاقةً في آفاق السمو نحو الأعالي ليكون للحياة معنًى، وإن لم أستطع القيام بذلك فاقبض روحي فإنه لم يعد للحياة معنى”، إنه -بدلًا من أن يعيش حياة بلا معنى- يفضّل أن يقدّم إلى الله طلبًا للرحيل ويستقيلَ من مثل هذه الحياة.
وليس معنى هذا قطع العلاقة عن أمور الدنيا.. على العكس، بل التفكير في الخدمة حتى أثناء العمل والكسب، إنه يعمل ما يعمل، ويمتلك ما يمتلك من إمكانيات، ويرتقى إلى ما يرتقي من مناصب، ويسعى لاستثمار كل ذلك ليكون ترجمانًا للحق والحقيقة، وداعمًا ومساندًا لها.. إن المناصب والرتب التي يستحيل الاستفادة منها من أجل نصرة الحق ورفعته، والدفاع دائمًا عن الحق والحقيقية ليست لها أية قيمة تُذكَر في نظره، ولا أهمّية للتصفيق عنده، ولا للتقدير، ولا للشهرة، ولا للراحة والدعة كذلك.. كل هذه الأشياء ليست أهدافًا يتوجب السعي خلفها، إن همّه وشاغله الوحيد هو الغاية المثالية التي يعشقها من صميم قلبِه.
وليس سهلًا على الإطلاق الوصولُ إلى هذا المستوى من الفدائية، ففي البداية هناك حاجة إلى الانطلاق بعزم وإصرار حقيقيين، وإلى إجهاد النفس وترويضها على تحمل الصعوبات إلى أن تعتاد.
كان لنا صديق -انتقل إلى رحمة الله- عندما عُرض عليه لأول مرة المساهمة بشيء في سبيل عمل الخير، قدم مساعدة مالية بسيطة ذلك اليوم.. لقد أعطى قدرًا من المال يعادل راتبًا شهريًّا يتقاضاه موظّف عادي، لكنه وصف مدى صعوبة ذلك بالنسبة له في ذلك الوقت بهذه الكلمات: “كأني أخرجت قلبي وأعطيتُه”، لكن الشخص نفسه صار فيما بعد مدمنَ خدمة؛ حيث قام بذلك عدة مرات، واجتاز امتحانات مختلفة، وبعد أن ارتقى إلى ذلك الأفق أنفقَ كلَّ ما كان يملكه في سبيل الله، حتى إنه كان مستعدًّا لأن يبذلَ روحَه بكل سرور ورضًا لو أنها طُلبت منه.
ولقد التقيتُ بأشخاص عظماء نذروا أنفسهم للخدمة أيضًا؛ لدرجة أنني كنت دائمًا أغبط نفسي لوجودي بينهم، هؤلاء الأصدقاء كانوا يستاؤون ويمتعضون عندما لا يُدعَون لأن يضربوا بسهمٍ في الخير، ويقولون: “لماذا نُسينا؟ أرَدْنا أن نقدِّم شيئًا نحن أيضًا!”، وكان بعضُ رجال الأعمال يقول: “يهاجر الطلاب إلى جميع أنحاء العالم، ويهاجر المعلمون أيضًا، فلنهاجر نحن كذلك!”، فيجمعون حقائبهم ويسافرون، وهذا يعني إدمانَهم فكرةَ خدمة الإنسانية في سبيل الله، إلى أن صارت تدفعُهم إلى جهدٍ وسعيٍ مستمرّ.
وإذا شعر الإنسان بمثل هذا الالتزام والارتباط إزاء الخدمة فإنه يريد أن ينتهز كلَّ فرصةٍ تلوحُ له في سبيل هذه الغاية المقدسة، إنه يرغب في الانفتاح على جميع أنحاء العالم، وإضاءة شعلة النور في كل مكان، فإن لم يستطع القيام بذلك اعتبر العيش عبثًا بالنسبة له، وكما أن مَنْ يُدمنون بعض الأشياء يعانون أشد المعاناة بل يموتون في بعض الحالات إذا ما أبعدتموها عنهم؛ فإنني أعتقد أن مدمني الخدمة يُصابون بالجنون إن تُجرِّدوهم منها.
إن ما نحتاجه في كل وقت وحين هو جعلُ مثل هذا الفهم خُلُقًا وسجية، وإنها لَحقيقة أن هذا قد وقع بالفعل بمراتب ومستويات مختلفة في البيئة التي نحن فيها، ونأمل أن يتمّ -يومًا ما- تبنّي هذا الفهم في بيئة أكبر بكثير إن شاء الله؛ فالأشخاص الذين يدمنون مثل هذا الفكر سوف ينيرون العالم بإذن الله وعنايته، وسيجعلون هذا الشعور والفكر ينمو ويزيد في كل مكان، وسيكشفون للبشرية مرة أخرى طريق الطمأنينة والسلام، ويعلمونها آداب الحياة بإنسانية.
وكما أنه من المهم للغاية جَعْلُ الأشخاص مدمنين للخدمة حتى يتسنّى لهم تحقيقُ مثل هذه النتيجة فإن استثمار قابليات وقدرات الأشخاص المدمنين للخدمة أمرٌ مهمٌّ بالقدر نفسه، من المهمّ جدًّا تهيئةُ البيئة اللازمة حتى يتسنى للجميع تحقيق الأداء المُنْتَظَرِ منهم، ودفعُهم للسعي والعمل بطريقة مربحة، كي تؤتي جهودُهم ثمارَها.. كما أنه من المهمّ جدًّا عدمُ تعطيل أيّ شخص أو التضيق عليه، من الضروري وضعُ الشخص المناسب في المكان المناسب، وتوزيعُ الأعمال توزيعًا جيّدًا جدًّا.. ويجب أيضًا إحالة هذه الأمور إلى المشورة، والتصرف بعقل وتفكير مشترك.
نعم ينبغي فتح الطريق أمام الجميع، ويجب أن يتحمل الناس المسؤولية، ويجب كذلك أن تُحترم خدماتهم وتُقدَّر، وتنبغي الاستفادة من تجارب الكبار وخبراتهم، ومن ديناميكيات الشباب وطاقاتهم أيضًا، يجب استخدام كل فرد وفقًا لموقفه ووضعه، وكما قال سيدنا صلى الله عليه وسلم في بياناته المباركة: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا“[2]، وإلا فإن لم يُظهر الشبابُ الاحترامَ اللازم لرموز الخدمة الذين كرّسوا حياتهم كلّها للخدمة، وقلّلَ الكبارُ كذلك من شأن الشباب قائلين: “أنتم لا تزالون أطفالًا حتى الأمس”، وقلّلوا من شأنهم، فقد انسدّ هذا الطريق.
إذا كان هناك انسدادٌ هكذا في مكان ما، فهناك حاجة إلى جراحة تحويل مسار من أجل انبعاث الخدمات من جديد، فيجب مراجعة العلاقات مرة أخرى، وإحياء روح التفاوض والمشورة مجدّدًا، وبالتأكيد يجب مساعدة الجميع على العمل في قنوات معينة وفقًا لقدراتهم حتى يظلّوا حيوِيِّين وأقوياء ونشطاء، إذا لم يعمل الناسُ فلا مفرَّ من أن يحدث تآكلٌ وخمولٌ بعد فترة، وتضعف العضلات والجهاز العصبي.
أريد أن أذكر شيئًا أخيرًا؛ تعلمون أن حضرة الشيخ الجليل بديع الزمان يقول: “إن الشياطين يكدون أنفسهم ويجهدونها مع خدام تلك الدعوة المقدسة”[3]، لأن عداوة الشيطان تكون بحسب مستوى كل فرد؛ فمن يستمسكون بدين الله ويطبقونه ويمثلونه حقّ التمثيل هم أعداؤه الرئيسون، لذلك فمَن عزم على إحياء الدين، وأسلم نفسه للخدمة وأخلص لها، وصار مدمنًا لهذا الأمر فسيتعرض لمكائد الشيطان كثيرًا، وسيحاول دائمًا تشويشَ عقلِه، وطمسَ نظرِه، وسوقَه إلى أشياء تافهة لا نفع فيها.. لماذا ينشغل الشيطان بمَنْ يكون صيامهم في المواخير، وعيدهم في الحانات، وإفطارهم في معابد الأوثان؟!، لماذا يضيع طاقته سدى بالانشغال بهم؟! إنه مُفسِدٌ محترفٌ.. لذا من المهم جدًّا أن يستعيذ مدمنو الخدمة دائمًا بالله تعالى من الشيطان، وأن يكونوا يقظين في جميع الأوقات للشرر الذي قد يأتي منه.
***
[1] انظر: سنن النسائي، عشرة النساء، 1؛ الطبراني: المعجم الكبير، 12/84.
[2] سنن الترمذي، البر والصلة، 15.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون (رسالة الإخلاص)، ص 221.