الاستغناء

الاستغناء
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

Share

يشارك

سؤال: كيف نفهم معنى الاستغناء الذي بيَّن القرآن الكريم أنه من أخلاق الأنبياء؟ وكيف يجب أن نطبّقه في حياتنا؟ وهل الاستغناء صفةٌ محمودةٌ في جميع الحالات؟

الجواب: الاستغناء خصلةٌ أساسيّةٌ من خصال الأنبياء العظام عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام؛ ويعني التعفُّفَ عن مدِّ اليد وسؤال الناس إلا في حالات الضرورة القصوى، والاكتفاءَ بما هو موجودٌ، والحفاظَ على عزّة النفس.. وإن الاستغناء بهذا المعنى لَيُعدّ خلقًا جديرًا بالثناء، وفضيلةً مهمّةً يجب أن يتحلّى بها كلّ إنسان، والشخصُ الذي يتعامل باستغناءٍ يُسمى “مستغنيًا”.

إنّ لكلِّ صفةٍ وخلقٍ وسلوكٍ ضوابطَ وأُطرًا وحدودًا خاصّةً بها؛ فقد يكون محمودًا في موقفٍ، ويكون غير ذلك في موقفٍ آخر، وقد يكون طيّبًا في دائرته الخاصّة، ولا يكون كذلك خارج تلك الدائرة، وهذا أيضًا ينطبق على الاستغناء، فنحن مثلًا لا نستطيع أن نتعامل باستغناءٍ عن الله؛ لأن استغناءنا عنه يعني الكبر والغرور والجحود، وهذا لا يتوافق مع شعور العبودية، ومَن تعامل باستغناءٍ عن الله فقد ابتعد عن الباب الأجلّ الذي تُقضى عنده الحاجات، ونحن المسلمين نسأل حوائجنا كلّها صغيرها وكبيرها -بفهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم- من الله تعالى، ونتوجّه بجميع طلباتنا إليه، ونرفع أيدينا بالدعاء له، ونتوسّل ونتضرّع إليه في السرّاء والضراء، ونسأله سبحانه وتعالى وحده جميعَ حوائجنا المادية والدنيوية مثل الصحة والرزق والولد، وكذلك حوائجَنا المعنوية والأخروية مثل الرضا والرضوان والجنة ورؤية الله.. وندرك دائمًا أننا في حاجةٍ إليه، ونرجو إحسانه وألطافه في كلّ وقتٍ وحين، فمن تعامل باستغناء عن الله فقد حرم نفسه خيري الدنيا والآخرة.

بيد أن هناك أمورًا أخرى لا يمكن للإنسان أن يتعامل باستغناءٍ فيها، فمثلًا نحن لا نستطيع أن نستغني عن آراء الآخرين وأفكارهم، فمهما كان الإنسان عاقلًا حصيفًا فمعرفتُه وخبرتُه محدودتان، فعقلان أفضلُ من عقلٍ واحدٍ، وثلاثة عقولٍ أفضل من اثنين وهكذا، فالذي يكتفي بعقله فقط هو الذي يصيبه مرض الكبر؛ ولذا علينا قبل اتخاذ القرار في أيِّ مسألةٍ أن نستشير أهل الخبرة، ونستفيد من آرائهم وتقييماتهم.

كذلك فإننا نؤمن بأن توفيق الله وعنايته مع الجماعة، ولهذا لا نستطيع أن نستغني عن إخواننا المؤمنين، ولا نترك السير معهم في طريقٍ واحدٍ، وعلى سبيل المثال: فلو أن هناك مياهًا تجري إلى مرضاة الله، وتتدفّق في سبيل الله، وتشقّ طريقها في سبيل تحقيق غايةٍ ساميةٍ؛ فلا نرضى أن نكونَ قطرةً بمعزلٍ عن الساقية وحدنا؛ لأننا نخشى إن رضينا بذلك أن نتبخّر ونتلاشى بفعلِ قليلٍ من الحرارة، ونعلم أننا إذا كنّا جزءًا من مثل هذه الجماعة فسنجني ثمارًا تفوق بكثيرٍ ما يمكن أن نحقّقه بمفردنا، لأننا عندما نحظى بدعم الذين يتشاركون مشاعر موحَّدةً واتجاهًا واحدًا فستزداد جهودنا الفرديّة أضعافًا مضاعفةً.

فهذه القضيةُ وأمثالُها ليست محلًّا للاستغناء المحمود، وعلى المؤمن بعد أن يضع هذه الأمور جانبًا؛ أن يجعل من الاستغناء دستورًا لحياته ومحورًا لها، فلا يأمل شيئًا من أحدٍ، ولا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يتذلّل لأحدٍ، ولا يرجو شيئًا من أحدٍ، ولا سيما إذا كان قد وهب نفسه للخدمة الإيمانية والقرآنية فعليه أن يمتثل طريق الأنبياء العظام عليهم السلام، ولا يتنازل أبدًا عن مبدإ الاستغناء، وبقدر ما يستطيع فلا يكون عبئًا على أحدٍ؛ فإن حفاظ الإنسان على شرفه وكرامته ورصيد ثقة الناس فيه يعتمد على ذلك، فالذي يتحرّك بدافعِ الحصول على شيءٍ ما أو الذي يجعل لأحدٍ يدًا عليه؛ يفقد تأثيره في الناس، ويكون مضطرًّا إلى دفع مقابل لأفعاله هذه.. وفي القرآن عديد من الآيات التي تلفت الأنظار إلى أن صفة الاستغناء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام، ومن ذلك قول الله تعالى على لسان نبيٍّ من أنبيائه عليهم السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/109)، ولقد كانت هذه الأقوال ديدنَ جميع الأنبياء ونفَسَهم وصوتهم المشترك.

قد يحتاج بعض الناس إلى الابتعاد عن المشاغل الدنيوية حتى يكرّسوا أنفسهم بالكامل للخدمة الإيمانية والقرآنية، ويكتبوا ويصوروا ويتحدّثوا ويركضوا في سبيل تحقيق غاياتهم السامية، وعلى الرغم من أن هؤلاء لا يتشوّفون إلى شيءٍ من أحدٍ، ولا يرغبون في أن يكونوا عبئًا على أحدٍ، ويحرصون على أن يكسبوا قوتهم بعرق جبينهم؛ فإنه من المهمّ أن يحصر بعضُهم وقتَه وطاقته للخدمة الإيمانية والقرآنية؛ حتى يمكن أداء المهام التي لا بدّ منها بشكلٍ مثمرٍ، وفي هذه الحالة، يجب على أهل العون والهمّة ألا يتركوهم بمفردهم دون دعمٍ، وأن يمدّوا أيديهم لمساعدتهم، ودعمهم، والاعتناء بهم، وعليهم هم أيضًا في المقابل أن يضحُّوا بشيءٍ من استغنائهم في هذه الجهة.

إن مطالبة الناس بالتبرّع عند الضرورة، وحثّهم على فتح المؤسّسات التعليمية، وتشجيعهم على المساهمة في تمويل الخدمات التي تُبذَل في سبيل الله، ومطالبتهم بشيءٍ من هذا القَبيل؛ ليس من الأمور المخالفة للاستغناء؛ فنحن أولًا لا نطلب شيئًا لأنفسنا، إنما من أجل الآخرين ومن أجل الدعوة إلى الله، ولقد فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في مناسباتٍ مختلفةٍ، وجمعَ المساعدات من الناس، ولكن علينا في هذا الموقف أن نتحلّى بالشفافية والوضوح، وأن نقدّم كشف حسابٍ للمدخلات والمخرجات، وأن نبتعد عن أدنى الأشياء التي قد تضرّ بثقة الناس فينا.. وعلينا أن نضبط سلوكياتنا بحيث تكون جامعةً للثقة مانعةً للآراء السلبية عنّا، فلا نمسّ شيئًا يخصّ الوطن أو الخدمة أو الدولة، فإذا ذكَرَنا أحدٌ فعليه أن يذكرنا أهلًا للأمانة والثقة.

وإذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام، نجد أن العلماء الحقيقيين وأولياء الله قد حافظوا دائمًا على عزة أنفسهم واستقلاليتهم، وسعوا قدر المستطاع للابتعاد عن الولاة والحكام، وإذا كان العز بن عبد السلام قد جعل حكام عصره يسمعون لقوله ويذعنون لرغبته، فإن ذلك كان بفضل استقلاليته وصدقه.. وإذا كان الإمام الغزالي قد أثر في “نظام الملك” وفي “قليج آرسلان” إلى حدٍّ ما، فبفضل ذلك أيضًا، ورغم أن بعض الشخصيات الكبيرة مثل “آق شمس الدين”، و”أبي السعود أفندي”، و”زنبيللي علي أفندي”، قد تولوا بعض المناصب مثل وظيفة شيخ الإسلام وغيرها؛ فإنهم كانوا دائمًا يحافظون على عزة أنفسهم، ولم يفرّطوا بعفتهم، ولم يخنعوا أمام الحكّام والسلاطين، ولم يرضوا بالتنازل عن استقلاليّتهم، وبفضل هذا، تمكّنوا من التأثير في أقوى الشخصيّات الحاكمة للدولة العثمانية وأرغموهم على سماع قولهم.

وعلى الشاكلة نفسها كان بديع الزمان سعيد النورسي لا يقبل الهدية من أحدٍ؛ حيث جعل الاقتصاد والقناعة أعظمَ دستورٍ له في حياته، وبفضل ذلك لاقت كلماتُه القبول لدى مخاطبيه، وبقدر محافظة هؤلاء على شرفهم وكرامتهم أغناهم ربُّهم سبحانه وتعالى، وقوّاهم.. فيقع على عاتق الذين وهبوا أنفسهم للخدمة والإرشاد اليوم أن يسلكوا سبيلهم.

على مرِّ التاريخ، لم يَخلُ عصرٌ من العلماء الحقيقيّين الذين هم ورثة الأنبياء، ولا من علماء السوء الذين يُعرفون بعلماء السلطان، وهؤلاء العلماء على عكس الآخرين يسعون دومًا لاقتطاع شيءٍ ما من أصحاب المناصب عن طريق التملُّق والتذلُّل لهم، ولكن يجب أن نعلم جيدًا أنه حين يبدأ أهل الإرشاد في التملّق والتذلّل لأصحاب السلطة أو المال، فإنهم يفقدون تأثيرهم، بل ويصبحون خدمًا لأولئك الذين يتملّقون لهم..

ثم إن هؤلاء الذين يتحرّكون بدافع الحصول على أيّ منفعةٍ ولو كانت قليلة؛ يُسيئون استغلال مكانتهم ويستنفذون رصيدهم في المكان الخطإ، ويفقدون قوّة تأثيرهم.

 ولا يخفى على أحدٍ ما يعانيه مجتمعنا من افتقارٍ لتأثير علماء الدين من أئمة وخطباء ومؤذّنين ووعّاظ، ويرجع ذلك بشكلٍ كبيرٍ إلى الأمور المذكورة هنا.

  • https://s1.wohooo.net/proxy/herkulfo/stream
  • Herkul Radyo