الجَرَّة المشروخة: الخدمة في أوقات المحنة والشدَّة

الجَرَّة المشروخة: الخدمة في أوقات المحنة والشدَّة
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   سؤال: تفاقم الظروف وزيادة الضغوط والاضطهاد يمكن أن ينتج يأسًا لدى بعض الأشخاص؛ فما الذي يجب فعلُه في مثل هذه المواقف حتى يتسنى الحفاظ على خط الاستقامة؟

   الجواب: أوَّلًا: أجدُ فائدةً في التذكير بضرورة عدم الانخداع بالوجه الخارجي للأحداث الجارية؛ فالبعض قد تخدعه قوته وقدرته وسلطته في استئصال ما يريد، وجريان الأحداث لصالحه، ويظن أنه يستطيع من خلال هذا تحقيق ما يصبو إليه، في حين أنه على حد تعبير الإمام محمد لطفي أفندي: “كم من شخصيّاتٍ عظيمة، وسلاطين ذوي وجوهٍ نورانيّةٍ، وملوكٍ وأباطرةٍ كـ”كسرى أنو شروان” انقلبوا ورحلوا عن هذه الدنيا مثلما جاؤوها دون أن يفعلوا أي شيء، ولا أن يصلوا إلى مقصودهم، من جانب آخر فإن أشخاصًا من أمثال أبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص والقعقاع وطارق بن زياد الذين عاشوا حياتهم كأشخاص عاديين هدموا قلاعًا حصينة، وتخطوا أسوارًا منيعة، واخترقوا أماكن مُحكمة، وحققوا نجاحات عديدة بإذن الله وعنايته.

   من أجل الوصول إلى ذروة القيم..

إذا ما ربطنا المسألة ببيان الآية الكريمة ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (سورة الْحَدِيدِ: 57/21) وجدنا المؤمن الحقيقي لا يتعجرف ولا يتجبر إذا ما أنعم الله عليه، ولا ييأس ولا يقنط إذا ما مسه الشر واشتد به الأمر، فالنفس أدنى من كل شيء، والوظيفة أسمى وأعلى من كل شيء، قد يستصغر الإنسان نفسه، ويعتقد أنه ضعيف وواهن، وربما يكون هكذا في الحقيقة، ولكنه حين يلجأ إلى ذي الجلال ملك الملوك ويثق به يُوفق إلى إنجاز أعمال عظيمة عديدة تُدهش الآخرين وتأخذ ألبابهم.

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رُبَّ أَشعَثَ أَغْبرَ ذِي طِمْرَينِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ[1]. أجل، ربما ترون رجالًا مساكين مشردين، ولكن لهم قيمة وقدرًا عند الله، وإن بدوا في الظاهر مثل أبنية خربة أوشكت على الانهيار فإن بواطنهم مليئة بالكنوز في حقيقة الأمر، والله تعالى يوفق مثل هؤلاء الأشخاص إلى القيام بأعمال عظيمة ومهام جسيمة؛ لأنهم يمتلكون قلوبًا صافية حقًّا، وقد توجهوا إلى الله تعالى بإخلاص وصدق، فقد محوا أنفسهم وأفنوها، فصارت سماتهم هذه وسيلة مهمةً لطلب عناية الحق تعالى ورحمته، وقد وفقهم الله تعالى إلى هذا.

ومن ثم تكون غاية المرء نيل رضا الله والفوز بمرضاته تعالى، وأن يبرأ من قوته وحوله ويلجأ ويلوذ إلى حول الله وقوته؛ فيبتعد عن جميع الأفكار التي تفوح شركًا مثل: “فعلت، وعملت، وخططت، ونجحت”، وأن يعزو إلى الله تعالى كل نجاح وتوفيق حظي به، فإن تم النظر إلى المسألة من هذه الناحية تحققت السلامة من الوقوع في الشرك، ذلك أننا لا نستطيع الوصول إلى أية درجة ما لم ننكر أنفسنا، على المؤمن أن يعلم يقينًا أن الله قادر على أن يجعل أفواج النمل تبني أبراجًا عظيمة طالما رضي عنها سبحانه، وأن يخسف بالآخرين الأرض إذا سخط عليهم.

أجل، إنه الواحد الأبدي، لا شريك له ولا مثيل، فإذا أردنا أن نعطي قيمة للبعض أمام “الأبدي المطلق”، ونضفي عليهم قيمة حقيقية فما نصيبهم إلا “الصفر”، فالعلاقة بين الله والإنسان هي ذات العلاقة فيما بين “الأبدية-والصِّفْر”؛ إلا أن الإنسان “صفرٌ” بحيث إذا وضعت (أ) لفظ الجلالة على يساره أصبح “10” على الفور، وتزيد قيمته أيضًا بكل صفر يُوضع بعد ذلك، وبالتالي فإن الإنسان مع أنه لا يحمل قيمة ذاتية إلا أنه يصل إلى أعلى القيم إذا ما ركن واستند إلى الله تعالى، والأهم أن يقدِّر الجميعُ وضعَهم الخاص تقديرًا صحيحًا.

   الأيام دُوَلٌ

ثانيًا: المخلصون في يومنا، الذين يؤمنون بالله تعالى إيمانًا صادقًا؛ قد يكونون محاصرين في قلب دوائر متداخلة، بعضها دون بعض، حصارًا من قبل أشخاص استسلموا للوهم والغطرسة والحسد أو أساؤوا فهمَ شعور المنافسة والتنافس، ولكن عند النظر إلى هذه اللوحة المشؤومة، لا ينبغي أبدًا الاعتقاد بأنها ستستمر وتدوم إلى الأبد؛ فتغيير هذه الصورة ليس في أيديهم ولا في أيدي القلوب المؤمنة؛ على العكس كل شيء في يد الله؛ إذ يقول سبحانه في إحدى الآيات الكريمة ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/140) فاليوم عيد بالنسبة للبعض، وغدًا عيد للبعض الآخر.. اليوم مأتمٌ بالنسبة للبعض، والغدُ مأتمٌ للبعض الآخر، هذه سنَّة الله وقانونها الإلهي، ولا أحد يستطيع أن يغير ذلك.

لهذا السبب فإن الوضع الراهن يشبه ظلام الليل؛ إذ يجب عدم الوقوع في اليأس والقنوط من خلال الاعتقاد بأن ذلك الوضع سيستمر ويدوم إلى الأبد، فلكلِّ ليلٍ صباحٌ، ولكل شتاءٍ ربيعٌ، ولا شك أن الله تعالى عونٌ لكل عبد من عباده يتحمّل ويصبر، وأبطال الصبر الذين يصبرون على ما هم فيه ويتجرّعونَ شوكَ “الصبرِ” الشائك سيرتشفون في النهاية الشهدَ بإذن الله تعالى.

وبالإضافة إلى الإيمان القاطع بأن نهارًا سيأتي بعد الليل، فإنه يجب القبول بليلية الليل وحساب الأشياء التي يمكن القيام بها في هذا الوضع، يجب التفكير في حلولٍ من أجل تقصير الليل بقدر المستطاع، والانتقال بسرعة إلى النهار، لأنه وكما أن هناك طائفة من الأعمال تنجز نهارًا، فإن الليل أيضًا له ظروفه الخاصة به التي يجب الاستفادة منها، وأيًّا كان التوقيت ليلًا أو نهارًا، يجب أن يؤخَذ المستقبل بعين الاعتبار عند وضع الخطط، وليس النظر إلى الوضع الراهن فحسب؛ فلا الليل مستمرٌّ ولا النهار، ويجب على من يعيشون النهار ألا ينسوا أن ليلًا ما سيأتي، وعلى من يعيشون الليل أن نهارًا ما سيأتي من بعده، ويجب عليهم أن يتحركوا وفقًا لهذا.

لنفترض أنكم تعيشون نهارًا مشرقًا وضاءً، و-باعتباركم قلوبًا نذرت نفسها لله- تركضون في نشوة وفرحة في سبيل نشر إلهامات روحكم في ربوع الدنيا؛ فتقيمون أسواقًا ومعارض في كل مكان، وتعرضون القيم الخاصة بكم، سواء قبِلها الآخرون أو رفضوها بإرادتهم الحرة؛ فهذه مسألة أخرى، ولكنكم تعتبرون هذا واجبًا عليكم، وتخشون حساب الله تعالى إياكم إذا لم تؤدوا هذا الواجب، وأثناء القيام بهذا يجب أن تكون لديكم خطط وإستراتيجيات لليلٍ يعقب النهار بالتأكيد، لأنه منذ أن خُلقت الدنيا والبشريةُ لم تنجُ من المتمردين والظالمين والملحدين، عليكم ألا تنسوا أن مثل هؤلاء الأشخاص يكمنون مستعدين لكم في أماكن معينة سيهجمون منها عليكم بمجرد حصولهم على الفرصة، وبهذه الطريقة لا تنخدعوا بضياء النهار وتعيشوا فرحين فخورين، ولا تستسلموا لظلام الليل ويلفَّكم الذعر.

لقد ربط الحق تعالى حتى عباداتنا وطاعاتنا كالصلاة والصوم والحج والزكاة والأضحية بمواقيت معينة؛ إذ من الواضح للجميع مواقيت الصلوات التي سيؤديها المؤمن خلال اليوم، فصلاة الصبح تُؤدّى في وقت السحر، والظهر والعصر تؤديان خلال النهار، والمغرب بعد غروب الشمس، والعشاء بعدها على الترتيب المعروف، بل إن النوافل مثل صلوات: التهجد والضحى والأوابين قد حُدّد لها مواعيد ومواقيت، ومثلما ربط الله تعالى سنواتنا وشهورنا وأيامنا بتقويم هكذا، فيجب علينا نحن أيضًا أن نحدد بصورة واضحة واجباتنا التي يلزم فعلها بحسب ظروف المرحلة الزمنية التي نعيشها، وفي هذا الصدد يجب على كل مؤمن أن يعمل كالخبراء العاملين في مؤسسات تحليل الأفكار والآراء، والمراكز الإستراتيجية، وأن يخطط بشكل جيد للغاية لحياته وحياة أسرتِه في المقام الأول، ثم يحدد كيف له أن يؤدي الواجب اللازم في المجتمع الذي يعيش فيه، عليه أن يُشغّل العقل والمنطق والمحاكمة العقلية التي منَّ الله تعالى عليه بها تشغيلًا كاملًا، وأن تكون له خطط ومشاريع مستقبلية، وعليه أن يُنتج باستمرار أشياء تفيد المجتمع والإنسانية.. باختصار: يجب أن يكون في نشاط وفعالية دائمة، وإلا فإنه يصدأ كالآلات العاطلة ويتعفن، ويصبح غير صالح للعمل.

   الإعلان عن سرِّ الحركة الدائمة

من جانب آخر فإنه يجب كشف ومعرفة سر الحركة الدائمة، أيًّا كانت ظروف المرحلة الزمنية المعيشة، من المهم للغاية تحديد إستراتيجيةٍ للحركة والعمل الصحيح عبر التفكير دائمًا في “ماذا يمكن أن نفعل الآن؟” سواء في النزول إلى الأسفل، أو في الصعود إلى الأعلى.. الشيءُ المهمّ هو القدرة على التحرك وفقًا للوضع دون توقف أبدًا، فأحيانًا تهرولون مثل “الهرولة” التي تحدث في جزء من السعي بين الصفا والمروة، وتستمرون في الركض، وأحيانًا أيضًا تواصلون طريقكم بخطوات وئيدة بطيئة كما هو الحال في الجزء الآخر من السعي، وإن لم تستطيعوا مواصلة السير بسبب الازدحام فإنكم تبدؤون في القفز مكانكم، ويكونُ حتى انتظارُكم نشطًا فعالًا، ولكنكم لا تتوقفون عن الحركة أبدًا.

إن تتوقفوا تنهاروا وتسقطوا، وحين تفقدون حركتكم تنكبون على وجوهكم، وتنجرفون لقوة جاذبية خطيرة وتبدؤون في التآكل بسبب الاحتكاك، وتذوبون وتختفون، ولكنكم إن لم تتوقفوا وتابعتم الحركة باستمرار فسوف تحافظون على حياتكم وحيويتكم، وستتحركون في تناغم مع الوجود، وتدورون باستمرار حيث أنتم دون أن يثنيكم عن ذلك ليلٌ ولا نهار، هذا سُنَّةٌ وضعها الله في الكون، والإنسان أيضًا تابعٌ لقوانين العالم الطبيعي في جانب ما.

وحاصل الكلام إذا واصلتم الحركة والعمل ظللتم صامدين دائمًا بإذن الله، وإذا تركتم أنفسَكم لليأس والكسل والراحة والدعة، وأصبحتم راكدين انهرتم وتعثّرتم في الطريق، وإذا ألقيتم نظرة استقراءٍ على التاريخ يمكنكم أن تروا العشرات من هذه الأمثلة، فعندما دخلت المجتمعات والدول في فترات الركود، وبدؤوا يقضون الوقت في القصور، ويُسلمون أنفسهم للراحة والفتور بدؤوا ينمحون ويزولون من صفحات التاريخ، أما المجتمعات التي تحافظ على حماسها وصفائها وتخلق مركز جذب بجهودها ومساعيها فقد اجتذبت إليها الكيانات الأصغر والأضعف، كما أنها نالت الصمود والبقاء.

***

[1] صحيح مسلم، الجنة، 46-48؛ سنن الترمذي، المناقب، 124.