التوجّه إلى القرآن الكريم وسبل الاستفادة منه

التوجّه إلى القرآن الكريم وسبل الاستفادة منه
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: كيف نقيم علاقةً سليمة مع القرآن الكريم؟ وكيف نستفيد منه بشكلٍ صحيحٍ؟

الجواب: أوّل ما ينبغي فعله في هذا الصدد هو النظر إلى ماهيّة العلاقة التي كان يقيمها جيلُ الصحابة رضي الله عنهم وهم أول المخاطبين بالرسالة الإلهية مع القرآن الكريم، فإلى جانب الأهمية البالغة التي أبداها هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم لتلاوة كتاب الله فقد كانوا يعملون على فهم مضمونه ومعناه، وتطبيق ما يفهمونه في حياتهم المعيشيّة، كما سعَوا سعيًا حثيثًا للكشف عن مراد الله تعالى بواسطة الوحي الإلهي، وفي الوقت ذاته بذلوا جهدًا خارقًا لجعل القرآن مصدرًا ثقافيًّا وحضاريًّا تستفيد منه البشريّة بأسرها، وبفضل هذا الارتباط الوثيق بالقرآن الكريم قدّموا أنسب تمثيلٍ وأقربه لمراد الحقّ تبارك وتعالى.

الكشف عن المراد الإلهي

يجب أن يكون الهدف الأساس للمؤمن والغاية المثلى له هو البحث والتفتيش والتحرّي عن المراد الإلهي والعيش وفقًا له، والسبيل إلى ذلك هو القرآن الكريم، لقد علَّمَنا ربُّنا سبحانه وتعالى بواسطة الوحي الإلهي الكيفيةَ التي يجب أن نكون عليها أفرادًا ومجتمعات، وبيَّن لنا في كتابه الجليل خصائصَ أهل القرآن وخاصّته، وهي خصائص لا سبيل إلى اكتسابها إلا بالفهم الصحيح للقرآن الكريم، والتحرّك وفقًا لرضا الله تعالى ومرضاته في المشاعر والأفكار، وحبِّ العلم والبحث، والحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك فإن الوظيفة التي تقع على المؤمن هي إمعان النظر في الرسالة التي يريد الله تعالى أن يقدّمها لنا من خلال آياته، وإعمال الفكر فيها، فنظرًا لأن الصحابة رضوان الله عليهم أحسنوا فهم القرآن وتمثيله صاروا قدوةً لجميع الناس حتى يوم القيامة.

لكن الشكليّات التي جاءت واستقرَّت في حياة المسلمين مع مرور الوقت قد أثَّرت في علاقتهم بالقرآن الكريم، فقد صار القرآنُ معجزُ البيانِ الذي من شأنه أن يكون روحًا للحياة كتابًا يُكتفى منه بتلاوة ألفاظه، ويُحترم احترامًا صوريًّا، ويُرجى منه البركة، ويُقرأ على الموتى، ويُتفاءل به ليس إلا.. ولا أقول أن هذا بحدِّ ذاته خطأ، لكن القرآن هو كتابٌ مقدَّسٌ حريٌّ بأسمى تقدير وتعظيم، وكما بين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مَن يقرأ منه حرفًا له عشر حسنات، والمسلم يؤمن ببركة القرآن وفيوضاته، ففي نظره أنه لو كان للجبال أن تُسيَّر لكان بالقرآن، ولو كان للأرض أن تُقطّع لكان بالقرآن، وهذا مظهرٌ من مظاهر احترام المسلم للقرآن، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ (سورة الرَّعْدِ: 13/31).

ومع هذا فلو كان احترام ألفاظ القرآن يمنع الإنسان من فهمه وسبر أغواره فهذه مشكلة، فيجب على المسلم -إلى جانب تلاوة القرآن واحترامه- أن يحرص دومًا على فهمه وتطبيقه ومعايشته، إن المراد الإلهي من نزول القرآن هو قراءته والتدقيق فيه مرارًا وتكرارًا بقصد الفهم. أجل، إن القرآن هو رسالة الله إلينا، فمتى حسُن فهمُ هذه الرسالة استطاع المؤمن أن يؤدّي عبادته لربّه بشكل صحيح وأن يقرأ حقيقة الإنسان وكتاب الكون قراءة سليمة؛ لأن القرآن هو الترجمة الأزليّة لكتاب الكون، والقول الشارح والبرهان الساطع له، وهو لسانٌ بليغٌ يفسِّر حقائق الكون ويشرح كتاب الكون الكبير؛ ولذلك فإن ما يقع على عاتقنا هو أن نأخذ بياناته أساسًا لنا، ونحاول قراءة الكون بهذا المنظور.

قد نضع المصحف في حلّةٍ مخمليّة، أو نعلّقه في أرقى مكانٍ بغرفة النوم؛ التماسًا للكرامة والبركة منه، أنا لا أمانع هذا كله؛ لأن هذا تعبيرٌ عن توقيرنا لكتاب الله عز وجل، ولكن يجب ألا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، أي علينا ألّا نختزل احترامَنا لكتاب ربنا سبحانه وتعالى في مادّته وشكله وألفاظه، فهذا احترامٌ قاصرٌ.. المهمُّ هو الاستفادة من اللآلئ التي يمدّنا بها، والانفتاح على حقائقه، بل إن الاحترام الشكلي للقرآن لا يعبّر عن قيمة حقيقية إلا بالانفتاح على القيم الكامنة فيه والارتباط بها، أما هذا الاحترام الشكلي إذا تم فصله عن معنى ومحتوى القرآن فلا يعني الكثير، أنا لا أقول: إنه لا يعني شيئًا، إنما أقول: لا يعني الكثير.

إن السلف الصالح قد قرؤوا القرآن بغيةَ فهمه، ووقفوا على مراميه ومقاصده، وساروا على هديه، وهذا هو السبيل الحقيقي لتوقير القرآن واحترامه، ولكن عندما أصبح الناس مبتذَلين جاهلين سطحيّين وابتعدوا عن دراسة الأوامر التكوينية بدؤوا في الانفصال عن القرآن، وظلّ الاحترام للقرآن مجرّد ثقافة، وتمّ التعامل مع جانبه الشكلي فقط، مع إهمالٍ وضياعٍ للمضمون.. لقد بات المسلمون اليوم لا يعرفون مرادَ الله تعالى منا، ولا يحاولون فهم المقاصد الإلهية، ولا يُعمِلون فكرهم فيما نزل القرآن من أجله، وهو المستوى الذي ينبغي للمسلمين أن يصلوا إليه، فعلى كلِّ فردٍ منّا أن يدلفَ إليه من خلال الآفاق التي أتاحتها لنا مجالات تخصّصنا على وجه الخصوص، وأن يعمل على قراءته وفهمه من جديد.

التوجُّه إلى القرآن من صميم القلب

أجل، القرآن رسالةٌ نورانيةٌ من الله لنا، فلا بدّ من إدراكه على هذا النحو، والتوجّه إليه على هذا الشكل، إن القرآن هو مصدر نورٍ ورحمةٍ وهدايةٍ للجميع، ولكنّ كلَّ إنسانٍ يستفيد منه على قدر توجّهه، فكلّما زاد الاهتمام بالقرآن والتركيز فيه والتوجّه إليه بإخلاص زادت الاستفادة منه، ففي كلّ قراءةٍ للقرآن يخبرنا بشيءٍ جديد، ويُجري على قلوبنا ألطافًا جديدة، أما تلفُّظ بعض كلمات القرآن رجاء ثوابها فلا يُقال عنها قراءة القرآن بحقّ أو كما ينبغي.

ولنتذكّرْ جيّدًا عند قراءة القرآن أننا نقرأ كلام الله تعالى، ولذلك لا بدّ من قراءته على أساس أنه لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وأن نقرأه بتركيزٍ تام، فإن فعلنا ذلك كشف لنا القرآنُ عن خزائنه، وأبان لنا عن حقائقه المهمة، فإن لم يتحقّق هذا التوجّه القلبي فقد يُمتَحنُ الإنسان حتى عند قراءة القرآن، فيدخل في دائرة النفاق اعتمادًا على كلامه النفسي وتأويلاته الشخصية، وينقاد إلى الكفر دون وعي.

لا يوجد قصورٌ أو نقصٌ في كلام الله الأبدي النابع عن علمه الأزلي، فإن بدا للإنسان وجود نوعٍ من القصور فهذا يعود إلى ضحالة فكرِهِ وقصور توجُّهه إلى القرآن، إنكم مثل زهور عباد الشمس كلما توجهتم إلى القرآن استفدتم من فيوضاته وشعاعاته وألوانه، فإن أعرضتم عنه ونأيتم بجانبكم انغلق أمامكم وحُرِمتم من كل هذا.

وثمة شيءٌ كثيرًا ما أكّدْنا عليه، وهو أنّ مَن يفهمُ القرآن ليس المتحدّث باللغة العربية، بل القريب من ربه، فكثيرٌ من العلماء قرؤوه حتى اليوم، لكنهم لم يستطيعوا الاستفادة منه بسبب الانحراف في وجهات نظرهم، فغاصوا في بحرٍ لجّيٍّ، ثم خرجوا منه دون أن يستطيعوا حتى ملْءَ دِلائهم، بينما القرآن عند الكثير من الأمّيين تُمثّل القطرةُ منه بحرًا زاخرًا، إن المستشرقين يقرؤون القرآن أكثر من بعض المسلمين، ولكن لأنهم أقبلوا عليه ناقدين، واعتبروه -حاشا وكلّا- من كلام البشر لم يتمكّنوا من فهمه؛ لأن القرآن -لو جاز التعبير- غيورٌ، لا يُلقي بجواهره بسخاءٍ لمن لم ينفتِحْ عليه بسخاء، إن القرآن ينتظر من يحترمه ويتوجّه إليه ويُقبل عليه بصدرٍ رحب، ومن يقدر على ذلك يجد في القطرة منه بحرًا زاخرًا.

عالمية القرآن الكريم

لقد أحسن السلفُ الصالحُ الاستفادةَ من القرآن الكريم، فأخذوا منه كلَّ ما يعنيهم في حياتهم الفرديّة والأسريّة والاجتماعية والدنيوية والأخروية، فلو عمل الإنسان بالأحكام التي استقاها من القرآن الكريم حتى اليوم وأخلص في عمله لَنالَ رضا الله وفاز بالجنة إن شاء الله، ولكن لا يعني ذلك استحالة استنباط أحكام جديدة من القرآن، بالعكس هناك العديد من الآيات المباركات تسوقنا إلى التفكّر والتأمّل والتدبّر والتذكّر، وتوصينا بعمق التفكّر في كتاب الله عز وجل، والتوغّل في أعماقه، وأخذِ العبرة منه، والعمل على اكتشاف روحه مرة أخرى.

فضلًا عن ذلك إننا كثيرًا ما نواجه في حياتنا مشكلات وحوادث جديدة كلَّ يوم، فمن ينظر إلى القرآن من نافذة الحقبة الزمنية التي يعيشها والتجارب التي يخوضها يجد في القرآن الإجابات التي يبحث عنها؛ فقد لفتَ القرآنُ الكريم أنظارَنا إلى سبل الحلِّ لكل الحوادث الكلية والجزئية التي ستجري حتى يوم القيامة، إن لم يكن بالتصريح فبالتلميح، وإن لم يكن بالعبارة فبالإشارة، لأنه صادر عن علم الله الأزلي، ويمكنكم إدراك ذلك عند توجّهكم إليه بقلبٍ خالص، ولهذا فما زال نصيبُكم منه محفوظًا بغض النظر عما نهله السابقون، فلو أنكم توجّهتم إليه باهتمامٍ بالغٍ فستنالون أنتم أيضًا نصيبكم منه، أما إن تعاملتم معه بتكبرٍ واستغناء فسيغلق ستائره دونكم.

فلو أحسن الإنسان قراءته للقرآن فله بكل حرف عشر حسنات، فإن داوم على قراءته بتفكُّرٍ وتدبُّرٍ فعسى أن يصل هذا الثواب إلى عشرة آلاف حسنة.. ولذلك فمِنْ دنوّ الهمة الاكتفاء بقراءة القرآن لفظًا وشكلًا مع وجود مثل هذا الطريق المحفوف بالثواب والبركة، لذا فعلى الإنسان أن يقرنَ القراءة بالتدبُّر، وأن يسعى إلى الإحساس بكلّ كلمةٍ يتلوها، فإذا كان لا يعرف العربية فعليه أن يستعين بتفسيرٍ يفسّر له معاني القرآن الكريم، وأعتقد أن الإنسان لو فهم إجمالًا المعاني التي تعبّر عنها الآيات التي يتلوها فسيشعر بحلاوةٍ لا سبيل إلى تصوّرها، لأنه لا يمكنكم أن تتصوّروا ما يمنحكم الله تعالى إياه من أفضالٍ وألطاف عظيمةٍ إن أعلنتم إجلالكم وتعظيمَكم لكتاب ربكم واحترامَكم له وتوجّهَكم إليه وإقبالَكم عليه بأعينكم وقلوبكم.

جيل القرآن

إذا أردنا أن تكون علاقاتنا مع الله والكون كما ينبغي؛ فيجب أن نتطلّع لأن نكون من جِيلِ القرآن الحقيقي، ومن أهم ما يميز هذا الجيل هو أنه يقف بين يدي الله بالشكل الذي يريده الله عز وجل، ويسعى إلى إقامة مراد الله على الأرض؛ بتعبير آخر: يقوم بتمثيل حقائق القرآن وتبليغها، فهؤلاء هم الذين جعلوا القرآن روحًا لحياتهم، أيما نظرتَ إليهم وجدتَ حقائق القرآن تنساب من بين جنباتهم، ورأيتَ آثار القرآن في أعمالهم وسلوكياتهم وأقوالهم وتقريراتهم وعباداتهم… إلخ، إذا رأيتهم ذكرتَ الله. أجل، إنهم يذكِّرونك بالله تبارك وتعالى لا بالدنيا وسلطنتها، ولا باللهو والعبث.

إننا نعاني من جفاف شديد في فهم القرآن ومعايشته، فلقد اغتربنا وابتعدنا عن القرآن، مما أدى إلى اغترابنا عن قيمنا الذاتية وثقافتنا، ومن ثَمّ يجب أن نعمل على تبليغ الأرواح هذا البيان الإلهي مرة أخرى، وهذا يتطلّب منا استغلال كلِّ الوسائل والإمكانات المتاحة أمامنا، فمثلًا شهرُ رمضان فرصةٌ جميلة ينبغي ألا نكتفي منها بختم القرآن شكليًّا فقط دون التعرّف على مقاصده ومراميه، ويمكن الاستعانة بأحد التفاسير لفهم معاني الآيات، وبذلك نضمن أن يفهم المسلمون معنى ومضمون آيات هذا الكتاب الجليل الذي أرسله الله إلينا، فإن تكرّر هذا الأمر كلّ عام فأعتقد أن ثقافة قرآنية ستتشكل لدى عوام الناس أيضًا، وسيعرفون مكانهم من كتاب ربهم، ويشعرون بعمق أكبر في وجدانهم.

الخلاصة، يجب أن نثير في الناس حسَّ العشق والشوق إلى القرآن؛ وذلك بأن نُعلّم قراءة القرآن لمن لا يعرفون، ونوضح معاني القرآن لمن يقرؤونه، ونتذاكر القرآن بعمق أكبر مع المتقدمين في المستوى، بل لا نكتفي بالحديث عن القرآن لروّاد المسجد فقط، بل لا بدّ أن نفتّش عن سبل للوصول إلى من ابتعدوا أو أُبعِدوا عن المسجد بشكلٍ ما، يجب أن نعدّ البرامج التليفزيونية ونعقد الندوات لهذا الغرض، ونحمل كل هذا إلى قاعات المحاضرات في الجامعة، ونبذل وسعنا ليستفيد الجميع من نور القرآن الكريم، يجب أن نبادر إلى تعبئة جادة من أجل القضاء على البرودة واللامبالاة التي يشعر بها البعض تجاه القرآن الكريم، وإنقاذ القرآن من أن يكون ضحيةَ الأنماطِ وحبيسَ الشكليات.