الجَرَّة المشروخة: الموقف المتوازن

الجَرَّة المشروخة: الموقف المتوازن
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   سؤال: كيف يكون موقفُنا إزاء من يسيئون إلى قيمنا الذاتية التي نؤمن بها ونحترمها؟

   الجواب: بدايةً يلزم التنبيه إلى أن الوقت بالنسبة للمؤمنين ذو قيمةٍ بالغة؛ مما يستدعي استغلاله على الوجه الأمثل وعدم إهدار أي جزء منه؛ لأن صرْفَ الوقت فيما لا طائل منه يدخل ضمن الإسراف الذي حذَّر ربُّنا سبحانه وتعالى منه بقوله: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/31)، ولقد نوّه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيمة الوقت بقوله: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ“، فعلى المؤمن أن يحتاط للأمور التي يقضي فيها وقته، وألا ينشغل فيما لا طائل منه، وأن يتجنّب -بقدر الإمكان- الأمورَ التي تُشتّت ذهنه وفكره.

ولا شك أن مراعاةَ هذا الأمر، والعملَ على تنقيح الفيديوهات والمقالات المتاحة للمشاهدة والقراءة، والاستعانةَ بالوسائل التي تخدم مصالحنا وتفتح آفاق فكرنا وتُثري فلسفتنا وإستراتيجياتنا الخدمية؛ قد صار له أهمية أكبر، وخاصة في أيامنا التي ذاعت فيها وسائل الاتصال وانتشرت وأصبح بوسع كل إنسان أن يكتب ما يشاء ويتحدث كما يريد.

   ترك ما لا يعنينا

ويا ليتنا نجد وسيلةً -بمجرد الضغط على زر الإنترنت أو التلفاز- نصل من خلالها إلى برامج معيّنة تعود بالنفع على مصير أمّتنا، والوضع العام لعالمنا الإسلامي، ومستقبل الإنسانية؛ حتى نتمكن من تجنُّبِ ما لا جدوى منه، وما قد يُسبب في تشتُّتِ أفكارنا أو تلوّثِ أذهاننا بلا داع، ففي الحديث الشريف يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موصيًا المؤمن بالدقة والحذر في هذا الأمر: “مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ[1].

وكلمة “مَا لَا يَعْنِيه” الواردة في الحديث الشريف تعني الأمور الفارغة غير الضرورية التي لا يمكن أن تمثِّل غرضًا ومقصدًا أساسيًّا بالنسبة للإنسان، والتي لا تعود بالنفع على حياته الدنيوية أو الأخروية، فيجب على الإنسان أن يتجنب مثل هذه الأمور، ويهتم بالأشياء النافعة فقط؛ لأن لكل إنسانٍ قدرات محدودة، وما يقع عليه هو أن يستغل تلك القدرات في الأمور المناسبة التي تجلب النفع له، أما لو انشغل بالأمور التي لا تعنيه بشكل مباشر يتشتت ذهنُه وتخور قواه، ونتيجة ذلك يفقد تركيزه في الأمور التي يجب أن يكثِّف فيها فكره وذهنه.

من جانب آخر فلو شَغَلْنا أنفُسَنا أكثر من اللازم بما يتفوّه به البعض من وقاحات حول الأمور الدينية وسفاسف الأمور؛ فإنّ ذلك سيعود علينا بالسلب فيما بعد؛ كأن نشرعَ بالحديث فيما بيننا عن كلِّ ما نسمع به، وننشغل بمثل هذه الأمور التافهة بلا داع، وبعد فترة قد نتورط نحن كذلك في الأمر نفسه ونأخذ في الحديث بوقاحة حول مثل هذه الموضوعات دون شعور.. فإذا كانت كثرةُ الضَّحِكِ -كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- تُميت القلب فإن مثل هذه الأشياء تتسبّبُ بِجرْح غائر في حياتنا الروحية والقلبية، ولهذا فإن المعيار في هذا الأمر هو الاشتغال بالموضوعات التي تَزيد من عشقِنا وشوقِنا وشَدِّنا المعنوي إزاء ديننا وتديُّننا.

إن الاشتغال بهذه الأمور التي تعارض مبادئنا الأساسية لا يرجع بأي فائدة، بل إنه يعود علينا بالضرر، بأن نشهد الظلم ونستمع إليه دون داعٍ؛ لا سيما إن لم نكن في موقع يؤهلنا للتصويب أو الردّ بمعقولية على هذه الأحاديث والبيانات.

من جانب آخر يجب على الذين يتحدّثون في الأمور الدينيّة خاصَّةً أن يتوخَّوا المزيد من الحذر، وذلك بأن يستعدوا ذهنيًّا قبل الحديث، ويتحرَّوا الدِّقَّـةَ والعنايةَ بالمسألة التي سيتحدثون فيها، حتى يمكنهم أن يعبروا عن مقاصدهم بشكلٍ صحيح، أما الحديث ارتجاليًّا، واستخدامُ عبارات مهلهلةٍ مهترئةٍ فلا تفيد الناس ولا تنفعهم في شيء، لا سيما إذا كان الحديث يدور حول أمور تتعلق بالدين أو يعني شريحةً كبيرةً في المجتمع، فمثل هذا الأمر يتطلب المزيدَ من العناية، والحفاظَ على الجدِّيَّـةِ، وتحاشيَ البيانات التي قد يُستَفادُ منها فهمًا خاطئًا، وتَمثُّلَ الأفكار المستقيمة على الدوام.

   الصبر والتحمل

ومن جانبٍ آخر فليسَ واجبًا على المؤمن أن يردّ على كل كلمة تُقالُ حول القيم التي يؤمن بها ولا على البيانات التي تُسِيءُ إليه مباشرة، ولا أن ينشغل بإعداد الردود على الدوام.. وإنما الواجبُ حيال هذا الأمر أن نهتديَ بهديِ القرآن الكريم، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (سُورَةُ النَّحْلِ: 16/126).

وعلى هذا المنوال جاءت أفعالُ نبيِّنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فعندما شَتَمَ رجُلٌ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ، فقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ[2].

   الردّ بتوازنٍ ومعقوليةٍ

ولكن رغم أنه ليس من الصواب الرد على كل الكلمات والبيانات التي تسيء لنا حيث قد يؤدي هذا إلى ضرر أكبر؛ إلا أنه من الواجب على الذين هم في موقع يؤهِّلهم لمخاطبة الآخرين والرد عليهم أن يقوموا بما يقع على عاتقهم ويتناولوا ما قيل بالتصحيح والتوضيح، ضمن المعايير والأُطُرِ الواجب مراعاتها.

ومن ذلك ألا ينساقَ الإنسانُ خلفَ مشاعره في هذا الأمر، وألا يتكلّم ساعة الحِدّة والغضب، وإلا أخطأ خطأً فادحًا في حين أنه لا يقصد إلا مجرّد الردّ، إذ إنّ الانسياقَ وراء المشاعر والبحثَ عن البدائل لإشباع الرغبة في الردّ على كلام الآخرين يوقعُ صاحبه في تصرّفاتٍ تفضي إلى الكثير من الأخطاء، وهذا يعني ضرورة تحرّي الحيطةِ والحذرِ، وألا نخرجَ عن طَورِنا، ونتحيّنَ الأوقات التي نكون فيها هادئين متيقظين، ثمّ بعد ذلك نقول ما نقول.

وهذا يعني أن الأمر لا يتحمّل العجلة، وأنه لا بدّ من التريُّثِ في الأمر، والتفكيرِ فيه مرة بعد أخرى، وخاصة إذا كان المخاطَبون يتميَّزون بالحدَّة والعصبيَّة.. وإذا توفَّرت لكم إمكانية الردّ فلا تردوا فورًا، بل رُدّوا بعد ذلك.. وكما أن الطعام لا يُبلَع إلا إذا مضغناه جيّدًا فكذلك الكلامُ، يجبُ أن يُمضغَ جيِّدًا في بوتقة الفكر قبل أن يَخرج، وكما أننا إذا ابتلعنا طعامًا دون مضغه تضرّر حلقومُنا أو معدَتُنا؛ فكذلك إذا تفوهنا بكلامٍ دون أن نصفّيه بمصفاة العقل والفكر فقد يُسبِّبُ مشاكلَ وأضرارًا لدى عقول الآخرين، بل ربما تُفهَم آراؤنا البديعة وأفكارنا الرائعة بشكلٍ خاطئ، ليس إلا لأننا لم نحسن تقديـمها للآخرين.

وإذا كان الردُّ ارتجاليًّا فإن القلّة القليلة من الناس هي التي تُحسِنُ التعبير عن مقصدها؛ ولطالما شاهدنا كثيرًا من الناس حولَنا عندما تُتاحُ لهم فرصة الردّ فإنهم يرتكبون مجموعةً من الأخطاءِ ولا يهتمّون سوى بتجريح من أمامهم فقط؛ مما يعني أن الردَّ الصحيحَ أمرٌ لا يستطيعه الجميع، ولذلك يجب قبل الشروع في الكلام أو الكتابة للرد على الآخرين من التأمل والتدبّر والتذكّر.

   التزام اللطف واللين في الأسلوب

من جانب آخر لا ينبغي لنا أن نثير مشاعر الحقد والكره لدى الناس ونحن نرغب في تصحيح أخطائهم وتصويبها والردّ عليهم، وأن نتجنب التصرفات الفظة الغليظة، وأيًّا كان مخاطبُنا فعلينا ألا نُفسد أسلوبَنا، وألا نتنازل عن شخصيّتنا وما تُمليه علينا، ومهما تحدّثَ هؤلاء بطيش دون روية ولا توازن فينبغي ألا يدفعُنا طيشُهم ذلك إلى الطيش أيضًا؛ إذ يجب أن يكون التحرك المتوازن والمعتدل صفةً لازمة فينا لا تفارقنا.

وفيما يتعلق بهذه المسألة ثمة واقعة خاصة بالأستاذ بديع الزمان؛ إذ يُروى أنه زاره ذات يوم صحفيٌّ كان يرسم الرسوم الكاريكاتيرية ضده، فأحسن الشيخ إليه كثيرًا، وبينما كان ذلك الصحفي يغادر قام الأستاذ بتوديعه بأدب واحترام لائق، فانزعج طلابه قليلًا من تصرفه هذا، ولم يكن انزعاجهم هذا نابعًا من عدم إعجابهم بتصرف أستاذهم، ولكن لكونهم يغارون عليه بشدة، ولما كان الشيخ قد فطن إلى مشاعر طلابه هؤلاء فقد بادر بشرح الأمرِ لهم قائلًا: “إن كان لكم مائة عدوّ أفلا تحبّون أن يقلّوا واحدًا فيصبحوا تسعةً وتسعين؟”.

أجل، هذا هو الجانب المنطقي من المسألة، فلا أحد يرغب في أن يزيد أعداؤه المائة فيصبحوا مائة وواحدًا. لكن كل شخص يُسرُّ من تناقص عدد أعدائه؛ وعليه ينبغي العمل على تحقيق ذلك.

الواجب علينا أثناءَ الردِّ ألا نُغضب أحدًا على الإطلاق ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا؛ إذ يلزم ألا يدفعُنا حبُّنا لمسلكنا إلى القيام بسلوكيات عدائية تجاه الآخرين، كما ينبغي للآخرين حين يمحصون كلامنا أو كتاباتنا بضمائرهم النقية أن ينصفونا على الأقل، أو يتكلموا عنا بإيجابية عندما يُسألون.

هناك مجموعة من الطرق والمسالك تصل المشاعر والأفكار عبرها إلى الآخرين، فإن دفعتم الناس إلى الخشونة والفظاظة عرّضتم سلامة تلك الطرق للخطر، فإن كنتم ترغبون في تأمين مسار الطريق الذي تسيرون فيه وألا تتسببوا في أية مشكلة مرورية؛ وَجَبَ عليكم بقدر الاستطاعة أن تلزموا القول اللين، وأن يكون مبدؤكم هو الحال اللين والقول اللين والسلوك اللين.

فهذا بندٌ مهمٌّ من بنود ديننا الحنيف؛ ذلك أن الله تعالى حين أرسل كلًّا من موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون طاغوتِ عصرِه الخطيرِ المفزِعِ أمَرَهما أن ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ۞ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (سورة طَهَ: 20/43-44) ولما كانت كلمة “لعلّه” الواردة في الآية الكريمة تفيد “الترجّي” فلنا أن نفهم أن المراد هو: إن كنتم ترجون أن ينتصح فرعون ويلين ويشعر بالخشية والخوف فإن القول اللين هو سبيلكم الوحيد إلى تحقيق ذلك.

ولا سيما أن الليِّنَ من القول وطيّبَه هو اللغةُ المشتركة التي يستخدمها متطوعو الخدمة الذين انفتحوا على شتى أرجاء العالم سعيًا إلى تحقيق غايتهم المثالية حيث يتقابلون أينما ذهبوا مع أناس نشؤوا وتربّوا في بيئات ثقافية مختلفة.. وبتعبيرٍ آخر طالما استخدمناه في مناسبات مختلفة: عليهم أن يوفّروا مقاعد للجميع في قلوبهم.. وقد يُسقِط هذه المقاعدَ أحيانًا بعضُ من يخالفونهم أو يناصبونهم مشاعر العداء عبر تصرفاتهم وسلوكياتهم، ومع هذا ينبغي لمتطوعي الخدمة أن يصفحوا إرضاءً لله تعالى ورسوله الكريم عما يُرتكب بحقهم من مساوئ وشرور، وألا يُقابلوها بمثلها، بل ينبغي أن يجد أعداؤهم -حين رجوعهم لهم- العوالم القلبية والروحية لديهم مفتوحة للجميع كما تركوها من قبل؛ فكما أن الخشونة والفظاظة تغلقان أبواب الأصدقاء، فإن اللين والرفق يفتحان أبواب الأعداء.

وهنا يجدر بنا أن نتذكر موقفًا حدث بين “مصعب بن عمير” و”سعد بن معاذ” رضي الله عنهما؛ حيث أرسل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة ليعلم الناس الإسلام، إلا أن البعض هناك أثاروا ضده سعدَ بن معاذ زعيمَ قبيلة “الأوس”؛ فقالوا له إن مصعبًا يشتت أذهان الناس، ويُهاجم مقدساتهم.. فثارت ثائرةُ سعد مما جعَلَهُ يتقلّد سيفَه، ويتجه مباشرة إلى مصعب بن عمير، ولما وصل إلى مصعب هدده بالقتل أو الرحيل، وقال له: مَا جَاءَ بِك إلَيْنَا تُسَفِّه ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلنا إنْ كَانَتْ لَك بِنفسِك حَاجَةٌ”؛ وبالرغم من أن مصعبًا كان لا يزال شابًّا غضًّا طريًّا في العشرين من عمره، إلا أنه تصرّف بلينٍ ونضجٍ وهدوءٍ ولباقة، فقال مخاطبًا سعدًا: “أَوَتَجْلِسُ فَتَسْمَعَ؟ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ؟”، وبعد أن سمعه سيدنا سعد رضي الله عنه تغيّر فجأةً وقال: “مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ!”، ودخل في الإسلام[3].

أجل، يجب أن يكون اللين والوداعة شعارَنا الذي يستحيل أن نتخلى ونتنازل عنه في أي وقت على الإطلاق، وحتى وإن أكسَبنا أنفسنا بعض الأشياء عبر الغضب والشدة والصياح والصراخ فإننا لا نستطيع أبدًا أن نعبّرَ عن أنفسنا بهذا الشكل، والأهم من ذلك أننا بفعلِنا هذا سنعجز عن تحبيب الناس في سيدنا رسول الله والتعريف بالله تعالى، كما أن الناس سينحرفون إلى الضلال والكفر لعجزهم عن معرفة الله ورسوله كما يجب.

وإذا نظرنا إلى المسألة من منظور أوسع وجدنا الإنسانية كلها تحتاج إلى التسامح والحب واللين أكثر من أي وقت مضى؛ لا سيما في زمن سباق الدول إلى التسليح، وإلى أسلحة الدمار الشامل كالنووي والهيدروجيني، ولقد أصابَ الفيلسوف الإنكليزيّ عندما قال: إنه في حال قيام حرب عالمية ثالثة سوف يذهب القتلى إلى القبور بينما يذهب القتلة إلى العناية المركزة.

   اختبار المسائل بواسطة العقل المشترك

إلى جانب كل ما تقدم يلزم أن نتجنب الوقوع في الأنانية الفردية والأنانية الجماعية أثناء أحاديثنا وحواراتنا على حد سواء، علينا ألا نتحدث عن أنفسنا بعبارات طنانة، وألا نحاول إسكات الطرف الآخر وإلزامه بقولنا فحسب، بل علينا أن نسعى من أجل ظهور الحق والحقيقة؛ لأن المسائل موضع الحديث إذا ما تعلقتْ بالأنانية الفردية والأنانية الجماعية أغلقت أبواب الأصدقاء أمامنا أيضًا، وليس أبواب الأعداء فحسب، وعندها يقولون كما قال الشاعر “سوزي”: “لا تتعب نفسك سدًى فالأبواب موصدة”.

إن نجاح إنسان بمفرده في النهوض بكل هذه الأمور أمرٌ في غاية الصعوبة، ولهذا ينبغي للإنسان ألا يكتفي بآرائه الشخصية فحسب، بل عليه أن يعرض المسألة على من يثق برأيهم وفكرهم، وأن يسألهم رأيهم ويستشيرهم، فإذا ما فعل هذا كانت احتمالية وقوعه في الخطإ أقلّ بكثير، حيث اختبر آراءه وأفكاره بواسطة العقل المشترك.

أجل، فإن المسألة ليست مجرّد مسألة إيمانية فحسب، وإنما هناك حاجةٌ إلى بيئة من الأمن والثقة أولًا كي يتنامى ويتطوّرَ ذلك الإيمان، ففي وسطٍ تسودُه الصراعات والشدّةُ والعنف والمناوشات والاحتكاكات يستحيل أن يُعرِّف الإنسان نفسه إلى الآخرين أو أن يشرح إليهم أمورًا تتعلق به، ربما تطمئننا مثل هذه السلوكيات نفسيًّا، ولكنها لا تجدي نفعًا لأحدٍ ألبتة.

***

[1] سنن الترمذي، الزهد، 11؛ سنن ابن ماجه، الفتن، 12.

[2] مسند الإمام أحمد، 15/390.

[3] ابن هشام: السيرة النبوية، 436.