سؤال: ما هي أدوات الشيطان الرئيسة التي يستخدمها من أجل إغواء البشر؟
الجواب: مِن حِيَلِ الشيطان الخطيرة إظهارُه الذنوب الكبيرة التي تؤدي بالإنسان إلى جهنم وكأنها هفوات صغيرة، ويتحدث الأستاذ بديع الزمان بأسلوبه الخاص عن مدى خطورة هذه الذنوب التي تبدو وكأنها صغيرة بالنسبة للإنسان فيقول: “فاحذر! وخفِّف الوطء، وخَفْ من الغَرق، ولا تُهلِك نفسك بأكلةٍ أو كلمةٍ أو لمعةٍ أو إشارةٍ أو بَقْلَةٍ أو قُبلةٍ، فتَذهب عنك لطائفُك العظيمة التي شأنُها أن تستوعب العالمين”[1]، ويمكنكم ذكر المزيد من هذا، فمثلًا تصرفاتٌ مثل الاستخفاف بالآخر، ولمزه باللسان، وعبوس الوجه أمامه للإيحاء بسوء حاله؛ ربما تبدو صغيرة بالنسبة للبعض، إلا أن مثل هذه التصرفات والسلوكيات ليست صغيرة على الإطلاق عند الله تعالى.
في الواقع تلك الأعمال التي تبدو وكأنها صغيرةٌ هي الأشد خطرًا وفتكًا؛ فعقربٌ قد يكون أعظم خطرًا من ثعبان الكوبرا أحيانًا.. لأن عدوًّا واضحًا يُشعِر بنفسه من خلال أسلوبه في المجيء وصفيره وحفيفه يسهلُ الاحترازُ منه ودفعُ خطره حتى وإن كان كبيرًا.. لكن العقربَ يأتي خلسةً متخفّيًا؛ بين اللحاف أحيانًا، وتحت السرير أحيانًا، فيلدغ في وقت لا نتوقعه أبدًا.. لذلك فإن دفْعَكم خطرَه صعبٌ للغاية، وعليه ينبغي النظرُ إلى الذنوب والآثام بهذه النظرة، والخوفُ مما قد يأتي خلسةً أو على حجمٍ صغير كما العقرب.
أهم شيء بالنسبة للمسلم هو الابتعادُ عن كل أنواع الأخطاء والآثام دون تفريقٍ بين صغير وكبير، والتضرع إلى الله تعالى دائمًا أن يَقيَنا من ذلك، وإن أردنا التعبير عن ذلك بأسلوب بديع الزمان سعيد النورسي قلنا إن هناك أشياء صغيرة تبتلع أشياء كبيرة جدًّا، فالقلب واحدٌ من تلك الأشياء الكبيرة؛ لكنه وبالرغم من رحابته التي قد تستوعب الكون كلَّه فقد يُظلمُ أحيانًا بسبب أشياء تبدو صغيرة، وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن هذا: “إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة الْمُطَفِّفِينَ: 83/14)”[2].
وبحسب شخصية كل فردٍ ووضعه فإن الشيطان يستخدم شتى أنواع الحيل والحجج ليدفع الناس إلى ارتكاب الذنوب؛ إلا أن هناك مجموعة من الأشياء لها الأولوية في استخدامه إياها ولجوئه إليها دائمًا، وهذه الأشياء في الأعم الأغلب هي ما يضعُف الناس أمامه ويستسلمون له، ويشقّ عليهم مقاومته والصبر والثبات أمامه، وفي درس “الهجمات الست”[3] يوجد حديث عن الوسائل الرئيسة التي يستخدمها الشيطان في عدوانه، يُمكن أن يُرجع أو يُضاف إليها وسائل أخرى مختلفة، لكننا سنقف على بعضها هنا.
إن حب الجاه والشهرة واحدٌ من أكثر الوسائل التي يستخدمها الشيطان كي يدفع الإنسان لمقارفة الذنوب، فرغبةُ الإنسان في الحديث والكتابة عنه دائمًا، ورغبتُه بأن يقف الناسُ لمجيئه احترامًا، وانزعاجُه عندما لا يحدث ذلك، ولهثُه وراء التصفيق والتقدير؛ مظهرٌ من مظاهر حب الشهرة.. في حين أن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم لم يرغب بذلك لنفسه وعارض هذا النوع من الحفاوة به قائلًا: “لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا“[4].
يحدثُ هذا، بينما حقُّ الوفاء لرسول الله يفرض على الجميع أن يقفوا احترامًا له إذا ما حضر، ولا أقصد بالجميع الأحياءَ فقط، بل الأحياء والأموات.. هذا هو معنى احترام النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لنا، وهذه قضية مختلفة.. أما بالنسبة للجانب الآخر من الأمر فإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف بأسلوبه هذا عن تواضعه الجمّ العميم، ويقرر مبدأً دينيًّا مهمًّا في الوقت نفسه، فمن يُسَرُّ بوقوف الناس وتصفيقهم له وحديثهم عنه يفقد ما يجب السرور منه أساسًا، ويستخدم حقه الأخروي مهدرًا إياه في هذه الدنيا الفانية.
وبالمثل، فإن حب الجسد، والذي يمكن أن نسميه شغفًا بالراحة، هو إحدى الوسائل التي يستخدمها الشيطان بشكل متكرر، وهو عامل آخر يدفع الناس إلى الهلاك.. فالأكلُ والشربُ والخلودُ للنوم والاضطجاع، واللهو صيفًا وشتاءً، والسعيُ دائمًا للراحة والرغبات الجسدية؛ كلٌّ منها فرصة مهمة جدًّا يستغلّها الشيطان، في حين أن الإنسان لم يُخلق لهذا.. إنه بطبيعة الحال سيستفيد من بعض المتع في دائرة الشرع مثل الأكل والشرب، لكن الغاية المثالية التي سيظل المؤمن يركض وراءها دائمًا هي عبادة الله، ودعوة الناس للتوحيد والحق والحقيقة.
إن الشيطان بارع للغاية في اكتشاف نقاط الضعف لدى الناس، إنه يقترب من كل شخص وفقًا لحالته الخاصة. فمثلًا، إذا كان لدى شخص ميلٌ للحياة البوهيمية فإن الشيطان يفعل كل شيء حتى يجره إلى الخطيئة؛ إنه يمسكه فيخدعه بحججٍ كالتنزّه وتغير الجوّ إلى أن يسوقه للتجوّل في أماكن سيئة؛ ويهمس في أذنه بأن السباحة سُنَّةٌ نبوية إلى أن يطوفَ به الشواطئ واحدًا تلو الآخر، وفجأة يُعمي عينيه أو قلبه حتى ينخرط في البوهيمية دون أن يعي ذلك.
وبالطريقة نفسها عندما يجد الشيطان لدى الإنسان ضعفًا تجاه المال فإنه يشرع في استغلال نقطة الضعف هذه ليدفعه إلى الحرام ويسوقه إلى الأعمال غير المشروعة، ويجره إلى حيث يريد بواسطة الرَّسَن الذي أحكم لفّه حول عنقه، إن هذا وأمثالَه قد لا يدركون أن الشيطانَ هو الذي يقودُهم، ويعتقدون أنهم يقررون ما يُقرّرون بإرادتهم الشخصية، بل ويظنّون في بعض الأحيان أنهم يتجولون ويتحركون في المنطقة المشروعة؛ إلا أنهم في الحقيقة مساكين صاروا أُلعوبة في يد الشيطان منذ وقت طويل.
ومن أدوات الشيطان الأخرى إثارةُ شعورِ الحسد والغيرة.. والحسدُ هو “أن يتمنى المرء زوال النعمة عن غيره، وانتقالها إليه”، وقد قال سيدنا رسول الله صلى عليه وسلم: “إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ؛ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ“[5]، لينبّه بذلك كيف أن الحسدَ شعورٌ يجعل المؤمن خاسرًا، وقد رُوي عن الحسن البصري قوله: “ما رأيت ظالـمًا أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم، وحزن لازم، وغم لا ينفد”[6]، فإذا كان الشخص يشعر بالانزعاج من إنجازات الآخرين، فهذا يعني أن فيه قابلية للتفاعل مع حِيَلِ الشيطان.. فالشيطانُ المحترفُ في عمله الخاص لا يضيع استغلال نقطة ضعف كهذه؛ فيستثمر ما لدى الإنسان من ميل إلى الحسد بما يؤدّي في النهاية إلى تدميره.
حتى إن الغبطة والمنافسة اللتين لا حرج فيهما إذا ما استُخْدِمتا في الطريق المشروع يمكن أن تكونا أداة مهمة بالنسبة للشيطان، ذلك لأنهما جارتان ملاصقتان للحسد، بل إنهما يبدوان وكأنهما توأمه، إلا أنهما يأتيان بعده، والتنافس المشروع يعني: “إخوتي هؤلاء يركضون نحو الفردوس ركض الخيل الفتية بالأعمال الطيبة التي يقومون بها، فلنركض مثلهم دون أن نضر بهم، علينا ألا نتخلف عنهم في فعل الخير،كنا هنا معهم؛ وعلينا ألا ننفصل عنهم في الآخرة أيضًا؛ فالقرآن الكريم يقول: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/148)، ويقول أيضًا: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (سورة الْمُطَفِّفِينَ: 83/26)، لذا يجب على المؤمنين أن يتنافسوا في أعمال الخير.
لكن الشيطان غالبًا ما يريد أن يسيء استغلال هذا الشعور، فينشّطُ شعورَ الغيرة لدى الإنسان ويحوّل الغبطة إلى حسدٍ وعندئذ يبدأ الشخص يقول: “لماذا هو يركض؟ يجب أن أكون أنا من يركض بدلًا منه أساسًا”، بل إنه يحاول إعاقتهم، والإضرار بهم، وإرضاء إحساسه بالمنافسة من خلال لطمات يُنزلها على الآخرين، وفي كثير من الأحيان، لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يصبح عبدًا للانتماء، ولأنانية الجماعة، وهو أمر أكثر خطورة بالنظر إلى ما يُحدِثه من تدمير؛ لأن شخصًا كهذا يبدأ في اتخاذ موقفٍ تجاه الناس الذين ليسوا من طائفته أو من مذهبه.
إن شعورَ الحسد، وعدمَ تقبل الآخر، والتحزب هو الذي سبّب الفتن المختلفة التي بدأت في عصر سيدنا علي واستمرت لعدة عصور في تاريخ الإسلام، فقد تشكلت عشرات الجماعات مثل الخوارج والشيعة والزبيريين والأمويين والعباسيين، واتخذوا من الأشخاص الذين تجمعوا حول بعض الأفراد والأفكار جبهة ضدّ الآخرين؛ فتسببوا في حروب دموية.. ومَن تحرَّكَ منهم إيمانًا بفكرة: “سأكون أنا بدلًا منه في الإدارة”؛ جعلت كثيرًا من الناس يتقيؤون دمًا.. ولما أصبح المسلمون يأكل بعضهم بعضًا فيما بينهم، فقد سلط الله تعالى عليهم الكفار والظالمين؛ لأن الظالم سيفُ الله ينتقم به ثم ينتقم منه.
إن السبيل للتخلص من كل هذه المشاعر السلبية وعدم الانهزام لحيل الشيطان هو الإيمان القوي، والاستسلام لله، وسلامة القوام.. إذا كنتم قد استوعبتم الإيمان تمامًا فإنكم تستطيعون استيعاب أصعب الأشياء بإذن الله وعنايته.. وتقولون مثلما يقول الأستاذ بديع الزمان: “نحن فدائيو المحبة، ليس لدينا وقت للخصومة”[7]، وتعانقون البشرية جمعاء، بل إنكم حتى في مواجهة الأشخاص المجبولين على الشر ترجون لهم الإصلاح، وتسعون كي يتحقق السلام والهدوء في كل مكان، ولا تفكرون سلبًا بشأن الآخرين أبدًا.
***
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، ص 187.
[2] سنن الترمذي، تفسير القرآن، 83.
[3] ويقصد بهذا المصطلح ستة أنواع مختلفة من أعتى حِيَلِ الشيطان الخبيثة: حبّ الجاه والشهرة، والخوف، والطمع، والعنصرية، والأنانية والغرور، وحب الراحة والدعة، ولقد أورَدَها بالشرح والتفصيل بديعُ الزمان سعيد النورسي في المكتوبات، المكتوب التاسع والعشرين، القسم السادس، ص 505-529.
[4] سنن أبي داود، الأدب، 165.
[5] سنن أبي داود، الأدب، 44؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 22.
[6] ابن عبد ربه: العقد الفريد، 2/158؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 5/251.
[7] بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، ص 494.