صِفَتان في رَجُلِ التبليغ

صِفَتان في رَجُلِ التبليغ
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   سؤال: يقول ربنا سبحانه وتعالى في سورة “يس”: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (سورة يس: 36/21)، فما الرسائل التي يحملها هذا البيان الإلهي لرجال التبليغ اليوم؟

   الجواب: تتعرض القطعة الثانية من سورة “يس” إلى الحوار الذي دار بين أصحاب القرية، وقد أرسل الله تعالى إليهم رسولين فكذبوهما، فعزَّزَ الرسولَين بثالث؛ لكن وضعَ القرية لم يتغير، وواصَلوا كَيلَ الاتهامات للرسلِ بالكذب، وجرِّ الشؤمِ عليهم، وهدّدوهم بالرجم والعذاب والأذى إن لم ينتهوا عن دعوتهم إلى الله تعالى.

وفي تلك الأثناء جاءهم رجلٌ من “أقصى المدينة”، ويُفهم من هذا التعبير أنه كان يعيش في الطرف الآخر من المدينة أو أنه شريفٌ من الطبقة الأرستقراطية، فأوصاهم وقدَّمَ النصيحةَ لهم باتباع الرسل، وكان مبرِّرُه في ذلك أمرين، الأوّل: أن هؤلاء الرسل لم يطلبوا منهم أجرًا، والثاني: أنهم مهتدون.. وكما لم يُصرِّح القرآن الكريم باسمِ مؤمنِ آلِ فرعون الذي أسرع لنجدة سيدنا موسى عليه السلام فكذلك لم يصرّح هنا باسم ذلك الرجل الذي جاء أهلَ القرية ناصحًا، وترى أغلبُ التفاسير أن البلدة المذكورة هنا هي “أنطاكية”، وأن الرسل المبعوثين هم من حواريي سيدنا عيسى عليه السلام، وأن ذلك الرجل الذي جاء لنجدتهم هو “حبيب النجار”؛ لا سيما تفسير “حَمّامي زاده” (ت: 1846م) من علماء الدولة العثمانية، فقد جاء فيه معلومات مفصَّلة حول هذا الموضوع، وقد لاقى هذا الرأيُ نوعًا من القبول بين الناس، فضلًا عن ذلك يوجد في مدينة “أنطاكية” مسجدٌ يحملُ اسمَ “حبيب النجار” بالفعل، وبداخله ضريح يُنْسَبُ إليه.

والواقع أن القرآن الكريم لم يصرح بالزمان ولا بالمكان ولا باسم الشخص في هذه الآية؛ حتى يجذب انتباهنا في الأصل إلى الرسالة التي ينبغي التركيز عليها، ولذلك ليس من الصواب البتُّ في المسألة، ومن الضروري توخّي الحيطة والحذر في الأمور التي سكت عنها القرآن الكريم، فإن كان لا بدّ من تقديم تفسير أو تأويل فالأفضل هو ترك مجال النظر مفتوحًا فنختم قولَنا بعبارة: “والله أعلم”، ولا بد من تبنّي هذه النظرة عند النظر إلى الشروح والتأويلات المندرجة في التفاسير المتعلقة بأمورٍ لم يأت فيها نصٌّ صريحٌ في الكتاب والسنة، وبصرف النظر عما إذا كان هذا التفسير لـ”فخر الدين الرازي” (ت: 606هـ) أو لـ”البيضاوي” (ت: 685هـ) أو لـ”أبي السعود أفندي” (ت: 982هـ) أو لغيرهم فالأصلح هو تناول المسألة بحيطة وحذر، وتذييل الكلام بقول: “والله أعلم بالصواب”.. وكما أن الحَجْر على التفاسير الأخرى وضربَها بعرض الحائط فيه ما فيه من الوقاحة وسوء الأدب فكذلك ليس من الصواب اعتبار هذه التأويلات هي الحق والصواب القاطع، والأفضل إزاء مثل ذلك أن نقول: “فيه نظر”، وألا ننكرَ احتماليّةَ كونها صحيحة.

وبعد هذا الشرح الموجز لأصول التفسير لِنُلْق نظرة إلى كلمات “حبيب النجار” عن قرب، فبدايةً نجد أنه يستهل كلامه قائلًا لقومه: “يَا قَوْمِ”، وهي عبارةٌ يكتنفها اللين والشفقة؛ لأنه بهذه العبارة يكشف عن اهتمامه وعلاقته بقومه، ويومئ إلى أنه نشأ معهم في البيئة نفسها، وشاركَهم الثقافةَ عينها، وهو نفس الأسلوب الذي استخدمه الأنبياء مثل سيدنا نوح وسيدنا هود وسيدنا صالح وسيدنا موسى عليهم السلام مع أقوامهم؛ وهذا يعني أن أسلوب الخطاب عاملٌ مهمٌّ في قبول المخاطب للرسالة باستحسان واحترام.

بعد هذا الخطاب يقول: ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ (سورة يس: 36/20)، ولا يكتفي بذلك بل يوضح السبب قائلًا: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (سورة يس: 36/21)، ليلفتَ الأنظار إلى استغناء هؤلاء الرسل، وعدم تشوُّفهم للأجر، وكأنه يريد أن يقول: إن هؤلاء الرسل قد اجتازوا الطرق الطويلة، وتجشّموا كثيرًا من الصعاب، وعرّضوا أنفسهم للخطر؛ حتى يدّلوكم على طريق الصواب ليس إلا، ويبلِّغوكم الحقّ والحقيقة، ورغم ذلك لم يطلبوا منكم أجرًا مقابل قيامهم بوظيفتهم، ولم يطمعوا في أيِّ مقابلٍ مادّيٍّ أو معنويّ جزاء تقبّلكم للحقائق، بل ولم يسألوكم مكانًا يأوُون إليه ويرقدون فيه.

وكذلك لم يتشوّف هؤلاء الرسل إلى أيِّ مقامٍ مقابلَ تعريفِهم إياكم بربِّكم، وإرشادِهم إياكم إلى طريق الجنة، وتوجيههم لكم، بل وحتى لم يطلبوا منكم إعزازًا ولا تقديرًا ولا تصفيقًا ولا مكافأةً؛ ولذلك فإن إصغاءَكم لدعوتهم لن يعودَ عليهم بمنفعة، ولن يرجع عليكم بأيّ ضررٍ أو حرمان.

ثم يشير “حبيب النجار” بقوله: “وَهُمْ مُهْتَدُونَ” إلى أن هؤلاء الرسل يسيرون على الجادة وطريق الهداية، ويُفهم من ذلك أن هؤلاء الرسل قد كشفوا بمظاهرهم وأحوالهم وتصرّفاتهم وسلوكياتهم عن صورة بشرية مقنعة وموثوق فيها، فلم يرتكبوا إثمًا، ولم يقترفوا ذنبًا، ولم يتعرضوا لأحد بأذًى، وقد اطّلع أهل المدينة على سلوكياتهم، وتعرّفوا إليهم عن قربٍ، وشهِدوا على حَيطَتِهم وحَذَرهم.

بمعنى أنهم كانوا مؤمنين صالحين إذا رأيتَهم -كما جاء في الحديث الشريف- ذكّروك بالله؛ لأن التعبير باللسان فقط عن سيرهم على طريق الهدى لا يجدي شيئًا، فإن لم يكن أهل المدينة قد تعرفوا عليهم بالمعاملةِ والمعشَرِ لقالوا: “ما أدرانا أنهم على طريق الهداية؟!”، إن هؤلاء الرسل بالفعل قد خلَّفوا أثرًا وراءهم اتخذَ من خلاله “حبيب النجار” دليلًا على وجوب اتباعهم والاقتداء بهم.. وباختصارٍ فإنّ هؤلاء الرسلَ رغمَ ما كابدوه من معاناة طويلة إلا أنهم لم يتشوّفوا إلى شيء، ولم يسألوا الناس شيئًا.. ليس ذلك فقط، بل مع ذلك فقد أحسَنوا تمثيلَ الدعوة وتجسيدَها بمعيشتهم وأحوالهم.

ومما يلفت الانتباه أن كلمة “مُهْتَدُونَ” جاءت في جملة اسمية، ومن باب “الافتعال”، ومجيئُها في جملة اسمية يدل على الثبات والدوام، ويبين أنهم لم يغيروا من طَورهم وسلوكياتهم ألبتة، بل ظلُّوا دائمًا يسيرون على الهداية والاستقامة، أما مجيء اللفظ من باب الافتعال فيشير إلى أنهم جعلوا الهداية بُعدًا من أبعاد طبيعتهم، فمن الأهمية بمكان أن يكون الصدق والاستقامة جزءًا من طبيعة الإنسان، وأن يكتسب سمةَ الدوام والاستمرارية.

والواقع أن الحفاظ على الإخلاص والاستقامة أمرٌ صعبٌ لا يتيسّرُ للجميع، ولا شك أن الذين يمثلون أعلى ذرى الإخلاص هم الأنبياء، وكما أنهم لم يتشوفوا إلى أي أجرٍ مقابل قيامهم بوظيفة التبليغ فكذلك لم يفكّروا في أن يتركوا ثروةً من ورائهم؛ فقد ارتحل خاتمُ الأنبياء صلى الله عليه وسلم إلى أفق روحه ودرعُه مرهونة عند يهودي، ولم يترك لأزواجه الطاهرات إلا ما يكفيهن قوت يومهن.

وكذلك جعل الممثلون الصادقون لنهج النبوة الإخلاصَ وعدمَ التشوف للأجر مبدأً حياتيًّا لهم، ويمكن القول إن أعظم مَن مثّل هذا الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم الخلفاء الراشدون وسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، غير أن الكثيرين لم يمثلوا ذروة الإخلاص، ولكن حقّقوا نوعًا من الاستقامة والعدالة النسبية ، ولم يوفّقوا إلى تحقيق العدالة المحضة الحقيقية، فكان قبولهم بقدر قربهم من الحقيقة.

يقول الأستاذ النورسي رحمه الله في “المكتوبات”: “نحن مكلَّفون باتباع الأنبياء من أجل نشر الحق وتبليغه”[1]، ويذكرنا في هذا السياق بالآية التي تقول: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾ (سورة هُودٍ: 11/29)، وهي مدلول كلام “حبيب النجار”، والصوت والنفَس المشترك لجميع الأنبياء، ولهذا لم يقبل الأستاذ النورسي هدية من أحد، وفضلًا عن عدم قبول الهدية فقد عاش حياة بسيطة متواضعة، وكان يقدِّم كشفَ حسابٍ دائمًا عن معيشته، وبذلك جنّبَ نفسَه الطعنَ فيه والنَّيلَ منه، فلم يجرؤ أحد أن يقول: “لقد اشترى كذا، وأكل كذا، وجمع كذا، وقد كان يملك من الثروات في مكان كذا وكذا”، وبذلك أشار وعبّر في أبهى حلة وتمامِ جِدّيّةٍ عن إمكانيةِ وراثةِ دعوى النبوة.

إن السير على طريق الهداية، وعدم التشوف لأجر مقابل الخدمات المبذولة؛ من الأسس الحياتية المهمة بالنسبة لأبطال التبليغ اليوم، فالوظيفة التي تقع على عاتقهم اليوم هي أن يكونوا محتسبين غير متشوفين لأجر مهما كلفهم ذلك، حتى إنه ينبغي ألا تكون الغاية الأساسية من هذه الخدمات هي الفوز بالجنة أو النجاة من النار، وإن كان لا بد من طلب الجنة فلا بد أن يكون هذا أملًا في فضل الله ورحمته وكرمه، وكذلك النجاة من النار لا بد أن تكون مرهونة بمغفرة الله ورحمته الواسعة التي سبقت غضبه.

ولا يصح استغلال الخدمات المبذولة في سبيل الله في الحصول على شيء مادي أو معنوي، دنيوي أو أخروي، بل لو افترضنا محالًا أن مقام “الجيلاني” قد قُدِّم إليكم على صينية من ذهب، وقيل لكم: “هذا مقابل ما بذلتموه من خدمات”، فينبغي أن يكون ردُّكم: “إنَّ ربطَ الخدمات المبذولة بمقابلٍ مثل هذا لهو شيءٌ زهيدٌ جدًّا؛ لأننا لا نرغب إلا في رضا الله ومرضاته فحسب”.

وإن ماهية الفوز برضا الله، والوصول إلى المعية الإلهية لا علم لنا بها، ولا سبيل لنا أن نتنبّأ كيف سيظهر لنا ذلك في الآخرة، ولا نستطيع أن ندرك مدى الانشراح الذي سيُحْدِثه في قلوبِنا قولُ الله تعالى لنا: “إني راض عنكم”، ولا قدرَ اللذة العظيمة التي سنعيشها من فورنا عند حدوث ذلك، ولا صنوفَ النعيم التي ستُشعرنا بها هذه الكلمة، ولكننا نعلم انطلاقًا من الآية الكريمة التي تقول: ﴿وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/72)، أنه ليس هناك نعمة أعظم من رضا الله، ولذلك فإننا لا ننشد غيره.

أجل، يجب ألا يكون هدف الذين يسعون في طريق الخدمة الإيمانية والقرآنية سوى رضا الله تعالى فحسب، وألا يفكروا في شيء غير هذا، وألا يتخذوا خدماتهم وسيلةً لنيل مقام أو منصب أو شهرة أو أي مكاسب دنيوية، أو لإظهار أنفسهم، وأن يعبروا عن أفكارهم هذه في كل زمان ومكان، وأن يؤكدوا بكل الوسائل أنهم لا يسعون وراء الدنيا، ولا يطلبون إدارةً أو حكمًا، وليس لهم أية أغراض سياسية؛ لأننا في عصرٍ يعاني فيه كثيرون من الهوسِ وجنونِ العَظَمة ويتحركون وفقًا لأوهامهم، قد أسَرَتهم مطامعُهم، وجعلوا أفكارهم ومشاعرهم رهينةَ آمالهم وتطلُّعاتهم، ويظنُّون الجميع مثلهم، ولذا فثمة حاجة ماسة إلى أن نعبّر في كل مناسبة أننا لسنا هكذا، وأن نكذِّب ذلك عن طريق الفعلِ والحالِ أيضًا.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب الثاني، ص 15.