روحُ العمل الإخلاصُ

روحُ العمل الإخلاصُ
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا خَلَصَ لَهُ”[1]؛ فكيف لنا أن ندرك حساسية وشعور “الإخلاص في كلّ الأعمال” الذي جعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هدفًا يجدُرُ بالمؤمن أن يسعى للوصول إليه؟

الجواب: يجب على المؤمن الحقيقي المُحِبِّ لله تعالى أن ينشد رضاه عزّ وجلَّ في أفعاله وتصرّفاته كلها، وأن يحتقر نفسه أمامه سبحانه وتعالى دائمًا، وألّا يتفاخر ويتباهى قائلًا: “أنا قُلت كذا، أنا فعلت كذا، أنا أنجزت كذا… إلخ”، بل وينبغي له أن يمحوَ تمامًا من ذاكرته ما فعله، وعليه أثناء دعوته للحقّ والحقيقة بصفة خاصةٍ ألَّا يكون قوّالًا بل فعالًا؛ إذ إن المتحدّث باسم الحق والحقيقة يلزمه أن يُعبّر بكلامه عما في قلبه ووجدانه تعبيرًا حقيقيًّا، وعليه إذا ما بلغ مراده ألا يعزوَ إلى نفسه ولو مثقالَ ذرةٍ في نجاحِ ما قام به من أفعال.

كلمات سطحيّة لم تنبع من القلب

لا ريبَ أنّ وصولَ الإنسان إلى مثل ذلك الأفق والشعور لا يُمكن أن يتحقّق في لحظة واحدة، بل يلزمه أنْ يُدرِّب نفسه دومًا على احتقارها وتجاهلها لدرجة أنَّه يُوشكُ أنْ يتساءل في نفسه: “هل أنا موجود أو أنني غير موجود؟!”؛ فيصل مع مرور الوقت إلى مرحلة لا يرى فيها نفسه، وإلَّا فإنّ تأثير الأعمال الخيِّرة التي تحققت سينحصر في دائرة ضيقة للغاية ولن يتّسع أو يتكاثر، كما أنّه لن يُكتَب البقاء والدوام لتلك الخدمات حتى وإن بدت مُبهرة في أول الأمر.

إننا اليوم نرى الكثير الكثير من التلاوات القرآنية وشعائر الأذان والإقامة والصلوات التي تتم بصوت عذب، إلى جانب الأدعية والابتهالات التي تهيّئُ الناس لصلاة الفريضة.. وربما لم يكن يُمارَسُ في العصر النبوي الشريف إلا عُشرُ ذلك، لكننا اليوم نرى كلَّ مكانٍ يهتزّ ويرتجّ متأثِّرًا بدويّ وارتفاع أصوات الأذان التي تتردد صدّاحة من المآذن عبر مكبّرات الصوت، وثمة خُطَبٌ ومواعظ وأحاديث إرشادية تُلقى دائمًا على المنابر وتُبَثُّ على شاشات التلفاز.. إلا أن كلّ ذلك لا ينفذ إلى القلوب، بل ولا يؤثر فيها، وليست هناك قدرة على توجيه الناس إلى الله تعالى كما كان الحال في عصر السعادة، وما ذلك إلا لأن الكلمات الصادرة من الفم ليست نابعة من القلب ولم تحصل على تأشيرة منه، فإنْ كان الإنسانُ يتباهى بعظمة نفسه حتى وهو يقول اَللهُ أَكْبَرُ ويعبر عن ذلك بأصوات ونغمات معينة ويُبرز أثناء كلامه عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام كم أنَّه استطاع الحديث عنهما بشكل جيدٍ؛ فهذا يعني أنَّه يقع في كذب ضمنّيٍ في كلِّ كلامه هذا.

التعمّق في الإيمان

ومثل ذلك الموقف يُمثّلُ خطرًا حقيقيًّا بالنسبة لمن عشقوا خدمة الإيمان والقرآن، فإن كان ما حدث حتى اليوم هو مجرّد تطويف حول ظاهر المسألة وتعذَّرَ التركيز على جوهرها وَجَبَ علينا حينئذ أن نتوجّه إلى أنفسنا أولًا، ونُؤهِّلها من جديد في مسألة التعمق في الإيمان، وهذا ما تقتضيه أخلاق الصحابة ومنهجهم؛ فقد كانوا إذا ما التقوا ببعضهم البعض يقولون فيما بينهم: “تَعَالَوْا نُؤْمِنْ سَاعَةً”، “اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً”[2]، وهذا يعني “أنَّ إيماننا حتى تلك اللحظة كان ذا قيمة ومعنى، غير أننا لا نعلم إن كان سينفع مستقبلًا أو لا؟ ولذلك يجب علينا أن نراجعه مرة أخرى”، وإذا ما انتبهنا إلى قول الصحابة السالف الذكر نجد أنّهم ما قالوا: “تعال نؤمن من جديد”، بل استخدموا عبارة: تعالَ نؤمن ساعة“، “اجلس بنا نؤمن ساعة”، وهذا يطابق تمامًا وصيةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: جَدِّدِ السَّفِينَةَ فَإِنَّ البَحْرَ عَمِيقٌ[3]، وهذا يعني أنَّ ثمة إبحارًا إلى رحلةٍ جديدة سيتحقّق كلما طلعت شمسُ يوم جديد.

وكما أن الإنسان حينما ينوي الخروج في رحلة ما فإنه يتفحص سيارته بدءًا من محركها وحتى إطاراتها تحسُّبًا ودرءًا لما لا تُحمَد عقباه؛ فعليه كذلك أن يُصلح ما يحتاجُ إلى إعادة إعمار وتأهيل في مسؤولياته وواجباته تجاه الله تعالى ويجدّد إيمانه مرة أخرى بتركيز جديد؛ لأن مَنْ يُبحر في بحر هذه الحياة العميق للغاية معرّضٌ للغرق في أية لحظة، ناهيك عن أنّ ثمة رحلةً طويلةً تنتظره فتبدأ بحياة البرزخ وتنتهي بالجنة أو بالنار والعياذ بالله، ولذلك فإنَّه يجب على الإنسان أن يُحسن الاستعداد والأهبة حين ينوي الخروج في طريق كهذا لا يعرفه.

وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الذي ذكرنا بعضه آنفًا: واحْمِل الزَّادَ فَإِنّ العَقَبَة طَوِيلَة” يشير إلى رحلة طويلة جدًّا؛ لذا يلزم أن يكون الزاد الذي أعده الإنسان كافيًا لتلك الرحلة وجديرًا بأن يمكنه من اجتياز الصراط، ومن ثمَّ يدخل الجنة، فجسر الصراط المنصوب في الآخرة لا يشبه ما نراه من جسور الدنيا؛ فربما لا يتيسر اجتيازه من أقصاه إلى أقصاه في نَفسٍ واحدٍ وانطلاقةٍ واحدة، وإذا ما نظرنا إلى الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في هذا الصدد يتبيّن لنا أن تلك الرحلة ستكون مرتبطةً بما قدّمناه في حياتنا الدنيا من خيرٍ أو شرّ، ودخولُ الإنسان الجنة مرهونٌ باجتيازِه هذا الجسر.

وإلى جانب أهمية تَزَوُّدِ الإنسان بما سيحتاج إليه في تلك الرحلة الطويلة؛ فينبغي له أن يبتعد عن جميع الذنوب والأخطاء التي تثقل كاهله، وهو المعنى الذي عبَّر عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: وَخَفِّفِ الحِمْلَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعِيدٌ، أي إنَّ الإنسان ينبغي له أن يحرص على ألا يصطحب معه في رحلة القبر والبرزخ والمحشر والصراط ما يُثقِلُ كاهله من مسؤوليات وحسابات عديدة تجعله يتعثّر ويقع قبل نهاية الطريق.

ويختم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيته لسيدنا أبي ذر رضي الله عنه قائلًا: وَأَخْلِصِ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ، أي: اعملوا لله، والتقوا لوجه الله، واسعوا لأجل الله، ولتكن حركاتكم كلـها ضمن مرضاة الله، لله، لوجه الله، لأجل الله، لأنكم لا تَخفَونَ أبدًا على من يُقيّم تصرفاتكم ويحللها ويسجلها ويثيبكم عليها، فهو يراكم دائمًا، ولا يخفى عليه شيء من أمركم؛ فهو رقيبٌ عليكم بصيرٌ بكم.

محاسبة النفس دائمًا

إذًا يجب تناول الحياة الدنيا في هذا الإطار، فهذه المسألة لا تتحمل الذهول والغفلة والعصيان وتبلّد الحس، وكما قال “أَسْوَد بنُ يزيد النَّخَعيّ” من كبار التابعين وأحد أولياء الله الصالحين: “إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ”[4]، أي إن الأمر لا يُستَخَفُّ به ولا يُترَكُ للصدفة، وليس بسيطًا عاديًّا، لأن المسألة هنا تعني النجاة من عذابٍ أبدي أو الوقوع فيه، ومن ثمَّ يجب على الإنسان أن يُقَيِّم بهذا الوعي صلاته وصيامه وغير ذلك مما يؤدّيه من عبادات وطاعات، وأن يُحاسب نفسه باستمرار.

ومن هذا المنطلق فإنّ قولَ الإنسان حين يتحدث عن أية مسألة: “اللهم أنطِقني بالحقّ، واجعلني ممن يتفوهون به، اللهم اجعل كلامي نافذًا مؤثرًا، فتتلقّاه القلوب بحسن القبول”؛ يُمثِّلُ جانبًا من جوانب المسألة، كما أنَّ ثمة بُعدًا آخر؛ ألا وهو أنّه يجب العمل بكلّ إخلاصٍ على إنقاذ المسألة من براثن الأنانية، وألا ينفكَّ المرءُ عن الدعاء قائلًا: “اللهم وفّقني إلى قولِ ما تُحبُّ وترضى”، وبتعبير آخر: يجب عليه أن يتمثل الدعاءَ القرآني الذي تضرّع به موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ (سورة طَهَ: 25/20-28)، فيجعله لسان حاله ووردَه الدائم، ويجب عليه إلى جانب هذا أيضًا ألَّا يُهمل أبدًا أن يردفه بقوله: “مع رضاك يا رب”.

ممثلو الإخلاص الخالدون

وزيادةً في التوضيح نقول: يلزم الإنسان أن يكون جَسورًا متحمّسًا لأن يدعو الله تعالى قائلًا: “اللهم رسِّخ ما قُلتُه وفعلتُه وبقبولك إياه ورضاك عنه! اللهم أكسِبه أعماقًا ومعاني خالدة بنظرك وعنايتك له! وإلَّا فإنني عبدٌ فانٍ، ينقطع عملي عندما أنتقل إلى الدار الآخرة، ربّاه! هل يجدي نفعًا ما سأفعله يوميًّا من أفعال وأمور وإنْ بلغت المئات ما لم تكن أنت فيها، وهل تفيد شيئًا ما لم تحظَ منك بالقبول؟!”.

وبعض مَنْ يتظاهرون ويفتخرون بأنفسهم عبر التغنّي بالابتهالات هم “القوّالون” لا “الفعَّالون”، فلا بد من الانفتاح على الإخلاص والسعي إلى تحقيقه؛ إذْ لا يمكن قبولُ أيّ شيء غيرِ صادقٍ وخالٍ من الإخلاص، ويجب أن نطرح أرضًا كلَّ ما لم ينبع من القلب، فندوسه ونحتقره، إذ إننا اليوم في حاجةٍ إلى كثير من أمثال أولئك المخلصين الخالدين، لأنهم هم من سيُغيّر وجه الدنيا، ومع أنّ مَنْ يضطلعون بواجباتهم ووظائفهم مقابلَ شيء من الأجر والتقدير والتبجيل يُعتبرون وسيلةً لنهضة مؤقتة إلا أنه لم يُسجَّل أنهم أنجزوا شيئًا باقيًا راسخًا، وهذا يعني أن من يُديرون الأمور ارتباطًا بالمادية والتقدير والتبجيل والمصالح لن يستطيعوا لاحقًا أن يُخلِّفوا أعمالًا خالدة باقية كما لم يفعلوا ذلك بالأمس؛ حتى وإن كانوا أثروا تأثيرًا مؤقتًا.

إن اللاحقين الذين جاؤوا من بعد عهد النبيّ والخلفاء الراشدين كالأمويين والعباسيين والخوارزميين والأيوبيين والسلاجقة والعثمانيين قد قدّموا للإسلام خدمات كبيرة، أثابهم الله على كل ما قدموا، فاضطلع كلٌّ منهم بواجبه كممثّلٍ للعصر الوردي في مرحلةٍ زمنيّة معينة، ثم انتقل كلٌّ منهم إلى أفق روحه تاركًا خلفه ذكرى جميلة، غير أنهم مجتمعين لم يُحرزوا في أيِّ وقت قطّ ما أحرزه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين من نجاحٍ ولم يُوفَّقوا مثلهم، والسبب في ذلك هو إخلاص الخلفاء الراشدين وصدقهم الرائع المُحير النابع من أعماق الأعماق، والإنسانية اليوم ليست في حاجة إلى الشكل والصورة والشهرة والتقدير والتصفيق والدعاوى الطنانة الكبيرة، وإنما هي في حاجة ماسةٍ إلى الإخلاص في ممارسة الإسلام الحقيقي على وجه الأرض، وتمثيله بصدق وإظهاره حالًا لا مقالًا.

 

[1]الطبراني، المعجم الأوسط، 25/2؛ الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، 271/5.

[2] صحيح البخاري، الإيمان، 1؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 164/6، 170.

[3] الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، 339/5.

[4] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 103/2.