السلوك الإيماني في مكافحة الشرور

السلوك الإيماني في مكافحة الشرور
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: ما السلوك الإيماني في مكافحة الجور والظلم؟

الجواب: جاء الدين الإسلامي برسالة العدل والتوازن ليضع نغمات وألحانًا عالميّةً إزاء كل إفراطٍ وتفريطٍ، وهو في مكافحته للشرور لا يرضى بالمسكنة والسلبية التي تقبل الظلم وتخضع له، ولا يسمح أيضًا -بحجة مكافحة الظلم- بأيّ عنفٍ أو تجاوزٍ قد يفضي إلى جور وظلم آخرين، إن المؤمن حصنٌ منيعٌ وساعدٌ لا ينثني يتصدّى للظلم عند اللزوم، ويبذل وسعه لإقامة الحقّ دون خوفٍ أو توانٍ، لكن سلوكه على العموم هو المحو والتواضع الجمّ والشفقة واللين والرحمة بالجميع.

فمثلًا على المؤمن -إذا ما قام الأعداء بالاعتداء على شرفه وكرامته ووطنه وبلده وحرّيّته ودولته- أن يكون كالساعد الذي لا يُصرع والرأس التي لا تخنع، ويؤدّي ما عليه على أكمل وجه، ولكن إن انتهت الحرب، وجنح العدو للسلم، فليجعلْ من نفسه رجلًا للحلم والسلم، ويجنح هو أيضًا للسلم، ويسعى إلى معايشة جماليّات الإسلام وإحيائها في جوّ السلم والسلام؛ لأن أمر القرآن الكريم صريح في هذا الشأن: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 61/8).

وفي آيةٍ أخرى يشير ربُّنا تبارك وتعالى إلى هذه الخصائص التي يتحلّى بها المؤمن، فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 54/5).

وهذا يعني أن المؤمنين يخفضون أجنحة التواضع لإخوانهم المؤمنين، ويعاملونهم بلينٍ وتواضعٍ إلى حدّ الذلة، ولكنهم مع ذلك أعزاءُ على الكافرين والجاحدين، لا يخضعون لهم ولا يتذلّلون، وما أجمل ما قاله الشاعر الإسلامي “محمد عاكف”:

فلا تظنّنّني وإن كنت لينًا     أنّـي خـروفٌ آنس

ربـمـا تُقطـع عنقي     لكنها لا تنقادُ أو تُساسُ

إنه إنسانٌ ونموذجٌ كامل في العزة والكرامة، ولكن ينبغي أن أنبّه مرّةً أخرى أنّه لا بدّ من تعيين الموضع الذي يُتّخذ فيه هذان الموقفان.

“ألَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ”

إن البطولة خصلةٌ جميلةٌ للغاية، ومَن الذي لم يُعجَب بشجاعة سيدنا خالد بن الوليد وبطولته؟! فلم يمض على إسلامه سوى بضعة أيام حتى دَهِشَ الجميع لبطولته.

فعن سالمٍ عن أبيه قال: “بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ، مَرَّتَيْنِ”[1].

وفي واقعةٍ مشابهةٍ يقول سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما: “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى الْحُرَقَاتِ فَنَذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ قَالَ: أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا؟ مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ”[2].

ونفهم مما قاله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هاتين الواقعتين أن على المسلم أن يتوخّى دستور العدل المطلق حتى في ساحة الحرب.

العقل والدبلوماسيّة بدلًا من القوّة الغاشمة

من جانبٍ آخر: على المؤمن أن يضع في اعتباره أن الأمر لا يُحلّ دائمًا بالسيف والمدفع والبندقية حتى في محاربة الأعداء، وإذا ما لجأنا إلى القوّة الغاشمة في حلّ المشكلة؛ فإنّنا بذلك نؤجّج مشاعر الحقد والكره لدى الآخرين، وننزِل الأعداء منزلةَ المظلومين، وبذلك نُكسِبُ عدوّنا أنصارًا له، وفي النهاية تتفاقمُ المشكلة القائمة، وتستعصي على الحلّ، بيدَ أنه من الممكن إحراز نتائج هائلة باللجوء في حلّ المشكلة إلى الدبلوماسية لا القوة الغاشمة.

فمثلًا إنني شخصيًّا أحبّ السلطان “ياووز سليم” -جعل الله الجنة مثواه- حبًّا جمًّا، وأعتبره في مقدّمة السلاطين العثمانيّين، مع استثناء واحد أو اثنين منهم، ولكنني لا أتمالك نفسي إلا أن أستفسر بمنطقي القاصر عن بعض إستراتيجياته العسكرية: كان السطان “ياووز سليم” رحمه الله قويًّا في نفسه، كما كان وراءه جيشٌ من السواعد التي لا تُصرع، إذا ما أمره قائلًا: “أقبلوا على الموت”؛ لم يتردّد أحدٌ منهم في تنفيذ أمره على الفور، كان في مواجهته دولةُ فتنةٍ أقامها الفرس على أطماعهم وأضغانهم، دولةٌ كانت تمثّل خطرًا حقيقيًّا على العالم الإسلامي، فأغار عليهم من أجل الحفاظ على وحدة الإسلام ونظام العالم، فكانت له الغلبة عليهم، ولكن يا تُرى أما كان بإمكانه أن يلجأ إلى الطرق العقلية والمنطقيّة والدبلوماسيّة بدلًا من استخدام القوة الغاشمة؛ حتى يحول دون انتشار بعض الفتن التي ما زالت آثارها إلى اليوم؟، هذه هي ملاحظتي حول هذا الموضوع، فإن أخطأت فإنني ألتمسُ العفوَ من هذه الروح العظيمة، وإن اقترفت ذنبًا فأدعو الله أن يغفر لي، ولكنني أعتبر أنه من الضروري التأكيد على أهمّيّة العقل والمنطق والمحاكمة العقليّة والدِّبلوماسيّة.

تأمّلوا، منذ سنوات ولا نستطيع أن نتخلّص من حوادث الإرهاب في بلدنا تركيا، منذ ثلاثين عامًا والمشاكل ما زالت قائمة رغم اللجوء إلى الشدة والعنف، يا ترى أما كان من الممكن اتّخاذ سبيلٍ آخر للحيلولة دون هذا الأمر؟ أما كان من الممكن حلّ المشكلة لو أننا نَفَذْنا بمعلّمينا ورجالِ شرطتنا وأئمةِ مساجدنا وأطبائنا وإداريّينا إلى قلوب هؤلاء الناس؟

أما كان من الممكن حلّ المشكلة لو أنّنا انفتحنا على عوالمهم الداخلية، ودللناهم على طريق المدرسة والجامعة بدلًا من دروب الجبال الوعرة، وأتحنا الفرص والإمكانيات حتى لا يطمحون إلى الأموال التي يغدقها عليهم الآخرون في كلّ المناسبات؟ وهذا هو ما يعني استخدام اللغة الدبلوماسية، فالقوة الغاشمة كثيرًا ما تحول دون الاستخدام الأمثل للعقل والمنطق.

وإن اللجوء إلى منطق “يمكنني أن أضغط على هؤلاء بالقوّة على كل حال” قد يمنع من تتبّع الأساليب الإستراتيجية والسياسة البديلة.

“الذِلّةُ” انتظارًا للمنفعة ليست تواضعًا

إن كان العقل واللباقة والدبلوماسية والمحاكمة العقلية والقول اللين والأسلوب الرقيق يشكل جانبًا من المسألة في مواجهة الشرور، فإن الجانب الآخر هو الصمود في مواجهة القوّة الغاشمة الفظّة والوقوف والتصدّي لها بصلابةٍ دائمة، ومن هنا: فإن التذلّل للظالمين والمجحفين طمعًا في المنفعة والمصلحة ينبغي ألا يُخلط بينه وبين التواضع والتفاني؛ فهذا الموقف مختلفٌ تمامًا، ومما يؤسَف له أن القول اللين والحال اللين والأسلوب اللين التي يبدو كل واحد منها دينامية مهمّة جدًّا في سبيل الدعوة إلى الحقّ والحقيقة تستخدم في بعض الأحيان والمواقف كأَرْدِيَةٍ وأستار من أجل التزلّف والتقرّب إلى ممثلي القوة الغاشمة.

أجل، إن مقصد بعض الشخصيّات الضعيفة من التحلّي بالقول والأسلوب الليّن هو الانقضاض على منصبٍ معيّنٍ؛ إذ تراهم يتحرّكون وكلّ همِّهِم وشغلِهم الشاغل رفعُ مكانتهم ورصيدهم لدى الآخرين ونيلُ الاهتمام والعناية منهم أو حبُّ الجاه، ولا ينبغي لنا -أبدًا- إساءة الظنّ بأيّ إنسان بدعوى “أنك تُرائي أو تنافق في هذا الموضوع” بل إن بعض أصحاب الفراسة لا ينبغي لهم -وإن أدركوا النيّة الحقيقيّة المتوارية خلف تصرّفات تلك الشخصيّات الضعيفة وأطوارها- التصريح بهذا وكأنه حكمٌ موضوعيّ، وإن فعلوا فقد أذنبوا، وإن الله ليحاسبنّهم على هذا الذنب، بيد أنه ينبغي لكلّ شخصٍ أن يقيس تصرُّفاته ويزنها كلّها في وجدانه وضميره، ويحاسب نفسه بنفسه.

إن جميع المساعي والجهود المبذولة من أجل التصالح والتلاحم والتقاسم بين مختلَف قطاعات المجتمع لا شكّ أبدًا في أنها ستُكسب الإنسان الثوابَ والجزاء الحسن، إلا أنه إن حَدثَ وأُهينت الكرامة في بعض الأحيان وازدُريت رغبةً في تحقيق المصالح الشخصية، والوصول إلى المنصب والمقام، ونيل مراتب مختلفة، وجمعِ تقديرِ الآخرين وإعجابهم، والعيش في راحةٍ ورفاهية في الدنيا، وتذلل ّالإنسان في سبيل ذلك، وشَعر بالامتنان أمام الآخرين كان اسم هذا الفعل ” مذلة”.

المماشاة لصالح المجتمع

إلا أنه لا ينبغي الخلطُ بين التذلّل وبين الأسلوب والطريق الذي نسمّيه المماشاة والمداراة في حلّ المشكلات؛ فالمماشاة والمداراة: هي التصرفات المتّبعة من أجل إدارة الناس ومعاملتهم ومن ثمّ تكوينِ أرضيّةٍ ومناخٍ معيّن لتحقيق السلم وعدم افتعال نزاعٍ واشتباكٍ مع العدوّ، ويقول حافظ الشيرازي[3]

وراحة الأماني، تفسيرُها يدري

مَن للصديق يتمنّى، وللعدوّ يُدارى

فراحة العالمين في هاتين الكلمتين على السواء، وهما: “أن تستعمل المروءة مع الأصدقاء والمداراة مع الأعداء”[4]، ووفقًا لوجهة النظر هذه فإن التعزز في مواجهة العدوّ لا يعني اقتناص الفرصة كلّما سمحت من أجل نزالهم والدخول معهم في صراعٍ واقتتالٍ، ولا سيما حين ينتفي توازنُ القوى بين الفئتين المتخاصمتين فإن الدخول في مغامرة من هذا القبيل ليس إلا إلقاء الضعيف نفسَه بنفسِه في التهلكة؛ ولهذا السبب فربّما يكون من النافع والصالح التصرّف بلينٍ ورفقٍ من أجل مداراة الأعداء بهدف حماية حقوق مجتمعٍ بأسره حين ينتفي التوازن في القوى؛ لأنه لا فائدة ولا طائل مطلقًا من وراء تحريك وإثارة كلّ حسدٍ وحقدٍ وعداوة قد تؤدّي إلى وقوع أنواع متعدّدةٍ من الضرر، وإذا نظرنا إلى المسألة من حيث نظر إليها فضيلة الأستاذ بديع الزمان؛ نجد أن الإنسان المحاط بتسعةٍ وتسعين عدوًّا من المؤكد أنه -إن كان عاقلًا- لن يرغب في أن يتم عددهم مائة، بل إنه يفعل العكس فيحسب حساباته في كيفيّة تخفيض هذا العدد ولو واحدًا، وهكذا فإنه يمكنُ تناولُ جميع هذه الأمور في إطار موضوع المداراة وحسن التدبير.

 

[1] صحيح البخاري، المغازي، 58.

[2] سنن أبي داود، الجهاد، 104.

[3] حافظ الشيرازي (1320-1389م): هو شمس الدين محمد، أشهر شعراء فارس على الإطلاق، لا يعرف إلا القليل عن نشأته، له “ديوان” شعر مليء بالقصائد.

[4] ديوان حافظ الشيرازي، ترجمة: إبراهيم أمين الشواربي، تهران- 1999م، مهرانديس للنشر، ص 11-12 (62-63) غزل: 10.