الحماسة والوَلاء

الحماسة والوَلاء
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: ما هي الأمور التي يجب الانتباه إليها عند الحديث عن الأشخاص العظام الذين عرفْنا بهم الحقَّ والحقيقة، ومن ثم فإننا نحترمهم ونحبهم حُبًّا عميقًا؟

الجواب: إن القلوب المؤمنة بينما تسعى وتجهَد كي تفيض إلهامات أرواحها إلى صدور مخاطبيها قد تضطر أحيانًا إلى الحديث عن مجموعة من الجماليات الخاصة بالدائرة التي تعيش فيها. لكن في مثل هذه الحالة لا بد من أن يُوضع في الحسبان، وبشكل مطلق، الشعورُ العامّ لمن يسيرون في خط مختلف خارج هذه الدائرة. قد يتحدث غيرُنا عن الجماليات التي شاهدوها وعاينوها في دائرتنا ويكتبونها وفقًا لفهمهم وأسلوبهم الخاص، غير أن القلب المؤمن لا ينبغي أن يغلبه شعور الحماسة ألبتة، وألّا يستخدم عبارات مبالَغًا فيها قطعًا وإن كان حديثه عن أشخاص يحبهم لدرجة العشق ويحترمهم كثيرًا. ولا سيما إن كانت الأمور التي سيُعبّر عنها لا تَمُتُّ بِصلة مباشرة إلى روح الدين، وكانت مسائلَ فرعية ومن الوارد وقوع الاختلاف إذا ما جرى الحديث عنها؛ فلا بد إذًا من إظهار أقصى درجات الحساسية لنتجنب الخوض في مثل هذا النوع من الموضوعات.

فمثلًا؛ قد يرتبط أحدٌ بحضرة محمد بهاء الدين النقشبند ارتباطًا وثيقًا، لدرجة أنه -باعتبار حالته الروحية- لو كانت لديه ألف روح لضحّى بها جميعها من أجله رغبةً وحبًّا فيه. غير أن النقشبندية نفسها -إلى جانب غيرها من الطرق والمناهج الأخرى- لها شُعَبٌ مختلفة تتشعب إليها مثل: المجددية، والخالدية، والكفروية، والطاغية، وقد يكون بين هذه الشعب نوع من التنافس على نحو ما. والواقع أن التنافس ينبغي ألّا يعني مزاحمة الآخرين، بل التسابق في الحق بملاحظة “ألّا أتخلّفَ عن إخواني”. وبتعبير آخر ينبغي أن يكون التنافس هو طرزَ حركةٍ ومنطق سباقٍ مرتبطًا بفكرة “عليّ ألّا أبقى خارج الجنة بينما يدخلها إخواني، بل يلزم أن أدخلها معهم”. بيد أن الناس يختصمون حين لا يتناولون هذا الشعور بتوازن، وحين لا يحافظون عليه، أو يستعملونه استعمالًا خاطئًا. بل قد لا يقف الأمر عند هذا الحد، فيتحول الشعور بالمنافسة إلى شعور بالحسد والحقد، وهذا أمر خطير جدًّا بالنسبة لأهل الإيمان. وبهذا الاعتبار فإن القلوب المؤمنة ينبغي عليها، وبكل تأكيد، ألّا تربط المسألة بِـ”الانتماء” المتعصب حتى لا تُهيِّج وتثير نوازع حَسَد إخوانها الذين يعملون ويجتهدون في خطوط أخرى، وعليها أن تتحكم في مشاعرها من أجل تحقيق الوفاق والاتفاق بين المؤمنين.

أعلى المراتب

الصدق والولاء للأشخاص ليس هو الأصل، بل الأصلُ الصدقُ والولاء للفكرة المثالية التي يحاول أولئك الأشخاصُ تحقيقَها بكل ما يملكونه. وذلك لأن الأشخاص فانون والأفكار باقية، كما أنه ليس ثمة مرتبة أعلى من الصدق والولاء؛ ففي آيةِ ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/69) قُدِّم الصدقُ على الشهادة والولاية. فسيدنا أبو بكر الذي هو أعظم الناس مرتبةً بعد الأنبياء يُلقّب بِ”الصدّيق الأكبر”. وبهذا فليس المهمّ استخدامنا عبارات مبالغًا فيها بحق أولئك الذين نحبهم ونحترمهم، بل المهم هو السير بقدر المستطاع في الطريق الذي سلكوه واتباعهم في كل خطواتهم.

إلى جانب ذلك فإن من يدّعي حبّ شخص ما لدرجة العشق، فدعواه -في رأيي- غير صادقة إن لم يتأثر نفسيًّا كلما تذكّر ذلك الشخص، ولا يرفع يديه بالدعاء بعدما يصلي مائة ركعة في الليل قائلًا: “اللهم احشرني معه”، والأهم أنه لا يضحّي بما لديه في سبيل رسالة محبوبه. وبالطبع فإن هذا المعيار هو ما ينبغي على الإنسان مراعاته دائمًا بينما يحاسب نفسه ويسائلها. وإلا فما كان لنا أن نتّهم أحدًا بعدم الإخلاص والصدق.

هناك شيء لا بد من معرفته أيضًا وهو أنكم إن رحتم تتحدثون عن شخص ما بملاحم حماسية فإنكم حينئذ تستفزّون الآخرين دون أن تشعروا، وتتسببون في تكوين جبهات كثيرة ضده. حتى إن كلامكم وسلوككم وتصرفاتكم المبالغ فيها لا تقف عند حد تهييج القطاعات المعادية للدين فحسب، بل إنها قد تتسبب في إحداث تهييجات بمستويات مختلفة بين المؤمنين أيضًا. أجل، إننا حين نختزل القضية في الأشخاص ونضيّقها نكون قد دفعنا الذين يخدمون الإسلام في خطوط مختلفة إلى المنافسة والشحناء، وربما نتسبب في هلاكهم بذنب الحسد. وبهذا الاعتبار أقول مرة أخرى: ليس المهمّ ذكرَ مَن نحبّهم، إنما المهم هو الصدق والولاء التام لقضاياهم.

عباراتٌ تنطوي على مبالغات ضارّة تكاد تكون خيانة

وإنه لظلمٌ بيّن وإجحافٌ كبير أن ننسب كلَّ جميل إلى الرُّوّاد والموجِّهين، وننعتهم تبعاً لذلك بعبارات مبالغٍ فيها؛ لأن كلّ نجاح وكل فوز إنما هو إحسان من الله تعالى لروح الوحدة والتضامن. ومن ثمّ فإن عزْوَ كلّ الخدمات في سبيل الحق إلى الرُّوّاد والموجِّهين دون غيرهم قد يُفضي إلى الشرك بالله والعياذ بالله، فضلًا عن أنه ظلم كبير لجهود ومساعي هؤلاء الذين جاهدوا وثابروا في سبيل تحقيق هذه الخدمات الجليلة.

أما مسألة الرّيادة فعلينا ألا ننسى بداية أننا جميعًا إخوة، وقد يسبق بعضُنا بعضًا في الدخول إلى ميدان الخدمة بجَبْرٍ لُطْفِيٍّ من الله؛ بمعنى أن الله تعالى قدّر في اللوح المحفوظ مولد شخص ما في وقت مبكّر، ولا قِبلَ للإنسان بتحديد موعد مولده، فلا قيمةَ إذًا مطلقًا لمسألة التقدم والتأخر في الدخول في سلك خدمة الدين.

ولا جرم أننا نوقّر دائمًا كبارنا وعظماءنا إذعانًا لقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) “ليس مِنّا مَنْ لم يوقِّر كبيرنا ويرحم صغيرنا” (الترمذي: البر 15)؛ لكن ليس معنى هذا رفْعَ هؤلاء الكبار والعظام إلى درجات ينوء كاهلهم بها والحديث عنهم بعبارات مغالًى فيها. فمثلًا مَن عرف حقائق الإيمان على يدي شخص، ربما يعتبره قُطبًا من الأقطاب. ولكن إن غالى وآثر التعبير هنا وهنالك عن مشاعره بملاحم حماسية، فإنه بذلك خانَ الفكرةَ المثالية التي كان يسعى لتحقيقها هذا الشخص.

هناك إخوة لكم من الذين هاجروا إلى شتى بقاع العالم نجحوا في إنجاز خدماتٍ عظيمة، إلا أنّ نعتَهم بأسماء وألقاب مبالغة ورفْعَهم إلى أعلى عِلِّيِّين يُعدّ خيانة لـ”حركة المتطوعين” هذه، حتى وإن خلا هذا من الغرض والهوى؛ لأن هذا يتسبب في تكوُّن جبهات جديدة للحسد ممن لا يستسيغون وجودكم. ومَن ليس لهم معرفة بمعاييركم  قد يغالون في هذا الأمر، وليس بوسعكم تكميم أفواه الناس، إلا أن لكم وعليكم أن تحفظوا أفواهكم من العبارات المُغالى فيها وتعفّوا ألسنتكم من هذه الملاحم الحماسية.

إنني أرى هذا الموضوع بالغ الأهمية بالنسبة لمستقبل “حركة المتطوِّعين”. ولذا فأنا على اعتقاد بأنه لا بد من تنبيه وتحذير مستمرّ في هذا الموضوع، وإن شئتم فاعتبروه “واجبًا خِدميًّا”.

التوقيع بِـ”لا شيء”

ومن ناحية أخرى فمن الأهمية بمكان عند الالتقاء بمَن يبذلون خدماتهم على طُرق ومناهج أخرى أن نبدأ كلامنا بذكر الشخصيات التي تتبوأ منزلة كبيرة في قلوبهم وبذكر فضائلهم، ونتحدثَ عنهم بكل تبجيل وتقدير؛ لأن الاحترام والتقدير يقابَلان بالاحترام والتقدير. ولكن إن حصرتم فكركم وظللتم تتحدثون عن منهجكم فقط لحبكم الشديد له، فإنكم بذلك توسّعون الهوة بينكم وبين مخاطبيكم، وتتسببون في ردود فعل سلبية إزاء مسلككم. بيد أنه ينبغي للإنسان الذي يحبّ مسلكه ويرتبط به بحبّ وعشق عميقين وينشد احترام الآخرين وتوقيرهم للدائرة التي هو فيها أن يفكِّر جيدًا في سبيل تحقيق هذا: هل سبيلُه أن يقدِّم مَن هم في دائرته أم أن يتقبل الآخرين ويحترمهم ويقدّرهم؟

خلاصة القول أننا معشر المؤمنين وإن كنا في خطوط مختلفة في شارع خدمة الدين، فكلٌّ منا يحمل جانبًا من هذا الكنز الثمين السامي.

وليس من الصحيح أن يقول أحد: “إن هذا أو ذاك يحمل أثقل جانب من هذا الكنز”، لأن هذا يتسبب في إثارة مشاعر التنافس والتحاسد. إن كانت الحقيقة على هذه الصورة فسينال هذا الشخص أعظم ثواب في الآخرة لا شك فيه، ولكنا إن حاولنا تلميع صورة بعض مَن هم على منهجنا بعبارات مبالغ فيها، وقعنا في أوحال الشرك لِعَزْونا الإجراءات الإلهيةَ إلى العباد، وأفسدنا روح الوفاق والاتفاق. بيد أنه ينبغي لمن اتخذوا التوحيد غايتهم الأصلية وأعلنوا الحرب ضد الشرك ألّا يفسحوا المجال لتسرّب أي ذرة من الشرك إلى قلوبهم؛ لأن الله تعالى هو ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/102؛ وسُورَةُ الرَّعْدِ: 13/16؛ وسُورَةُ الزُّمَرِ: 39/62؛ وسُورَةُ غَافِرٍ: 40/62) ،﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 37/96)؛ هذا وانطلاقًا من أن الله تعالى هو الخالق لأفعالنا فعلينا أن نعلم أن نسبة الفعل إلى العبد كارثةٌ عظيمة حلّت على العالم الإسلامي من جرّاء الفلسفة الإغريقية، وعلينا أن نتخلص من هذا كله فنتشبث بشدة بالتوحيد.

ومن العوامل المهمة للوصول إلى التوحيد معايرة  الإنسانِ نظرتَه إلى نفسه أمام الله عز وجل. وفي هذا السياق تدركنا مقولةُ: “أيتها النفس المرائية، لا تغترّي بقولكِ: “أنا خدمتُ الدين”، فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: “إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ” (البخاري: الجهاد 182)، وبهذا السر عليكِ أن تعتبري نفسَكِ ذلك الرجلَ الفاجر، لأنكِ لستِ مُزكّاةً” (بديع الزمان، الكلمات، خاتمة الكلمة السادسة والعشرين). يؤكد صاحب هذه العبارات على مكانة نفسه، ويعتبر نفسه مجرد مَمَرٍّ للجماليات تمرّ به، لا مَظْهَرًا لها (الكلمات، الكلمة الثامنة عشرة)، ويعدّها لا شيء. إنه بعباراته هذه ليعطينا درسًا عظيمًا بصفته مُوجِّهًا ومعلِّمًا، فإن كان هو يصف نفسه ب”اللاشيء” فإنني أرى أن علينا أن نصف أنفسنا بـ”اللاشيء في اللاشيء”.